..
-------------------------
لا ينبغي أن يظن بي أحد تصور أن قيادات تركيا بحاجة لمن ينصحهم، فنجاحاتهم تغني عن إثبات قدرتهم على معرفة خطط الأعداء والتصدي لها بما يمكنهم من النصر.
لكني مع ذلك أريد أن أدرس مسألة يقتضيها الظرف، وخاصة نية الأعداء الاستفراد بتركيا لأنها هي العائق الوحيد لتكرار خطة الحرب العالمية الأولى.
لذلك فلا بد من الجواب عن سؤالين:
• الأول: ما الذي يمكن أن يقوم به منظِّموا الانقلاب بعد فشله؟ (ومنظموه غير من نفذوه، به بل آخرون، وهم من فضحهم الفرح السريع به).
• والسؤال الثاني: ما أفضل الطرق للنصر الحاسم ضد هذا العمل المتوقع الآن، والذي هو أخطر بكثير من عملية الانقلاب ذاتها التي ولله الحمد والمنة فشلت فشلا ذريعا؟
وينغي أن أنطلق من المبدأ التالي الذي لسوء الحظ يتجاهله المستهدَفون من وراء استهداف تركيا، والمستهدفون دول ستكون الجائزة الكبرى التي يخطط الغرب منحها لإيران وإسرائيل، إنها تشبه بالضبط ما حصل لما تم اقتسام الأرض العربية التي كانت تحت سلطان تركيا عندما كانت رجل العصر المريض الذي يريدون إمراضه من جديد، وإذا لم تدرك قيادات العرب ذلك فسيصحُّ ما أعلنت عنه إيران من أن النظام السعودي سيسقط قبل عيد الإضحى القادم، وذلك ما كان سيحصل لو نجح الانقلاب.
وهذا يعني أن إيران كانت على علم بالانقلاب وأنها هي التي جندت مع عملاء إسرائيل وأمريكا والدولة الموازية كل من يعادي استئناف الإسلام دوره والقصد أهل السُّنَّة في الإقليم.
ولست مطالبا بإثبات ما أقول لأنه لا علاقة له بتهمة القول بنظرية المؤامرة، فهذا معلن ومصرح به، ثم إن دور الصفوية والصهيونية في الإقليم يثبته.
ولأعد إلى سؤالي الأساسيين:
1-ماذا يمكن أن يعمل الأعداء بعد فشل العملية؟
2-وماذا ينبغي القيام به بدارا لاستباق هذا العمل المعلوم بدقة؟
سأسمح لنفسي بالقول إني سأتكلم عن خبرة لم يسبق أن نسبتها لنفسي ولا أحتاج لذلك فصدق توقعاتي السابقة يغنيني عن ذلك، وأكاد أرى الخطة بتفاصيلها.
وقبل الكلام عليها سأنبه إلى خطأين لا بد من تجنبهما:
• الأول: استسهال النصر في معركة بعيدة الغور بمراحل خالفها أعسر من سالفها بسبب لإجرام الدولي.
• والثاني: المسارعة في التنظيف العشوائي الذي يبدو حسما مع أعداء الداخل فيتحول في الحقيقة إلى توحيدهم وتقوية صفهم بدل تحقيق الغاية المقصودة.
الجواب عن السؤال الأول:
• ما الذي يمكن أن يتلوا فشل الإنقلاب؟
كالعادة ما ينتج هو ما يفعله العدو عندما يفشل في تحقيق الهدف السريع بالضربة القاضية (نجاح الانقلاب).
وهذه القاعدة ليست جديدة:
فكل أعمال القوى الاستعمارية تلجأ إليها. لما تعجز عن اسقاط نظام يعارض مصالحهم بالضربة القاضية يستعملون حرب المطاولة.
وحرب المطاولة ذات فرعين:
• الحرب اللطيفة بالشائعات والبروباغاندا التشنيعية لتفكيك الجبهة الداخلية.
• والحرب العنيفة أي المحاصرة الدبلوماسية والاقتصادية خاصة.
فشل التدخل الروسي والضربات الإرهابية وخطة الانقلاب، ولم يبق إلا هذان النوعان من المطاولة لإضعاف تركيا مع جبن قيادات العرب وخيانة بعضهم.
وأول موضوعات البروباغندا التشويهية ستكون تصرفات النظام التركي مع الانقلابيين بحجة حقوق الإنسان ودولة القانون وهلم جرا من أسلحة التشويه.
والهدف من هذا الموضوع ليس التشويه فحسب بل أمران آخران:
• منع التطهير الذي يمكن أن يتلو النصر على الانقلاب
ما يجعل القضية معقدة.
• إمداد للخونة.
ولعلمي بهذا الخط الهجومي للأعداء دعوت كل حركات الإسلام الديموقراطي أن تختار استراتيجية هجومية بدل الانتظار الحالي كي يتسع الخرق على الراقع.
ينبغي ألا تبقى تركيا معزولة في المعركة.
هي معركة أهل السنة في الإقليم أو على الأقل المخلصين منهم لاستئناف دور الإسلام في نظام العالم الجديد.
ولو كنت واثقا من أن حركات الإسلام الديموقراطي ستعمل الواجب، ومن أن العرب المستهدَفين سيفيقون لأوجزت الكلام لثقتي في أن الأتراك ليسوا غافلين.
ما تكلمت إلا لعلمي أن الفرضية الوحيدة الثابتة هي أن تركيا ستقاوم بمفردها.
فحركات الإسلام يغلب عليها التخوف.
والثورة المضادة العربية ما تزال في غيها.
كلامي إذاً يعمل بالحد الأدنى وهو - ولله الحمد - ليس بالقليل، فتركيا بحاضرها وبمجد تاريخ الخلافة تمثل قوة مُهابة ويمكن بالحذر أن تنتصر في الغاية.
ورقتي هدفها بيان شروط ذلك بمنطق (وذكر، فإن الذكرى تنفع المؤمنين) لأني لا أتصور أن قيادات تركيا غير متفطنة لخطة الأعداء أو أنها ستتهور في معاملة الانقلابيين.
ما كنت لأصف أردوغان بمعاوية الثاني لو لم أكن واثقا من أن له دهاءه وحنكته وإيمانه بمجد الإسلام واستئناف تاريخه الكوني بالحذر والدهاء السياسيين.
وإذاً فالمرحلة الأولى من الخطة الهادفة إلى ضرب تركيا بعد فشل الانقلاب هي التبرؤ الدبلوماسي للأعداء من الانقلاب والانقلابيين، مع الدفاع الحقوقي عنهم.
ولنسمي هذه الخطوة بمنطق النفاق الدبلوماسي الغربي المعروف.
فالكلبية (سينيسيزم) تعتمد دائما على النفاق الدبلوماسي والحقوقي والغدر المخابراتي والإعلامي.
تليها مرحلة التشويه لعملية التطهير التي تتلو كل انقلاب لأن النظام الذي وقع الانقلاب ضده مضطر حتما للتطهير الذي يشوهونه مهما كان لطيفا ونظيفا.
تليها في مرحلة ثالثة مرحلة المجتمع المدني الدولي والتقارير بدعوى توثيق التعدي الحقوقي على الانقلابيين بعكس التغطية على جرائم السيسي وبشار.
تليها المرحلة الرابعة وهي اللجوء للمحاكم الأوروبية والدولية ضد النظام التركي وقياداته
ثم المرحلة الخامسة والأخيرة وهي الشروع في مهازل التشريع الدولي للعقوبات.
تلك هي مراحل حرب المطاولة الاستعمارية التي هي جوهر الأسلوب الكلبي والمنافق لما يسمونه بـ (القانون الدولي) أي ما يغطي على جرائم الاستعمار الغربي.
كل هذا يغلب عليه الحرب الدبلوماسية.
لكن هذه الحرب اللطيفة الدبلوماسية تصحبها الحرب العنيفة التي تصيب كل مصارد ثروة تركيا وقطاعات اقتصادها.
وسيكون للثورة المضادة العربية الدورالأول:
حرب أحباب إيران وإسرائيل على تمويل الاستثمار وعلى مصادر الطاقة وعلى أسواق المنتج التركي في الخليج. والمعلوم أن هذه الحرب قد تقدمت حتى على الانقلاب لكن زخمها سيزداد من الآن فصاعدا.
وفي هذه الحرب سيكون التهديد بأمرين حساسين بالنسبة للأتراك، ولا استبعد أن يهدد الأوروبيون النظام التركي بإيقاف المفاوضات الخاصة بالإنضمام إلى أوروبا بدعاوى حقوقية، ولا استبعد حتى التهديد بإخراجها من الحلف الأطلسي لوجود بديل.
والبديل عن حاجة الأطلسي إلى تركيا هو:
أولا: روسيا لم تعد بقوة الاتحاد السوفيتي
ثانيا: إيران عادت لدور مساعد الشرطي الإسرائيلي
أما العرب فـ "على مراد الله” - كما نقول في تونس.
“على مراد الله” ينبغي فهمها بالتونسي، فهي تعني “لا حول لهم ولا قوة” بسبب خيانات الكثير من الحكام والنخب.
والآن نتحول إلى خطة التصدي لهذه الحرب اللطيفة والعنيفة في آن.
ولها وجهان أهمهما يتعلق بالمطاولة الفعالة داخليا وخارجيا ضد مطاولة الأعداء.
وأبدأ بمبدأ (البدار) أي المبادرة، فكل خطة تقتصر على رد الفعل تنتهي إلى الفشل حتما. لا بد من خطة تعمل (بداراً) استنادا إلى توقع خطوات العدو واستباقها بالعلاج الناجع.
ألخص مراحل خطة العدو:
1- النفاق الدبلوماسي مع الشرعية
2- الحقوقية في المحاكمات
3- الحقوقية التوثيقية
4- المحاكم الدولية
5- العقوبات الدولية
ويصحب هذه المراحل التضييق على مصادر الثروة بالاعتماد على خنق قطاعات الاقتصاد التركي مثل تمويل الاستثمار والطاقة والسياحة والأسواق إلخ.
فكيف يكون العلاج المبادر والسبَّاق كي لا تقع تركيا فقط في رد الفعل؟
الجواب يعتمد على خطتين:
• الأولى: من لا يخيف العدو لا يمكن أن يهابه العدو.
• الثانية: من لا ينجح في صيانة الجبهة الداخلية لا يمكن أن يصمد أمام الحرب اللطيفة وعلى آثار ما يصبحها من حرب عنيفة، وهي ليست بالضرورة عسكرية.
فيكون الحل المبادر في الداخل بالتركيز على المناعة الداخلية التي من منطلقها يمكن أن يصبح النظام مخيفا للأعداء لأن قوة الشعوب لا تقهر.
أما في الخارج فينبغي البحث عن حلفاء من مصلحتهم عدم القبول بالغايات التي يستهدفها العدو الأساسي أي الذي يحرك المنفذين التابعين له في الإقليم.
وهذا يعني أن الحلفاء لن يكونوا من الإقليم لأن المعين الوحيد لهم هو الحركات الإسلامية والأنظمة العربية وكلاهما كما أسلفت لا يعول عليهما بغض النظر عن الأسباب.
فمن يمكن أن يكون حليفا؟
إنه من يخشى مثل تركيا أن تخنقه سيطرة أمريكا وشرطيها (إسرائيل) ومساعده (إيران) على ما يراد به خنق تركيا لإضعافها.
وللمفارقة فإنه لا يوجد إلا أربعة إمكانات بعضها اكثر نضوجا واضطرارا للتحالف مع تركيا:
• روسيا
• الصين
• الهند
• أوروبا.
وهؤلاء الحلفاء يحدد موقفهم أمران:
• خطر سيطرة أمريكا وشرطييها على الإقليم، وهنا اعتقد أن روسيا هي الأولى لخوفها على سر قوتها الطاقة والدفاع.
وبحسب هذا المعيار يتوالى بقية القوى التي ذكرت.
فالصين والهند هما أيضا مهددان بسيطرة أمريكا على الإقليم أي مركز العالم الإسلامي وقلبه.
وأوروبا رغم خوفها من تركيا فهي من إيران وإسرائيل أشد خوفا لأنها تعلم منطق شيلوك، فتعامل الإقليم معها لن يبقى كما كان تحت محميات عربية.
• مدى استعمال القيادة التركية لهذه الأوراق بحنكة ودراية ودهاء، وهو متوقع ان شاء الله وليس بعيد المنال.
لكن الامتحان الأعسر هو الحرب اللطيفة..
فالتطهير في تركيا ينبغي أن يكون شفافا إلى أبعد الحدود، وأن تماطل القيادة في المحاكمة سنوات لربح الوقت.
وينبغي أن يكون التطهير مناسبة لتمزيق صف الأعداء وأن يقتصر على القيادات الحقيقية، وأن يتعامل بتسامح مع من هو دونهم حتى يؤلبوه ضدهم.
وأخيرا ينبغي أن يكون الشعار غير حزبي وغير طائفي وحتى غير ديني.
ساحة النقاش