لماذا قانون جديد للخدمة المدنية في مصر؟
الدكتور/ طارق فاروق الحصري
قانون الخدمة المدنية هو القانون الذي ينظم أحوال العاملين المدنيين بالدولة، بداية من تعيينهم وتدريبهم وتقويم أدائهم وانتظامهم في العمل، وأيضًا ترقياتهم وإجازاتهم ونهاية الخدمة.
ويثور التساؤل: لماذا قانون جديد للخدمة المدنية في مصر؟ ونجد العديد من الأسباب لعل أهمها:
كثرة عدد التشريعات واللوائح والقرارات والكتب الدورية المنظمة للخدمة المدنية وتقادمها وتضاربها، وهو ما جعل مصر أشبه بغابة تشريعية، حيث يوجد بها 55278 تشريعًا ساريًا في فبراير 2016، (ما بين دستور وقانون ولوائح صادرة بقرارات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء والمحافظين والأوامر العسكرية التي تطبق حال تطبيق قانون الطوارئ)، وفقًا للجريدة الرسمية والوقائع المصرية، أيضًا نجد سوء الخدمات المقدمة من الجهاز الإداري للدولة، وعدم رضاء المواطنين عنها، بالرغم من أن عدد الموظفين في مصر بلغ 6.6 مليون موظف عام 2017، وبمعيار موظف مواطن نجد أن كل موظف واحد يخدم نحو 14.5 مواطن، وهو معدل من أعلى المعدلات في العالم. أيضًا نجد انتشار مظاهر الفساد في عدد كبير من الجهات الحكومية، ولعل المجهودات الدؤوبة والمخلصة من هيئة الرقابة الإدارية تؤكد ذلك، حيث لا يمر يوم بدون القبض على أحد الفاسدين بالجهاز الإداري للدولة، أيضًا من أسباب قانون جديد للخدمة المدنية غياب نظام موضوعي لتقييم أداء العاملين، وهو ما جعل أكثر من 95% من الموظفين يحصلون على تقدير ممتاز، وهو ما يؤكد فساد المقياس الذي يعطي هذه النتيجة في الوقت الذي يشاهد فيه المجتمع سوء الخدمات الحكومية، وعدم رضاء المواطنين عنها، أيضًا نجد نظام أجور معقد وغير واضح وغير عادل ويرسخ للتفاوت الشديد في الدخول حتي في الجهة الحكومية الواحدة، أيضًا نجد انتشار ظواهر التسيب وعدم الانضباط في العديد من الجهات الحكومية، ونجد كذلك المركزية الشديدة داخل الأجهزة الحكومية، ليس فقط في عاصمة الدولة، ولكن أيضًا في قطاعات أو إدارات معينة داخل كل وزارة، وكذلك نجد تعقد الهيكل التنظيمي الراهن، وتغول البيروقراطية، خاصة مع التوسع في الهياكل التنظيمية، واستحداث العديد من التقسيمات والمستويات الوظيفية دون الحاجة إليها، الأمر الذي أدى إلى تضخمه ومركزيته الشديدة وتعدد الإجراءات، (يبلغ عدد وحدات الجهاز الإداري للدولة نحو 2441 ما بين وزارات، وهيئات عامة، ومحافظات ومراكز ومدن وقرى ومديريات خدمات). وأصبح ينظر إلى المجتمع المصري باعتباره مفرطًا في الأعباء الإدارية، وتضارب الصلاحيات والمسئوليات، مع غياب الشفافية والمساءلة، مما أدى إلى انتشار مظاهر الفساد في عدد من الجهات الحكومية وخاصةً في التعيينات.
وهكذا خلصت غالبية الدراسات التي أجريت حول تطور المجتمع المصري إلى أن الوضع الراهن للجهاز الإداري يعد أحد المعوقات الأساسية في طريق تحقيق النهضة التنموية بالبلاد، ويقف حجر عثرة أمام السَّير قدمًا نحو تحقيق التقدم، وهو ما فرض ضرورة وجود إطار تشريعي جديد للجهاز الإداري للدولة.
من هذا المنطلق كانت الحاجة ماسة إلى وضع قانون للخدمة المدنية يقوم على فلسفة جديدة، ومغايرة تمامًا للفلسفة القائمة، فالهدف الأساسي للإصلاح هو إيجاد جهاز إداري كفء وفعال يتسم بالشفافية والعدالة ويخضع للمساءلة، ويعنى برضاء المواطن، ويحقق الأهداف التنموية للبلاد، ويتيح الخدمات العامة بعدالة وجودة عالية، مستندًا إلى مبادئ الحوكمة الرشيدة كأساس لنظام العمل، فالغاية هي خدمة المواطن، من هنا جاءت التسمية الجديدة للقانون "قانون الخدمة المدنية" بدلًا من التسمية القديمة "قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة"، وشتان ما بين المعنيين.
وقد تضمن المشروع الجديد الكثير من المبادئ التي تحقق الأهداف سالفة الذكر، وتقضي على الفساد، وترسخ آليات الموارد البشرية الحديثة.
وقد تضمن القانون العديد من الأمور المهمة، يأتي على رأسها أن يكون شَغل الوظائف العامة على أساس الكفاءة دون محاباة أو وساطة، وتكليف للقائمين بها لخدمة الشعب، وقيامهم بأداء واجباتهم في رعاية مصالح الشعب لمواكبة مكتسبات الثورتين، وفقًا للتكليف الدستوري.
ولهذا نصَّ القانون على أن يكون شغل الوظائف بمسابقة مركزية يشرف عليها الوزير المختص بالخدمة المدنية، وتتم المفاضلة بحسب الأسبقية في الترتيب النهائي لنتيجة الامتحان، وعند التساوي يقدم الأكبر في مرتبة الحصول على المؤهل المطلوب لشغل الوظيفة، ثم الدرجة الأعلى في المرتبة ذاتها، ثم الأعلى مؤهلًا.
وقد تم تعديل المسار الوظيفي للموظف ليبلغ عشرة مستويات يتم الترقية إليها بدلاً من ستة في الوضع الحالي، وكذلك تخفيض المدد البينية للترقية إلى ثلاث سنوات بدلاً من ثماني سنوات للترقية من الدرجة الثالثة إلى الثانية، وبدلًا من ست سنوات للترقية من الدرجة الثانية إلى الأولى، وهو ما يُضاعف عدد مرات علاوات الترقية للموظفين.
كما تضمن مشروع القانون بناء صف ثان من القيادات من داخل الجهات الحكومية، وذلك باستحداث وظيفة من المستوى الأول (أ (تُعادل الدرجة الأولى ومدير إدارة حاليًا، ويكون شَغلها بمسابقة ولمدة ثلاث سنوات، وتخول شاغليها جانبًا من الإدارة الوسطى بأنشطة الإنتاج والخدمات أو تصريف شئون الجهات التي يعملون بها، أو إدارة فرق عمل أو مجموعات من الموظفين لأداء مهمات متجانسة.
وفتح المجال لترقية الكفاءات بالاختيار في وظائف الخدمة المدنية، وذلك دون التقيد بالأقدميات بنسبة 25% من وظائف المستوى الثالث (ب)، ثم 30% من وظائف الثالث (أ)، ثم 40% من وظائف المستوى الثاني (ب)، ثم 50% من وظائف المستوى الثاني (أ)، ثم 100% لباقي المستويات.
وفى إطار الرغبة في تحقيق الاستقرار المؤسسي ورفع مستوى الكفاءة في تنفيذ السياسات، وتطبيقًا للاستحقاق الدستوري، فقد تم النص على إنشاء وظيفة واحدة لوكيل دائم للوزارة بالمستوى الأول لمعاونة الوزير في مباشرة اختصاصاته.
ولمنع تضارب المصالح والحد من انتشار الفساد، نص المشروع المقترح على أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يعمل موظف تحت الإشراف المباشر لأحد الأقارب من الدرجة الأولى في الوحدة نفسها، مع ضرورة التزام الموظف بمدونة السلوك الوظيفي، هذا فضلًا عن تدعيم سلطات وصلاحيات القيادات الإدارية بوحدات الجهاز الإداري، وذلك بمنحها سلطات أعلى لمقاومة الانحراف ومحاسبة المرؤوسين.
وتقديرًا من الدولة لمتحدِّي الإعاقة، تمت زيادة مدة الإجازة الاعتيادية إلى خمسة وأربعين يومًا بصرف النظر عن عدد سنوات الخدمة، وكذلك تمت زيادة مدة إجازة الوضع للموظفة إلى أربعة أشهر بدلًا من ثلاثة بأجر كامل، بحد أقصى ثلاث مرات طوال مدة عملها بالخدمة المدنية تنفيذًا للتكليف الدستوري بمراعاة المرأة العاملة.
وهكذا يتضح لنا أن مشروع القانون يهدف إلى تحسين مستوى الأداء الحكومي وتنمية أداء الموظف العام، والارتقاء بمستوى الخدمات العامة، جنبًا إلى جنب، مع مواكبة تغييرات العصر والقضاء على السلبيات الموجودة، وسد ثغرات الفساد، والعمل على تفعيل قدرات وطاقات العنصر البشري، وإعادة تأهيل وتدريب هذه الفئات بما يساعد على الحد من ظاهرة البطالة المقنعة من ناحية، ويساعد على رفع كفاءة الأداء في دولاب العمل الحكومي من ناحية أخرى، وذلك بالعمل على وضع أطر جديدة ونظم مختلفة تساعد على تطوير العمل، وهى كلها أمور كانت ولا تزال مطلبًا أساسيًا لجميع القوى السياسية والشرائح الاجتماعية.
وأخيرًا يمكن القول إن قانون الخدمة المدنية هو جزء من منظومة الإصلاح الإداري لمصر، وهو حلقة من حلقات برنامج الإصلاح الشامل في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الهادفة إلى تطوير الدولة المصرية لتصبح دولة عصرية قادرة على مواجهة التحديات العاتية دوليًا وإقليميًا، وهي كلها أمور تساعد على تمتع المواطنين بثمار الديمقراطية والتنمية عبر إصلاح المؤسسات والآليات، وهذا هو جوهر السياسات الجديدة للإصلاح الإداري المتعلقة بالاهتمام بتحسين جودة أدائه وخدماته وتحسين أوضاع العاملين به.
نشرت فى 30 أكتوبر 2018
بواسطة drelsawaf
Dr.maher elsawaf الأستاذ الدكتور محمد ماهر الصواف
نشرالثقافة الإدارية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية »
عدد زيارات الموقع
322,689