قبل أن تغتني

بقلم /على الدينارى

التقى رجل متوسط الحال بصاحبه.

فقال: أوصني فقد بشروني.

قال: وبم بشروك ؟؟

قال: قالوا سوف تغتني وتصير من أصحاب الأموال.

قال: فإن أوصيتك تسمع لوصيتي وإن كانت مُرة؟

قال: نعم..  فكم تجرعت منك من مرارة ثم عادت على سعادة .

قال: رأيت في الحياة أن من وسع الله عليه في المال فوسع على نفسه والعيال وانتقل من حال التوسط في المعيشة إلى حال الرغد والترف.. والتبذير والسرف.. ابتلى بعدة أمور بعضها أشد من بعض وكلها في معاملة الناس.

قال: وما هي يرحمك الله ؟

قال:

الحسد: فكل ذي نعمة محسود.. وأول الحاسدين له من أقاربه وأقرانه الذين يطلعون على أحواله من قريب.. وخصوصا ً الذين لهم نساء وعيال فهؤلاء كما أنهم مجبنة مبخلة.. فهم كذلك مدعاة للحسد.

 فالنساء والعيال هم الذين يزورون أقاربهم ثم يقارنون بين معيشتهم ومعيشة أبيهم.. فيسخطونها ويطالبونه بالمساواة.

 ومن هنا يأتي الحسد.. ومشكلة الحسود أنه لن يرضيه ولن يطفئ ناره إلا أن تصير أنت رمادا ً.

ورحم الله الإمام الشافعي فقد خبر الحياة ثم قال:

وداريت كل الناس لكن حاسدي                  مداراته عزت وعز منالهــــــــــا

وكيف يدارى المرء حاسد نعمة                 إذا كان لا يرضيه إلا زوالها؟!

العداء: بعض الناس يعاديك بلا سبب.. سوى أنه يشعر أنك احتللت المنزلة التي يريدها لنفسه في الدنيا.

الطمع فيما في يده: بعض الناس يعتقد أنه أولى بمالك منك ومن عيالك.. ويعتقد أن الواجب عليك أن تعطيه مالك كله يتنزه هو به وتتفرج أنت عليه!

وبعض الناس إذا سمع بمال يأتيك فكر كيف يستفيد هو من مالك؟.. قبل أن تفكر أنت لنفسك!

الشماتة فيه إذا ناله مكروه: الناس يشمتون في الغنى ولا يشمتون في الفقير!

التخلي عن مساعدته:  فصاحب المال يكله الناس إلى ماله.. حتى إن احتاج للمساعدة بالجهد!

عدم رحمته: فالفقير مرحوم يشفق الناس عليه.. بينما الغنى قليلا ً ما يشفق أحد عليه!

يتقرب إليه من لا يريده: وإنما يريد ما عنده .. وهؤلاء تمحكهم به كريه إلى نفسه لأنهم ثقلاء!

يبتعد عنه الفضلاء الكرام: إذ لا يعجبهم سرفه.. وترفه.. وسفهه .

وقد رأيت أن حلول المال يعيد تشكيل خريطة الناس حولك.. فيقرب منك من كان بعيدا ً طول العمر.. وقد يبعد عنك من كان قريبا ً!!.. ويحبب فيك ـ  ظاهرا ً وربما باطنا ً ـ  من كان يكرهك وقد يكره فيك من كان يحبك!

انفضاض الناس عنه إذا انفض ماله:  وربما عادت خريطة الناس حوله إلى ما كانت من قبل ألم تسمع قول الشاعر:

رأيت الناس قد ذهبوا        إلى من عنده ذهب

ومن لم عنده ذهب           فعنه الناس قد ذهبوا

رأيت الناس منفضة           إلى من عنده فضة

ومن لم عنده فضة         فعنه الناس منفضة؟!

عدم نظر الناس إلى نبل أخلاقه.. وكرم صفاته: وإنما إلى كرم يده ومقدار أعطياته

عتب الناس عليه: إذا التزم العدل وأمسك عنهم ما اعتادوا عليه من الفضل.

التماس معايبه: والبحث عن زلاته وغيبته من باب التنفيس عن الحسد والحقد.

تعرضه للنصب والاحتيال: لأخذ ماله وصاحب المال سيضيق وقته لأنه سيكثر جلساؤه وزواره وطالبوه الصادق منهم والمحتال.

صاحب المال يكثر ويختلف ناصحوه : استثمره في هذه أفضل.. لا بل في هذه أفضل فإذا تأملَ ـ تأمل ـ  وجد كل نصيحة صادقة مائة في المائة لصالح صاحبها!

انتقاد الناس له على كل حال: إن اقتصد قالوا بخل وقتر..  وإن وسع قالوا: أسرف وبذر.

بعض الناس ينصبون أنفسهم مديرين لمال غيرهم.. ويرون أنهم أولى بإدارته منهم.

أثر الترف على فساد الأولاد: فهو مدعاة لهم للكسل وترك العمل والاعتماد على مال الأب وجاهه المدعم بماله.

وقد رأيت في الحياة أن أبناء الفقراء يؤهلهم الاحتياج للصبر والتحمل وتعلم  أسرار الحياة .. وأبناء الأغنياء يؤهلهم الترف والاستغناء  للبلادة والسذاجة والاحتيال عليهم  ـ ومال أولئك لهؤلاء.

قال: صدقت كثير من أبناء الدنيا ينظرون إلى المترفين أنهم سذج يسهل الضحك عليهم لأخذ أموالهم بأتفه الحيل وأقل الخدمات.

رأيت في الحياة فقراء أدبهم الفقر.. وأغناهم تعففوا .. وتزهدوا فاستغنوا.

وأغنياء أفسدهم الغنى عودهم الترف فصاروا دائما فقراء إلى المزيد.. ولم يتحملوا الفقد (بالدال) فسرقوا أو مدوا أيديهم.

أثر المال ـ إذا لم تسبقه الأخلاق ـ في اختلاف أبنائه: بعد وفاته هناك من ترك لأبنائه مالا ففرَق شملهم!

ومن ورث أبنائه أخلاقا ً وحبا ً ضم مال بعضهم إلى بعض وكذا جاههم!

قال: فصار كل من هؤلاء غنيا ً بماله ومال أخيه .

قال: صدقت.. وصار كل من أولئك متطلعا ً كالفقير إلى مال أخيه.

وصدق رسول الله (صلى لله عليه وسلم) فيما روى عنه  "ما نحل والد ولدا أفضل  من أدب حسن" الترمذي

حزن الرجل وقال يائسا ً وما الحل ؟ هل ترى يجوز أن يلقي ماله هذا في البحر؟

لا فإن تبديد المال حرام .

 دمعت عينا الرجل ثم قال مالي وللمال..  حسبت أنها طابت الملذات وأقبلت المسرات.. وقارب المال بيني وبين الناس ....

ـ مه.. فإن المال سيقرب منك من ينفعك قربه بل قل ستقترب أنت به ممن ينفعك قربهم.

ومن هم هؤلاء ؟

هؤلاء هم المنكسرة قلوبهم الذين سيرسل الله على يديك جبرهم.. وعلى يديهم ستذوق لذة العطاء والإنفاق.. فإذا ذقتها بحث أنت عنهم ولم تصبر حتى يأتوك

ثم أطرق رأسه وصمت ثم رفعها فإذا عيناه تذرفان فقال:

كيف فرحتك غدا إذا جاءك محزون ملهوف ضاقت به الدنيا.. فضاق صدره وانقبضت نفسه ولجأ إليك يحسن الظن بك ويثق في عونك.. فإذا بخاطر يلهمك أن هذا أرسله الله إليك ليرى ما تصنع؟.. ثم يلهمك أن كن لله كما يحب كما كان لك كما تحب فإذا بدمعك يسيل : وعزتك وجلالك سأكون.

كيف بك إذا سمعت تضرع مكروب يرجو رحمة ربه فقلت:والله لأكونن أنا رحمة ربه؟!

كيف بك إذا أخذت تنفق من فضل لله عليك هكذا وكذا حتى نسيت نفسك؟!

وهل يمكن أن ينسى الإنسان نفسه في نصيبها من الدنيا؟!

نعم عندما يستغرق القلب في شعوره بنعمة أن جعل لله يده هي العليا. 

وعندما يتألم العبد لألم الضعفاء المحتاجين ثم يجد في يده ما يعالج به ألمه ساعتها يكون الإنفاق من أجله هو لا من أجل الناس.. ولن يكف حتى يستريح ويكون قد استبدل لذة بلذة بعد أن أدرك الأعلى منهما

الله الله

هؤلاء سيمنحونك الحصانة من سهام الحاقدين.. ونار الحاسدين.. وطمع الطامعين وحيل المحتالين !

وكيف ذاك ؟

في الوقت الذي سيبيت حاسدوك ينفثون شرر حسدهم سيبيت هؤلاء يدعون لك وأي الفريقين أكثر وأقوى هو الذي سينفذ إليك!

الآن بدأت  أطمئن على نفسي لكن فساد عيالي هذا الذي ذكرته هذا أعوذ بالله أعوذ بالله.

المال إذا أحسنت فيه يحفظ الله به عيالك.

وكيف؟

عندما تحفظ به الأيتام.. وتستر به العورات.. وتؤمن به الروعات.. وتنقذ به الكرام من مكر اللئام.

ثم إنك قد أدركت أنك مهما أوتيت من المال.. فلا تتطلع إلى أحوال أهل الترف والاستكبار والسرف ولا ترخى الحبل للعيال فيسرح بهم إلى فساد الحال في الحاضر والمآل .

لملم الرجل أحلامه وأطماعه ثم قبل رأس صاحبه.. وقال: جزاك الله عنى خيرا ً.. سأكتب وصاياك هذه وأنشرها .

قال: اكتبها ولا تنشرها فمن قرأها ولم يتأملها أنكرها.. فقد أوجزت لك في المقالة فاختصرت وأجملت.

ومن قرأها وتأملها؟

من تأمل أولها فهم مرادي في آخرها.. وانتفع بها فإن كان فقيرا ً استراح واستغنى وإن كان ثريا ً غنى وأصبح لماله معنى وإن كان بين البينين فلا يتضجر ولا يتعنى.

قال الرجل: فأرويها عنك إذا وأحدث بها بهذا الشرط؟

قال بهذا الشرط اروها عنى وبشرط آخر.

وما هو؟

من تلقى روايتك فليدع لي بما يحب.

قال: فإن سألني المدققون من المحدثين : أين حدثك؟ ومتى لاقيته؟و.. و...

قال: قل الحقيقة: حدثني  في بيت الله فتح فناء الخيال فصحبته فحدثني هناك. بعد صلاة الفجر.

 قال : كذاك .

قالا: سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك .

‏20‏/12‏/2009

  • Currently 135/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
45 تصويتات / 437 مشاهدة
نشرت فى 22 ديسمبر 2009 بواسطة denary

ساحة النقاش

على الدينارى

denary
موقع خاص بالدعوة الى الله على منهج أهل السنة والجماعة يشمل الدعوة والرسائل الإيمانية والأسرة المسلمة وحياة القلوب »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

293,797