في صِغري كنت أذهب مع أقاربي الى مولد كان ينعقد كل جمعة بجوار ضريح في قرية من قرى القليوبية المليئة بالأضرحة كنا نذهب لنلهو ونلعب .
في سنة 1976 كنت في الصف الثاني الثانوي
كان لي زميل يحب القراءة في الكتب الصوفية أهداني كتاب "مكاشفة القلوب" للإمام الغزالي قرأته فخرجت منه بفكرة حب الأذكار والعزلة وأصبحت أحلم بهذه العزلة بعيدا عن العمران والناس والانشغال بالعبادة.
ظلت هذه الفكرة شاغلا لي .تجيء أحيانا فتمضي معي اياما تصحبني طول الوقت حتى في المذاكرة فاضطر الى مناقشتها وإلى أن أقول لنفسي: هيا بنا الآن للننفذ الفكرة وهنا تهرب الفكرة وتتبخر فأفيق منها وانشغل بما أنا فيه .
ولما تكررت الفكرة وتكرر تعاملي معها بهذه الطريقة حسمت الأمر بأ نها فكرة خيالية ومستحيلة.
وكان لي صديق تعرَّف على موظفٍ مغتربٍ يصلي معنا في المسجد وكان رجلا هادئا طيبا
فعرَّفني عليه فكنا نلتقي في صلاة العشاء فيوصينا بكثرة ذكر الله ويقص علينا من كرامات الأولياء ويَعِدنا بأن يعطينا العهد "عهد الطريقة" عندما نتأهل لذلك ونواظب على الأذكار الكثيرة التي علمها لنا لنرددها عقب كل صلاة وعند النوم على أن ننام على وضوء .
كانت صحبتنا لهذا الرجل جميلة تمتعنا فيها بروحانية عالية خصوصا ونحن نطلب بهذه الروحانية أن نرتفع الى درجة هؤلاء الأولياء وقد ساعدتني هذه الروحانيات كثيرا في التغلب على صعوبة صلاة الفجرفي المسجد كما كنا نتمتع بصفاء نفسي جميل ونشعر بالقرب من الله تعالى ونأمل في الوصول لشيء مما يرويه الشيخ من علامات مثل رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام كغاية عليا نرجوها.
إلا أن فترة حبنا وصفائنا من جهة الشيخ لم تطُل حيث عكَّرتها بعض الأمور بل أنهتها .
كان من العجيب أن صديقنا الذي عرَّفنا به هو أول من انقلب عليه حيث أخبرنا أنه طلب منه جهاز "راديو" رآه في بيتهم أثناء زياراته المتكررة وأنه غضب حين لم يوافقه على أخذه وأنكر عليه إذ "كيف يبخل على عمه في الطريقة بشيء كهذا" فبدأنا نشعر أن مابيننا لا يتعلق بالدين بل هناك مطامع دنيوية أكدَّتها تصرفات أخرى للشيخ غفر الله له.
لم تكن هذه الرواية وحدها التي عكَّرت علاقتنا بالشيخ بل اجتمع عليها أن أحد الأصدقاء أخبرني أنه سيأخذ الشيخ ليحل مشكلة في بيتهم للوصول الى مفقودات عن طريق التعاويذ أي أن المسألة ليست عبادة وأذكارا وإنما فيها نوع من الاتصال بالجن .
زاد القلق تجاه الشيخ عندما ضاق بعلاقتنا بشيخ الأوقاف: وقال هؤلاء علماء شريعة ونحن علماء حقيقة والعم الذي معنا هو ماعلمه الله للخضر بلا قلم ولاكراس وهو العلم اللدني كما قال الله تعالى "وعلمناه من لدنا علما" الكهف كما أن هؤلاء العلماء ليست لهم ورود أي "أوراد" يذكرون الله بها و" فقها بلا ورود مواجير مكفيِّة" أي مقلوبة فارغة؛ بينما لم يكن لدى الشيخ علم يضيفه لنا سوى حكاياته التي حفظناها عن كرامات الأولياء، كما أننا حاولنا إقناع الشيخ بالإقلاع عن التدخين لكنه تعلل بعدم قدرته على الامتناع عنه قتعجبنا لذلك.
هذه الأمور جعلتني أرجع إلى أستاذي في الابتدائية رحمه الله لأسأله عن رأيه في الصوفية فقال: الصوفية خمول وترك للعمل .
ومما عكَّر علاقتي بالشيخ ـ غفر الله له ـ أنه لم ينتبه إلى عمرنا فقد كنا طلبة في الصف الثانوي يعني مابين 16ـ 18 سنة لانملك تصرفاً في شيء من بيوتنا ورغم ذلك يضعنا في مواقف حرجة بِطلبِ شيءٍ يضعنا في مواقف حرجة مع أهلنا.
كما لفت نظري أن الشيخ يفتخر بعلاقته بأهل الأموال والمناصب ويذكر ماتمتلكه العائلة عند تعريفه أحدنا لزملائه.
كانت هذه الأمور التي ذكرتها تضيف حاجزا بيننا وبين الشيخ كل يوم وتزيد العلاقة فتورا كلما شعرنا بأن لقاءنا بالشيخ لاجديد فيه سوى ما نشأ بيننا من عُرفٍ أن نذهب للعشاء عند أحدنا بالتناوب تلبية لرغبة الشيخ ثم نسمع حديث الكرامات هو هو بغير إضافة.
كانت هذه أول تجربة لي مع أحد مُدَّعي التصوف وقد هالني وجود علاقة بين التصوُّف وبين الاتصال بالجن والشعوذة .
لكنني استفدت من هذه التجربة فيما بعد كثيرافي طريق الدعوة فقد أذاقتني حلاوة الأذكار وعلمتني الصبرعليها وعلى العبادة والمداومة عليها خصوصا أذكار بعد الصلاةكما استفدت معرفتي بشيء عن التصوف المعاصر، وكان هذا مُفيدا قبل أن أتعرف بعدها على شباب الصحوة الاسلامية .
أما تجربتي الثانية فقد كانت أيضا مع رجل من قرى الداخلة وتعرَّف على صديقٍ لي وكان في ليلة ينتظرني فلما ذهبتُ وجدتهما جالسَين فقال لي صديقي: اجلس، وقال الرجل: سوف تشعر بالدفء إذا جلست وبالفعل جلست وشعرت بدفء عجيب. ثم عرَّفني صديقي بالشيخ وأخذ يكلمنا عن ذكر الله وفوائده حديثا بسيطا جذاباً، وهكذا أصبح يلتقي بنا ويلقننا أذكارا نقولها عند المُلِمات بعض هذه الأذكار لم يكن من السُّنة النبوية مثل: "أحمى حميشا أطمى طميشا ... وأوصانا بقراءة سورة يس قبل أن نجلس للمذاكرة فواظبنا عليها.
بعد أيام كنا نقف خارج المسجد فمرت أمامنا سيارة كبيرة "لوري" وأطلقت صافرة وصوتا مرعبا وإذا بالرجل يضطرب ثم يتوجه نحوها وينبح مثل الكلب تماما لاأقول يصدر صوتا كصوت الكلب بل ينبح . فأصابنا الذهول وبعدها علمت أن الشيخ "يعرف"! أي يستعين بالجن في حل بعض المشكلات مثل الوصول للمفقودات. فمن جديد ظهرت علاقة بين ادعاء التصوف وكثرة العبادة وبين الشعوذة .فافترقنا تماما.
وبعدها تعرفت على شباب الصحوة الاسلامية وقرأت في كتب العقيدة وانتقلت الى فهمٍ مختلف للدين حيث صحة العقيدة بالعلم والتربية والتزكية كوسيلة للانطلاق والعمل والدعوة الى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ثم اتضحت الغاية واتضح أن العبادة وتذوق الفكر والذكر وسيلة لاغاية وأن الغاية هي مرضاة الله وليست الوصول الى شيء ما في الدنيا وقد أعجبني معنى لابن القيم رحمه الله: فمن توهم أنه يمكن أن يصل الى شيء في الدنيا مثل رؤية الله أو رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم عيانا في اليقظة أو غير ذلك فهو واهم فلايوجد غاية تتحقق في الدنيا من العبادة غير اليقين . كما قرأت معنى لابن القيم أن العلم ما جاء في الكتاب والسنة فهذاعلم من لدُنِ الله تعالى وأي علم في الشريعة لايعتمد على الكتاب والسنة فهو علم لدنِّي ولكن من لدن الشيطان وليس من لدن الله
كما قرأت له أن التوكل على الله يصرفه العبد ويستعمله في الدعوة الى الله ونصرة الدين وإحقاق الحق وإبطال الباطل كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ففهمت أن التوكل قوة تثمر حركة في سبيل الله وليس العكس تدعو للقعود والسلبية والتواكل .
غير أني استفدت حب القراءة في كتب الرقائق خصوصا لابن القيم والاهتمام بالقلب والتفكر
وقد لفت نظري قلة اهتمام كثير من الدعاة بالتربية.
كما أنني خلصت إلى أن معظم العلماء الذين نشر الله علمهم أصحاب قلوب وأحوال وعبادة وصلة بالله وأنهم كانوا يهتمون بهذا الجانب الى درجة كانت هي السر في ثباتهم وتوفيقهم ثم قبولهم ونشر علمهم ولن تقرأ سيرة أحد من أئمة العلم إلا واهتمامه الأكبر كان بالرقائق والذكر والعبادة والدعاء والأحوال مع الله . وأولهم الأئمة الأربعة واعجبتني قصة الرجل الصالح الذي مشى مع شاب في حاجة له ثم كان ينزل عند كل مسجد يصلي ركعتين فلما قضيت الحاجة قال للشاب: لعلك يابني كنت تستأخر وتضيق كلما نزلت وصليت فلولا استعانتنا بالله ماقضيت الحاجة ،
كما أن علمي بان من الصوفية قديما من كانوا مجاهدين في سبيل الله جعلني أصل إلى أن المحرك والدافع الذي يعتمد عليه العاملون في العمل والحركة والجهاد نوعان: إما أعمال قلوب تتدفق فيها المحبة والرجاء والشوق والنسمات الروحانية التي تقودها للإقدام والاقتحام، وإما أخلاق المجاهدين كالعزة والكرامة والغضب لله والنصرة لدين الله. والأقوى ألا يُحرم العبد من شيء من النوعين من الدوافع. ورأيت في الحياة أن من يُحرم من تذوق القلب للعبادة والذكر ينقطع مللا وسآمة. ومن يُحرَم من دوافع الكرامة والعزة والغضب ينقطع تخاذلا. ومن يُعط الاثنين اذا أوقفه ضعف الشوق حركه الغضب . والله أعلم.اللهم ثبتنا ووفقنا
كما رأيت أن الدعوات التي تعتمد على اصلاح الظاهر فقط ولاتهتم بالباطن وخصوصا جانب محبة الله وتذوق كلامه وعبادته تنتج عبادة جافة وبالتالي أجيالا جافة حتى وان تم تدريس بعض الكتب مثل مدارج السالكين فهي دراسة أيضا جافة . فنحن بحاجة الى تذوق أكثر منها دراسة أسأل الله أن يحيي قلوبنا ويثبتنا وأن يمن علينا بعلماء ربانيين تذوقوا فيذيقوننا وعرفوا فيعرفوننا. أما قراءتي لكتاب إحياء علوم الدين ولمدارج السالكين فلها حديث خاص .
ساحة النقاش