كنوزمن الصدقات الجارية

كنوز من الأحاديث الصحيحة ،والقرآن وأقوال السلف على شكل بطاقات لمشاركتها على المواقع

هذه قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة، التي تدل على عظمة هذا الدين، وسموِّه، وعلو مبادئه.

إن هذه الآية العظيمة جاءت في سورة الحجرات، وإن شئت فسمها: جامعة الآداب، فبعد أن ذكر الله تعالى جملةً من الآداب العظيمة، والخلال الكريمة، ونهى عن جملة من الأخلاق الرذيلة، والطباع السيئة، قال الله بعدها -مقررًا الأصل الجامع الذي تنطلق منه الأخلاق الحسنة، وتضعف معه أو تتلاشى الأخلاق السيئة، وأنه معيار التفاضل والكرامة عند الله-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:١٣]، إنها لآية عظيمة، تبرز ميزان العدل الذي لم تظهر تفاصيله كما ظهرت في هذا الدين.

لن يتبين لك موقع هذه الآية الكريمة إلا إذا استعرضتَ في ذهنك شيئًا من الموازين التي كان يتعامل بها عرب الجاهلية في نظرتهم لغيرهم من غير قبائلهم، سواءٌ كانوا من قبائل أخرى أقل منهم درجة في النسب، أو في نظرتهم للأعاجم، أو في تعاملهم مع العبيد والموالي!

وإليك هذا الموقف الذي وقع في حياة النبي ﷺ وحدّث به الصحابي صادق اللهجة: أبو ذر -رضي الله عنه-: روى الشيخان من حديث المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة، وعليه بُردٌ وعلى غلامه مثله، فقلنا يا أبا ذر: لو جمعتَ بينهما كانت حلة، فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية فعيَّرتُه بأمِّه، فشكاني إلى النبي ﷺ، فلقيت النبي ﷺ فقال: «يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية»! قلت: يا رسول الله، من سب الرجالَ سبوا أباه وأمه، قال: «يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»! (*١*) فهذا أبو ذر مع صدق إيمانه، وسابقته في الإسلام، لامَه النبي ﷺ، وعاتبه لما خالف هذه القاعدة القرآنية العظيمة، وعيّر الرجل بمنطق أهل الجاهلية!

وليس هذا الموقف الوحيد الذي ربّى فيه النبي ﷺ على الاهتداء بهدي هذه القاعدة، بل كررها بعدة أساليب بيانية وعملية، ولعلي أكتفي بهذين الموقفين الذَين لا يمكن أن تنساهما العرب ولا قريش أبد الدهر:

أما الموقف الأول:

فهو يوم فتح مكة، حين أمر النبي ﷺ بلالًا أن يصعد فوق الكعبة ليرفع الأذان، في مشهد ما ظنّ بعض مُسْلِمةِ الفتح أن يعيش ليرى هذا العبد الحبشي يقف كهذا الموقف! ولكنه الإسلام، والهدي النبوي الذي يربي بالفعل والقول.

وفي ذات اليوم -فتحِ مكة- يدخل النبي ﷺ الكعبةَ ويصلي فيها، ولك أن تتفكر من هي الشخصيات المتوقعة التي حظيت بشرف مرافقته في دخوله هذا، والذي أغلق عليه الباب بعد دخوله، ومن معه؟! لعله أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-؟ كلا، إذن: لعله صهره وزوج ابنتيه ذي النورين: عثمان، وابن عمه علي -رضي الله عنهما-؟ كلا، إذن: لعله دخل بعض مُسلمة الفتح من أكابر قريش؟ كلا، بل لم يدخل معه سوى: أسامة بن زيد -مولاه ابن مولاه- وبلال الحبشي، وعثمان بن طلحة المسئول عن مفتاح الكعبة! (*٢*)

الله أكبر! أي برهان عملي على إذابة المعايير الجاهلية أكبر من هذا؟ مع أن في الحضور من هو أفضل من بلال وأسامة -كالخلفاء الأربعة، وبقية العشرة المبشرين-!

وأما الموقف الثاني:

فإنه وقع في أعظم مشهد عرفته الدنيا في ذلك الوقت… إنه مشهد حجة الوداع، ففي بعض مشاهد تلك الحجة، وبينما الناس مستعدون للنفير من عرفة، وإذا بالأبصار ترمق الدابة التي كان النبي ﷺ يركبها، ويتساءلون: من الذي سيحظى بشرف الارتداف مع النبي ﷺ؟ فلم يرعهم إلا وأسامة -ذلك الغلام الأسود: مولاه وابن مولاه- يركب خلف النبي ﷺ والناس ينظرون!

فعل هذا النبي ﷺ وهو الذي خطب في ذلك اليوم خطبته العظيمة التي قرر فيها أصول التوحيد والإسلام، وهدم فيها أصول الشرك والجاهلية، وقال كلمته المشهورة: «إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي هاتين موضوع».

هذان الموقفان قطرة من بحر سيرته العطرة ﷺ! 

أما سيرة أصحابه -رضي الله عنهم- والتابعون لهم بإحسان فالمواقف فيها كثيرة وعظيمة، أكتفي منها بهذا الموقف الذي يدل على نبلهم وفضلهم، وشرف أخلاقهم حقًا، الذي جعلهم أهلًا لأن يكونوا خير من يمثل عالمية الإسلام وعالمية الرسالة:

كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم -المعروف بـ: زين العابدين، وهو من سكان مدينة النبي ﷺ- إذا دخل المسجد، يتخطى حِلَق قومه من قريش، حتى يأتي حلقة زيد بن أسلم -وهو مولى لكنه من علماء المدينة الكبار في زمانه- فيجلس عنده، فكأن بعض الناس لامه: كيف تجلس -وأنت الرجل القرشي وحفيد النبي ﷺ- عند رجل من الموالي؟ فقال كلمة ملؤها العقل: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه (*٣*).

إن من عظمة هذا الدين أنه لم يربط مكانة الإنسان ومنزلته عند الله بشيء لا قدرة عليه به، فالإنسان لا يختار أن يكون شريف النسب، وإلا لتمنى الكل أن يتصل بالسلالة النبوية! ولم يربطه بطول ولا قِصَر، ولا وسامة ولا دمامة (*٤*)، ولا غير ذلك من المعايير التي ليست في مقدور البشر، بل ربطه بمعيار هو في مقدور الإنسان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وليس في كتاب الله آية واحدةٌ يَمدح فيها أحدًا بنسبه، ولا يَذُمُّ أحدًا بنسبه، وإنما يمدحُ الإيمانَ والتقوى، ويذمَ الكفرَ والفسوقَ والعصيان» (*٥*).

ومما يشهد لما قاله شيخ الإسلام: أن الله تعالى أنزل سورة كاملة في ذم أبي لهبٍ لكفره وعداوته للنبي ﷺ، ونهى اللهُ نبيّه ﷺ أن يطرد المؤمنين من ضَعَفة أصحابه، وإن كان القصدُ من ذلك: الرغبة في كسب قلوب أكابر قريش، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام:٥٢]، وقال له في الآية الأخرى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف:٢٨].

إن مما يؤسف عليه -في واقعنا المعاصر- وجود أمثلة كثيرة مخالفة لهذه القاعدة الشريفة: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ تمثلت بصور من عودة العصبية الجاهلية للقبيلة، والتي لم تتوقف عند حد التعارف بين أفراد القبيلة الواحدة فحسب، ولم تتوقف عند التمادح المباح، بل تجاوزت ذلك إلى الغلو في المدح، والموالاة المفرطة للقبيلة، بل والتلويح تارة بنبز القبائل الأخرى، والتي ذوبانِ المعايير الشرعية عند البعض بسبب هذه الأساليب التي كرسها وعزز من حضورها المسابقات الشعرية التي تبنتها بعض القنوات الفضائية، والتي ترتب عليها محاذير شرعية أخرى ليس هذا موضع ذكرها، وإنما الغرض الإشارة إلى مخالفتها إلى ما دلت عليه هذه القاعدة القرآنية الكريمة، فليتق الله من يسمع ويقرأ قول ربه: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ من التفاخر المذموم، وليعلم المؤمن أن من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه.

نسأل الله تعالى أن يعيذنا من أخلاق أهل الجاهلية، وأن يرزقنا التأسي برسوله ﷺ في جميع أمورنا.

 

 

 

قواعد قرآنية : للدكتور عمر بن عبدالله المقبل 

المصدر: كتاب 50قاعدة قرانية
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 285 مشاهدة
نشرت فى 28 سبتمبر 2017 بواسطة djana

ساحة النقاش

fadila

djana
شعارنا قول النبي صلى الله عليه وسلم أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم نسعى لإدخال السرور عليكم ولو بكلمة طيبة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

179,093