كنوزمن الصدقات الجارية

كنوز من الأحاديث الصحيحة ،والقرآن وأقوال السلف على شكل بطاقات لمشاركتها على المواقع

هذه قاعدة من القواعد القرآنية، تُوقِفُ العبدَ على شيءٍ من عظمة الله تعالى في خلقه وحِكمته في شرعه، وتُوقف العبد على قصوره في علمه.

وهذه القاعدة جاءت في سياق آيات الفرائض في صدر سورة النساء، والمعنى:

«﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ يعني: الذين يرثونكم من الآباء والأبناء ﴿لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ أي: لا تعلمون أيهم أنفع لكم في الدين والدنيا، فمنكم من يظن أن الأب أنفع له، فيكون الابن أنفع له، ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له، وأنا العالم بمن هو أنفع لكم، وقد دبَّرت أمركم على ما فيه المصلحة فاتبعوه» (*١*).

«ولو رد تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما الله به عليم؛ لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن، في كل زمان ومكان» (*٢*).

لقد كان أهل الجاهلية يقسمون الميراث بموازين غير منضبطة، فتارة يراعون حاجة الأبوين، وتارة حاجة الأبناء، وتارة يتوسطون، فجاء الشرع المطهر ليلغي تلك الاجتهادات، فتولى الله ﷻ قسمة المواريث بنفسه، ثم بيّن سبحانه في خاتمة هذه الآية الكريمة معنيين عظيمين يعزب عنهما علم البشر مهما بلغ في سعته، فقال ﷻ في خاتمتها:

١- ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ [النساء:١١]، وهي القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها.

٢- ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء:١١] فهذه فرائض يجب تنفيذها، وعدم الافتيات عليها بتحريف أو تقصير، وعلل هذا بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ ؛ ليزداد يقين المؤمن أن هذه القسمة صادرة عن علم تام، وحكمة بالغة، لا يمكن أن يلحقها نقص أو جور.

• من تطبيقات هذه القاعدة:

ولنحاول أن نطبق هذه القاعدة على واقعنا؛ لعلنا نستفيد منها في تصحيح بعض ما يقع منا من أخطاء في بعض تصوراتنا ومواقفنا الاجتماعية، فمن ذلك:

١- أن بعض الآباء قد تكون خَلْفته (*٣*) من الذرية بنات فقط؛ فيضيق لذلك صدره، ويغتم لهذا الابتلاء، فتأتي هذه القاعدة لتسكب في قلبه اليقين والرضا، وكم من بنتٍ كانت أنفع لوالديها من عددٍ من الأبناء! والواقع شاهدٌ بذلك.

أعرف رجلًا لما كبرت سِنه، كان أولاده بعيدون عنه في طلب الرزق، فلم يجد هذا الوالد -الذي خارت قواه، وضعفت بُنيته- أكثر حنوًا ورعاية من ابنته الوحيدة التي قامت بحقه خير قيام من جهة النفقة، والرعاية الصحية، وصدق الله: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ [النساء:١١].

هذا في الدنيا، أما في الآخرة فالأمر أعظم، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: أطوعكم لله ﷻ من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة، والله تعالى يُشَفِّع المؤمنين بعضهم في بعض (*٤*)، فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة رُفع إليه ولده، وإن كان الولد أرفع درجة رُفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم.

ومن المؤسف أن نسمع ونقرأ عن أناسٍ رزقوا عددًا من البنات، يتذمرون بل قد يهددون زوجاتهم إن هُنّ ولدنَ لهم إناثًا! وكأن الأمر بأيديهن، وهذا من الجهل -في الحقيقة- إذ كيف يلام إنسان على أمر لا طاقة له به؟

ويا ليت من يقعون في هذا الأسلوب يتأملون في أمور منها:

١- هذه القاعدة القرآنية: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ [النساء:١١].

٢- قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ۝ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [الشورى:٤٩-٥٠].

قال ابن القيم -معلقًا على هذه الآية-: «وكفى بالعبد -تعرضًا لمقته- أن يتسخط ما وهبه» (*٥*).

٣- ومما يحسن بمن ابتلي بالبنات أن يتذكره: الأحاديث الواردة في فضل من عال البنات ورباهن حتى يبلغن.

ومما يُذكر به المتضجر من الابتلاء بالبنات، أن يقال له:

٤- هب أنك ضجرت، وتذمرت، فهل هذا سينجب لك ذكورًا؟ صحيح أن أغلب الناس جُبِلَ على حب الذكور، لكن المؤمن ينظر إلى هذا الابتلاء بمنظار آخر، وهو: عبودية الصبر، وعبودية الرضا عن الله، بل قد ينتقل بعض الموفقين إلى مرتبة الشكر؛ لعلمه بأن خيرة الله خير من خيرته لنفسه، وأن الله قد يكون صرف عنه شرًا كثيرًا حين حرمه من الذكور أليس الله تعالى قد سلّط الخضر على ذلك الغلام فقتله، ثم علل ذلك بقوله: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۝ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ ؟! [الكهف:٨٠-٨١].

ومما يحسن ذكره في هذا المقام: أن الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله -وهو ممن ابتلي بالبنات ولم يرزق الذكور- كتب مقالًا، أكاد أجزم لو قرأه الذين ابتلوا بالبنات لم يتمنوا إلا ما هم فيه!

وكما أن الآية فيها سلوة لمن ابتلوا بالبنات؛ ففيها سلوة لأولئك الذين ابتلوا بأولاد معاقين، سواء كانت إعاقتهم سمعيةً أو بصريةً أو عقليةً أو بدنية، فيقال لهم: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة:٢١٦]، ويقال لهم أيضًا: والله إنكم لا تدرون أي أولادكم أقرب لكم نفعًا! فقد يكون هذا المعاق أقرب لكم نفعًا في الدنيا قبل الآخرة!

أما في الدنيا: فكم فتحت هذه الابتلاءات لوالِدَي هؤلاء المعاقين من لذة التعلق بالله، ومناجاته، ورجائه الفرج!

وكم ربّت هذه الابتلاءات في نفوس والِدَي المعاقين من معاني الصبر والاحتمال ما لم تكن تحصل لهم لولا هذه الابتلاءات! وكم... وكم...!!

وأما في الآخرة: فلعل أمثال هذه الابتلاءات بهؤلاء المعاقين تكون سببًا في رفعة درجاتهم عند الله تعالى، رفعةً قد لا تبلغها أعمالهم! 

ولئن كانت الآية واضحة المعنى في موضوع الابتلاء بالبنات، أو بأبناء فيهم عاهات أو إعاقات، فإنه يمكن أن يقاس عليها أمور أخرى، مثل: الأعمال الصالحة، والمؤلفات، والمقالات، والكلمات، بل والعبادات، فلا يدري الإنسان أي تلك الأعمال، والمؤلفات، والعبادات أكثر نفعًا له في الآخرة.

تأمل في سؤال النبي ﷺ لبلال -حينما سمع ﷺ خشْف (*٦*) نعليه في الجنة -: «أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام»؟ فقال بلال: إني لم أتوضأ ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الوضوء ركعتين! (*٧*)

تأمل كيف أنه لم يذكر بلالٌ جهاده مع الرسول، ولا التزامه بالأذان!

وهذا كله يدعو العبد لأن يكثر من أبواب الخير؛ فالإنسان لا يدري أي أعماله التي قد تكون سببًا في نيل رضوان الله والجنة، ولرُب عملٍ كبير لكن داخَلَه ما داخَلَه من حظوظ النفس؛ فلم ينتفع به صاحبه، ولرُب عمل قليل عَظُمت فيه النية، وصدق صاحبها مع الله فأثابه ثوابًا لا يخطر على باله، وفي قصة المرأة البغي التي سقت كلبًا أكبر شاهد على ذلك.

 

 

 

قواعد قرآنية للدكتور عمر بن عبد الله المقبل 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 11536 مشاهدة
نشرت فى 30 سبتمبر 2017 بواسطة djana

ساحة النقاش

fadila

djana
شعارنا قول النبي صلى الله عليه وسلم أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم نسعى لإدخال السرور عليكم ولو بكلمة طيبة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

145,979