هذه قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة، التي تجلي معنى عظيمًا ومهمًا في باب التسليم والانقياد لأوامر الله ورسوله، والانقياد لحكم الشريعة.
وهذه الآية الكريمة جاءت في سورة القصص، في سياق الحجاج مع المشركين، وبيان تنوع أساليبهم في العناد لرد الشريعة، ورميهم للنبي ﷺ بالعظائم، يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص:٤٨-٥٠].
والشاهد الذي نحن بصدد الحديث عنه، هو قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ .
وقد بين الله تعالى هذه القاعدة في موضع آخر، فقال ﷻ: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ (*١*).
يقول ابن القيم -رحمه الله- موضحًا هذه القاعدة: «فما هو إلا الهوى أو الوحي، كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٣-٤]، فجعل النطق نوعين: نطقًا عن الوحي، ونطقًا عن الهوى» (*٢*)، «فما لم يقله سبحانه ولا هدى إليه فليس من الحق، قال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ ، فقسم الأمور إلى قسمين لا ثالث لهما: اتباع لما دعا إليه الرسول واتباع الهوى» (*٣*).
«فمن ترك استجابته إذا ظهرت له سنة، وعَدَلَ عنها إلى خلافها؛ فقد اتبع هواه» (*٤*).
إن الحاجة إلى التذكير بهذه القاعدة القرآنية العظيمة من الأهمية بمكان، خصوصًا في هذا العصر الذي كثرت فيه الأهواء، وتنوعت فيه المشارب في التعامل مع النصوص الشرعية بدعاوى كثيرة: فهذا ينصر بدعته، وهذا يروج لمنهجه في تناول النصوص، وثالث يتتبع الرخص التي توافق مراد نفسه، لا مراد الله ورسوله!
لقد أتى على الناس زمانٌ لا يحتاج الشخص ليمتثل الأمر أو يترك النهي إلا أن يقال له: قال الله، قال رسوله، قال الصحابة، فيتمثل وينصاع، ويندر أن تجد من يناقش مناقشة المتملص من الحكم الشرعي، أما اليوم -وقد انفتحت على الناس أبواب كثيرة يتلقون منها المعلومات- فقد سمعوا أقوالًا متنوعة في المسائل الفقهية، وليست هذه هي المشكلة -فالخلاف قديمٌ جدًا، ولا يمكن إلغاء أمر قدره الله ﷻ- إلا أن المشكلة، بل المصيبة: أن بعض الناس وجد في بعض تلك الأقوال -التي قد تكون شاذةً في المقياس الفقهي- فرصةً للأخذ بها؛ بحجة أنه قد وجد في هذه المسألة قولًا يقول بالإباحة! ضاربًا عُرض الحائط بالقول الآخر الذي يكاد يكون إجماعًا أو شبه إجماع من السلف الصالح على تحريم هذا الفعل أو ذاك القول!
هذا فضلًا عن تلك المسائل التي تبين فيها خطأ قائلها من أهل العلم؛ بسبب خفاء النص عليه، أو لغير ذلك من الأسباب المعروفة التي لأجلها يختلف العلماء (*٥*)، ولئن كان ذلك الإمام معذورًا مأجورًا -لخفاء النص عليه أو لغير ذلك من الأسباب- فما عُذْرُ من بلغه النص عن الله أو عن رسوله؟! ثم بعد ذلك يدّعي أنه يسوغ له الأخذ بذلك القول لأجل أنه قد قيل به! مرددًا مقولةً كثر تكرارها على ألسنة هذا الصنف من الناس: ما دام أنني لم أخالف إجماعًا قطعيًا، ولا نصًا صحيحًا صريحًا، فلا حرج عليّ!! ناسيًا أو متناسيًا قواعد الاستدلال التي قررها الأئمة رحمهم الله.
أليس هؤلاء لهم نصيب من هذه القاعدة: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ ؟!
وهنا يَحْسُنُ أن يُذَكّرُ هذا الصنف من الناس بقول الله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة:١٤]، وهي قاعدة قرآنية محكمة، سبق شرحها.
كما ينبغي أن يُذَكّروا بالقاعدة التي جاءت في الحديث المشهور -والذي قواه بعض أهل العلم (*٦*)-: «البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر» (*٧*).
وهذا المعنى -الذي دلّ عليه الحديث- كما نبّه على ذلك العلماء: إنما يجده من بقي في قلبه بقية من نور لم تطمسها ظلمة الشهوات والشبهات! أما من هام في أودية الفسق والفجور؛ فإن قلبه لا يفتيه إلا بما تهواه نفسه!
وما أجمل ما حكاه ابن الجوزي عن نفسه، وهو يصف حالًا مرّت به، تُشبه ما نحن بصدد الحديث عنه -من أحوال بعض المترخصين اتباعًا لأهوائهم- يقول: «ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب، فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي نوع طرد عن الباب وبُعْدٌ، وظلمة تكاثفت! فقالت نفسي: ما هذا؟ أليس ما خرجتَ عن إجماع الفقهاء؟!
فقلت لها: يا نفسَ السوء! إنكِ تأولت ما لا تعتقدين، فلو استُفْتِيْتِ لم تفتِ بما فعلتِ، والثاني: أنه ينبغي لكِ يا نفسُ الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذلك؛ لأنه لولا نورٌ في قلبك ما أثر هذا عندك!» (*٨*).
لقد جرى لي مرةً حوار عارض مع بعض هذه الفئة، التي أخذت تخوض عمليًا في جملةٍ من المسائل المخالفة لما عليه جماهير العلماء، فقلتُ له: يا هذا! دعنا من البحث الفقهي المحض، وأخبرني عن قلبك: كيف تجده وأنت تفعل ما تفعل؟!
فأقسم لي بالله: أنه غير مرتاح! وإنما يخادع نفسه بأن الشيخ الفلاني يفتي بهذا، وهو في قرارة نفسه غير مطمئن لتلك الفتوى! فقلتُ له: يا هذا، إن العالِم الذي قال بهذه المسألة معذور؛ لأن هذا هو مبلغ علمه، ولكن انج بنفسك، فإن صنيعك هذا هو الذي قال العلماء: إنه تتبع الرخص، وذموا فاعله، بل جعلوا هذا الفعل نوعًا من النفاق واتباع الهوى، ولذا قال جمع من السلف: من تتبع الرخص فقد تزندق!
ومن تأمل كلمة الهوى في القرآن الكريم، لم يجدها ذُكِرت إلا في موطن الذم! ولهذا حذر الله نبيًا من خيرة أنبيائه من هذا الداء القلبي الخطير فقال: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص:٢٦]! فمن يأمن على نفسه من الهوى بعد ذلك؟
ولو أن رجلًا أخذ برخص الفقهاء من عدة مذاهب في مسائل متنوعة، لاجتمع فيه شرٌّ عظيم، ولأصبح دينه مرقعًا ورقيقًا!
وليتذكر المؤمن جيدًا -وهو يسلك مسلك تتبع الرخص- أنه إنما يفعل ما يفعل، ويترك ما يترك ديانةً لله، وقيامًا بواجب العبودية لهذا الرب العظيم، فكيف يرضى العبد أن يتعامل مع ربه بدين شعاره الهوى؟!
وقبل أن نختم الحديث عن هذه القاعدة العظيمة، يجب أن نتنبه لأمرين:
الأول: الحذر من تنزيل هذه القاعدة على المسائل الشرعية التي الخلاف فيها معتبر ومعروف عند أهل العلم.
الثاني: أن المقصود بالذم هنا، هو من اتبع هواه في الاستفتاء، بحيث يتنقل بين المفتين، فإن وافقت الفتيا ما في نفسه طبقها، وإلا بحث عن آخر حتى يجد من يفتيه، وهذا هو اتباع الهوى بعينه، نعوذ بالله من اتباع الهوى، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اتباع الحق رائدنا وغايتنا
قواعد قرآنية
ساحة النقاش