08-01-2008, 02:58 PM | #2 | |||||
خالد حجار أديب فلسطيني تاريخ التسجيل: Jul 2008 المشاركات: 452 |
تمهيد قراءة معاصرة لتطور الشعر العربي في العصر الحديث إن ما دفعني لكتابة هذا العنوان هو واقع الشعر العربي في هذا العصر، فأين نحن؟ هل تطور الشعر في عصرنا؟ أم نحن كما في باقي مناحي الحياة، سوق استهلاكيٌ نعيش التبعية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى؟ هل الثقافة العربية تعيش التبادل الثقافي مع الثقافات الأخرى؟ ألا نحتاج لتقويم ما وصلنا إليه؟ هل نحن نسير نحو التقدم؟ هل نحن قادرون على أن نصنع نهضة ثقافية في أمتنا؟ أين نحن من العالم؟ هل نهجنا في التعليم صحيح؟ أم أننا نمارس التعليم المقلوب؟. أسئلة ومصطلحات تكاد تتشابك فتصنع عقداً، من دخلَ فيها وقع في شركٍ يصعب الخروج منه، وإذا ما نظرنا بعمق وجدنا المستقبل الأسوأ في انتظارنا، إنْ بقينا على هذه الحال، فهل نحن منتهون؟ أرى أن الهزيمة التي نحياها قد أصابت كل مناحي الحياة ولم تبقِ لنا مكاناً إلا ودخلته بل وسيطرت عليه، فأصبحنا مهزومين ثقافياً، وإنَّ أسوأ أنواع التبعية هي التبعية الثقافية، فما هي هذه التبعية؟ لنعرج قليلاً على الواقع السياسي فنتعرف على التبعية السياسية والاقتصادية ومن ثم نصل إلى التبعية الثقافية. يعيش الوطن العربي حالة الشرذمة السياسية، فهو عبارة عن أكثر من عشرين كياناً سياسياً، كل منها لا يقوى على حماية نفسه من نفسه. لستُ فيلسوفاً، ولكن الغرب يصنع بهذه الكيانات كما يشاء، فيرميها بسهمٍ منها فيميتها، ويستبدلها متى يشاء، وهي لا تملك أن ترفض، أما على الجانب الاقتصادي فحدث ولا حرج، ينهبون خيراتنا ويجعلوننا سوقاً استهلاكياً لا نملك فيه إلا أن نستورد كل ما جاء من الغرب ونتقبله كما لو أننا نحن الذين صنعناه، ليس هذا فحسب بل يعتمدون في صناعتهم على مواد خام من بلادنا وينهبون أموالنا ويشترون عقولنا التي تصنع. هذه هي التبعية الاقتصادية، والتبعية الثقافية لا تخرج عنها في شيء سوى المواد الخام، فالمواد الخام في الثقافة ليست النفط والمعادن بل هي الفكر والأدب واللغة والعادات والتقاليد والمفاهيم، ونحن اليوم لا نملك سوى التقليد ، فالمثالية في العدالة في نظرنا هي الديمقراطية لا لعدالتها بل لأنَّ الغرب يقول ذلك، واللغة المفضلة لدينا للحديث مع العالم هي الإنجليزية أو الفرنسية وعلى طلابنا أن يتعلموها منذ الصغر لأنها لغة العلم أو لغة الغرب المتعلم، والمثقفون في بلادنا لكي يثبتوا ثقافتهم عليهم الحديث بكلمات أجنبية فلا يفهمها عامة الناس وبهذا يتميزون عن غيرهم، ومن يريد أن يقرأ الشعر فعليه أن يقرأ لشكسبير أولاً وطبعاً بقصد أن يقول أنه قرأ لشكسبير لا لكي يقارن بين شكسبير وشاعرٍ عربي مثلاً، وهذا هو الاتجاه المحدث في عصرنا، وإذا ما حاولتَ مع كثيرين منهم أن تعطيه نماذج عربية ضحك وسخر منك ووصمك بالتخلف، وأنا بكل فخر المتخلف الأول أمامهم، ما دام التخلف يعني عند هؤلاء هو التمسك بالأصالة. قد تتهمونني بالمغالاة، وقبل أن تقولوها عليكم قراءة ما قاله السيد أدونيس العرب في محاضرة له في مكتبة الاسكندرية فهو يقول:" نحن أمة ترى حاضرها بعيون ماضيها واللغة العربية في سبيلها إلى الموت، وتابع: إن اللغة العربية تتراجع خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير على مختلف الأصعدة في المدارس والجامعات وحتى لو استمعت للشيوخ وخطباء المساجد المعنيين أكثر من غيرهم بالمحافظة على اللغة ستجد هذا التراجع، وستجد تقدما للهجات المحلية في الشعر والكتابة وهناك الآن عشرات المجلات والمهرجانات للشعر النبطي المنتشر في دول الخليج، وفي حديث مع وكالة الأنباء الألمانية أبدى أدونيس إعجابا بشعراء اللهجة المحلية المصرية".) ) إذن السيد أدونيس يأتي إلينا من فرنسا ليقول لنا أن اللغة العربية في سبيلها إلى الموت، ولا تتأسفوا عليها فها هم شعراء اللهجات يقومون بدورٍ يغطي النقص الذي سيحدث عند موت اللغة العربية، وكأن السيد أدونيس جاء بحكم أنه عربي لمواساتنا في المصاب وهو موت العربية. وطبعاً لم يتحدث أدونيس عن سبب موت اللغة العربية في نظره، ولكنه بسرعة متناهية وضع البديل وهو اللهجات العامية، وكفاكم يا عرب شر الدفاع عن لغتكم ولا حاجة لإنقاذها، فالبديل موجود، وإن لم يعجبكم فخذوا أي لغة أخرى، هو لم يقل ذلك بصراحة، ولكن ما بين السطور يوحي بذلك؛ فهو لم يبك العربية بل وحتى لم يتباكَ ولو مجاملةً. من الذي طعن العربية من الخلف يا أدونيس فأصابها وجعل نورها يخبو؟ لن أجيبَ عن هذا السؤال، ولكنني متأكد من أن العربية تنزف، ولأنها خالدة فلن تموت. ولسنا بحاجة إلى عامية أدونيس ولهجاته التي نشتم منها رائحة الاستعمار بشتى أشكاله المرعبة. وماذا عن الشعر؟ إن العصر الحالي يشهد تمرداً يشبه الثورة في زخمه واندفاعه ولكنه ليس بثورة، فالشعر الحر أو شعر التفعيلة تمرد على عروض الخليل وقافية الشعر، دون إبداء أي سبب مقنع سوى انه من أصول غربية، فقد عرَّبَ رواده مصطلح :free virs الإنجليزي بعد أن درسوه عند الغرب وقلدوه، وساروا على نهج مصدريه لنا كما صدروا لنا أي سلعة أخرى، ولكي يسوغوه في أرض العرب اتخذوا من المواضيع التي تشغل بال المواطن العربي معانيهم، وفي ظل التراجع الثقافي على مستوى الأمة العربية نجح بسهولة، وكيف لا وكل شيء من الغرب يتصف بالجودة. إننا في محافلنا السياسية نتهم ونخون وندعي وننتشي بالمصطلحات، ولكننا في محافلنا الأدبية، لا نستطيع أن نخون أحد، لأننا لا نمتلك حرارة الدفاع عن ثقافتنا، فالشعر الحر اليوم يكاد يطغى على الشعر العمودي، فهو المنتصر في هذا الزمن كما أرى؛ وذلك لان الغرب هو المنتصر حقاً لقد هدم الغرب بيتنا الشعري كما هدَّم حصوننا وقلاعنا، وانتزع قافية الشعر كما انتزع من بين أيدينا ثقافتنا وهويتنا وانتماءنا، لهذا انتصر الشعر الحر. في زمن التبعية تشوه المصطلحات ونتيجة ذلك أصبحنا نقع في شرك التعليم المقلوب وهو: التعليم الذي يهدف إلى نزع هويتنا العربية وجعلنا مقلدين لثقافاتٍ أخرى. وهذا ما نحياه الآن بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى. إن ما يثبت قولي سابقاً هو: 1- أننا نتعلم معظم العلوم بلغاتٍ أجنبية ولا نحاول تعريبها؛ فالطب مثلاً الذي أخذه الغرب عن العرب يدرس الآن في الجامعات العربية بلغات أجنبية. 2- أن معظم مصادر العلوم تؤخذ عن الغرب بما فيها مناهج النقد الأدبي التي نحاول تطبيقها على أدبنا العربي 3- أن كل ما أتى به الغرب نجده مترجما حرفيا عندنا ونموذجاً يحتذى به، وفي الوقت نفسه تركنا كثيراً من تراثنا؛ فَمَنْ مِنْ شعراء اليوم يكتب موشحاً مثلاً، وأين هو الكاتب الذي يكتب لنا مقامة واحدة؟ ولكننا نجد مئات الكتاب يكتبون القصة القصيرة ومئات ممن يسمون بالشعراء يكتبون الشعر الحر. 4- أن العلاقة بين الثقافات المختلفة تبنى عادة على التبادل الثقافي وهو: أن تأخذ الثقافات من بعضها البعض، وتعطي بعضها البعض، بينما نحن اليوم نلقي بثقافتنا جانباً ونأخذ من الثقافات الأخرى كل شيء ولا نعطيها أي شيء يذكر. 5- أن مدارسنا تعلم اللغة الأجنبية وكأنها لغة محلية، ولا نجد دولة غربية تعلم تلاميذها من الصغر اللغة العربية. وهناك مدارس عربية تستثني اللغة العربية تماماً. نستنتج مما سبق أننا مع كل إشراقة شمس نبتعد عن أصالتنا وهويتنا وانتمائنا ونتقرب إلى ثقافاتٍ غريبة عن ترابنا ووطننا وعروبتنا. إن ما يثبت أن الاستعمار وراء ذلك كله الأسباب التالية : 1- إنَّ اللغة العربية هي إحدى مقومات الوحدة العربية، ولا يختلف اثنان أن الغرب يحاول تمزيقنا ليسهل عليه افتراسنا؛ لهذا يحارب الاستعمار لغتنا بكل ما أوتي من قوة 2- إن الثقافة العربية الأصيلة هي الاتجاه المضاد للثقافة الغربية الاستعمارية، وعماد الثقافة العربية هو اللغة العربية؛ فهي العدو الأول للغرب ويجب تحطيمها بنظره 3- إن اللغة العربية هي التي تصل حاضرنا بماضينا فتذكرنا بأمجادنا فتدفعنا إلى السير نحوها، وهذا ما لا يروق للغرب 4- إن مميزات اللغة العربية وسماتها تنهض بشعبها حيث أنَّ إحدى ميزاتها أنها اشتقاقية ومن يتعلمها يتعلم معظم العلوم بسهولة، فمثلاً لو دخلنا في علم الصرف قليلاً وجدنا أن كل كلمة على وزن فُعال هي اسم مرض مثل سُعال أو عُضال، أو صداع،أو كُساح. نجد أنفسنا أمام مصطلحاتٍ ليست بحاجة لعالم لكي يكتشفها كما يفعل الغرب الآن عندما يحاول تسمية مرض ما. ونستطيع القياس على كل العلوم، مما يسهل على العربي تعليمه للعلوم الأخرى فيظهر إبداعاً لا تستطيع اللغات الأخرى منحه لناطقيها 5- إن سعة اللغة العربية تجعلها قادرة على استيعاب جميع العلوم وهذه الصفة أثبتها تاريخنا، وهذا يعني أن التزام العربي بلغته سيمكنه من النهضة لا محالة وهذا ما يدك الاستعمار في عقر داره نستنتج مما سبق أن لا نهضة للعرب بغير اللغة العربية وبناءً عليه فلا حضارة ولا تحرر قبل أن نتمسك بلغتنا وننهض بها ونتبع علوم أجدادنا الأوائل، مع الأخذ بالتطور البشري. إن المحافظة على عمود الشعر العربي أصبح هدفاً وطنياً تماماً كما هو التحرير، وإننا بحاجة إلى ثورة ثقافية تكون الثقافة الثورية وسيلتها، والثقافة الثورية هي: تلك الثقافة التي تتخذ من التراث وتطويره والنهوض به هدفاً لتصنع المستقبل وتلقي جانباً بكل ما هو دخيل علينا، فتحارب التقليد الأعمى وتبرز هويتنا القومية، وتوحد لساننا وانتماءنا. ولا بد لهذه الثقافة قبل أن تصبح ثورية أن تتحلى بالدقة وأن تأخذ بعين الاعتبار أن القديم يجب تطويره ليلائم هذا العصر؛ فبدل أن يبكيَ الشاعر في مقدمته الطلل قد يبكي حباً كان في قرطبة أو حيفا، وبدل أن يتخذ من شكسبير ودانتي مادته الخام ومعانيه، عليه أن يتخذها من زهير وطرفة والمعري ويطورها ليجعلها تواكب العصر. وفي نهاية قراءتنا لواقعنا المعاصر نجد أن الموازنة بين التطور الذي حدث على الشعر في العصر العباسي يختلف كلياً عنه في عصرنا الحالي وذلك في الأمور التالية : 1- أنَّ اللغة العربية كانت اللغة الأولى في العالم فكانت هي المسيطرة مما أكسبها صفة التوسع والانتشار حتى بين الشعوب غير العربية. بينما نحن الآن نعيش العكس تماماً. 2- كانت اللغة العربية في العصر العباسي لغة العلم فكان من يتجه إلى العلم لا بد له من دراسة اللغة العربية حتى يصل إلى مبتغاه. 3- كان التطور الشعري في العصر العباسي نتاج التطور الحضاري الذي عاشه أجدادنا حينذاك، بينما التغيير الذي نحياه في العصر الحالي هو نتيجة تقليدنا لتطور الواقع الغربي، وطبعاً هذا برأيي ما جعلنا نغرق في التعليم المقلوب ونفقد ثقافتنا العربية 4- إن التغيُّر الذي نحياه الآن هو خروج عن ثقافتنا وأصالتنا وليس تطوراً وذلك: أ- لو كان تطوراً لتوصل إليه أجدادنا في عصر النهضة الذي كنا فيه، فنحن لم ننهض باللغة العربية اليوم كما نهض بها أجدادنا. ب- لو كان هذا التغيُّر تطوراً لكان في المجالات كافة؛ لأن التطور في اللغة يؤدي حتماً إلى تطور في سائر مناحي الحياة ت- إن ما يؤكد أنَّ الذي نحياه ليس تطوراً طبيعياً هو النتيجة التي وصلنا إليها والتي دفعت بأدونيس أن يعلن عن وفاة اللغة العربية وهذا يعني حتماً وفاة الأمة العربية. ث- إن تركنا اللغة العربية والثقافة العربية واستبدالها بلغات أجنبية ولهجات محلية يعني أننا نتراجع ولا نتقدم ج- إن نجاح الشعر الحر في أرض العرب وهو نبتة غير عربية، يعني أن الأرض العربية قد لُقِحَتْ بالثقافة الغربية؛ لذا فهذا التغيُّر لا بد وأنْ يكون لقيطاً ولا يرتبط بالثقافة العربية في شيء . ومن المؤكد أن هذا التغيُّر، قد أصاب جميع مناحي الحياة؛ لذلك نحن نفتقد اليوم إلى مكانة مرموقة بين الأمم، وإنَّ البحث في هذا الأمر يزحف بنا إلى واقعنا السياسي؛ لهذا أكتفي بما وصلتُ إليه تاركاً دراسة أسباب هذا الواقع للسياسيين المخلصين لهذه الأمة. يتبع __________________
|
|||||
08-01-2008, 03:03 PM | #3 |
يحيى الحكمي لا شيءَ يُفرح ! تاريخ التسجيل: Jan 2007 المشاركات: 7,645 |
متابِع .. بارك الله فيك. |
08-01-2008, 04:07 PM | #4 | ||||||||||||||||||||||
خالد حجار أديب فلسطيني تاريخ التسجيل: Jul 2008 المشاركات: 452 |
الحلقة الثانية
المقدمة الطللية المقدمة لغة:"قَدَمَهم يَقْدُمُهم قَدْماً وقُدوما وَقَدِمَهم، كلاهما: صار أمامهم.ويقال قدم فلان فلانا أي تقدمه، وقَدَم، بالفتح، يَقْدُم قدوما أي تقدم، ومقدِمة الجيش بكسر الدال: الذين يتقدمون الجيش. يقول الأعشى:
وفي معجم العين:" القُدمة والقَدَمُ: السابقة في الأمر، والقُدُم ضد الأخر بمنزلة قُبُلٍ ودُبُرٍ"( ) الطلل لغة:الطّلُّ:"المطرُ الصِغار القطر الدائم وهو أرسخ أنواع المطر ندىً. والطَّلّ: اللبن وقالوا : ما بها طَلٌ ولا ناطلٌ أي ما بها لبنٌ ولا خمرٌ. والطلل ما شخص من آثار الديار، والرسم ما كان لاصقا بالأرض وقيل طلل كل شيء شخصه وجمع كل ذلك أطلالٌ وطلولٌ، والطلالة كالطلل؛ التهذيب، والإطلال: الإشراف على الشيء".( ) المقدمة الطللية اصطلاحاً: هي تلك الأبيات الشعرية التي يستهل بها الشاعر قصيدته الشعرية بالوقوف على الأطلال، قبل أن يدخل في موضوع قصيدته وقد عرف هذا النمط من الشعر عند العرب منذ العصر الجاهلي . ومثالها قول النابغة الذبياني: ( )
إلى أن يقول:
فباستثناء الأبيات الثلاثة الأخيرة سميت هذه المقدمة بالمقدمة الطللية فالنابغة يقف على أطلال الحبيبة باكيا الديار في هذه القصيدة، قبل أن يلج إلى موضوع قصيدته، التي يدافع فيها عن نفسه، أمام النعمان بن المنذر، ملك الحيرة. وقد انتقل النابغة الذبياني من مقدمته الطللية إلى موضوعه عند البيت الخامس الذي يقول فيه:
إن ما يسترعي الانتباه هو: أن النابغة الذبياني قد استطاع أن ينتقل من المقدمة الطللية إلى موضوع القصيدة دون شعور القارىء بهذا الانتقال، وهذا ما أطلق عليه فقهاء الأدب العربي حسن التخلص أو حسن الانتقال بقي أن أذكر أن المقدمة الطللية جرى عليها كثير من التطور والتغيير بعد العصر الجاهلي فمن الشعراء من استبدلها بمقدمة خمرية ومنهم من استغنى عنها ومنهم من ثار عليها ومنهم من تمسك بها وهذا ما سنتطرق إليه في الأجزاء الباقية من هذا البحث المقدمة الطللية في العصر الجاهلي لقد اعتاد الشاعر الجاهلي أن يبدأ قصيدته بالوقوف على أطلال الحبيبة، باكيا ذكراها، مخاطبا دمنة ذاك الطلل، واقفا مذهولا من تلك القوة التي قلبت ذاك الربع من مكان تدب فيه الحياة إلى قفر خالٍ إلا من بقايا رسم يشير إلى حياة كانت هنا واغتربت، وبعد هذا الوقوف الذي قد يقصر أو يطول في القصيدة، كان الشاعر ينطلق إلى مواضيع شتى في قصيدته. ولكنّ اللافت للانتباه هنا هو أن كثيراً من الدراسات وجدت ترابطا بين تلك المقدمة والمواضيع التي يتطرق إليها الشاعر بعدها، في إشارة منهم إلى وحدة الموضوع في القصيدة الجاهلية رغم تعدد لوحاتها، محاولين تسويغ ذلك بقولهم: إنَّ الشاعر الجاهلي كان يستخدم الرمز ليعبر عما يريد.لقد استحوذت المقدمة الطللية على قسطٍ وفيرٍ عند الباحثين، فهناك كثير من الدراسات رسخت جل بحثها في ذلك الموضوع، محاولة فهم ذلك السر الخفي وراء هذا الوقوف، لقد سوغت د.مي خليف وقوف الشاعر الجاهلي على الأطلال قائلةً: "وهنا تتعدد ملامح الصورة في منطقة العزاء، عزاء النفس عن آلام الواقع وضغوطه، ولكنها قد تتغاير أيضا أمام رموز البين، التي تبدو رهناً بذلك الماضي، مما أتعس الشاعر، حين يتذكر لحظة فراق قضت عليه بها الأيام، فبدا إزاءها كئيبا عاجزا مستسلما، لا يسعده تذكرها، بقدر ما يجلب له -ذلك التذكر- المزيد من التعاسة والشقاء، مع مزيد من الإحساس بوقع الاغتراب إزاء ذلك الماضي، كما اغترب هو نفسه تجاه حاضره، وكأنه لم يبق له من زمنه شيء على وجه الإطلاق. ويسود هذا الموقف لدى شعراء المعلقات بدءاً من حوارهم حول عموم الدهر، كأن يعرض له الشاعر في إطار من التوجس والخوف، وكأنه يكنى عنه، خشية أن يتحدث عنه صراحة على طريقة النابغة الذبياني في معلقته حيث يقول:
إذ يجعل البنية اللفظية ناطقة، كاشفة تعاسته؛ تعاسة الشاعر نفسه منذ توقفه عند المساء بالذات، وكأنه يستعين بمشهد الليل المظلم على ذلك، فالشاعر يكرر الفعل (أمسى)وأيضاً الفعل(أخنى) تعلقا في جانب منه بالديار، والجانب الآخر بأهلها، فالكل بدا في موضع المفعولية، وفي سبيله إلى التخاذل؛ ليسند الفعل إلى الدهر الذي جاء على كل شيء فأفسده، وأنذر بفنائه، وكأنه-أي الشاعر- يجعل هذه عادة الدهر التي لا يغادرها. "( ) . وإذا ما تعمقنا بالتراث قليلا نجد تفسيرا للمقدمة الطللية عند ابن قتيبة يقول:"وسمعتُ بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعي به الأسماع إليه، لأن التشبيب قريب من النفوس، لائطٌ بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء فليس يكاد أحدٌ يخلو من أن يكون متعلقا منه بسبب، وضارباً فيه بسهم، حلالٍ أو حرام، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر وسرى الليل وحل الهجير وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأً في المديح، فبعثه على المكافأة.".( ) ورغم أنَّ ابن قتيبة قد فسر الظاهرة تفسيرا دقيقا ومقنعا إلا أن هذا التفسير لم يرق لدعاة الحداثة، فمنهم من قال:" ويقيم د.عز الدين إسماعيل تفسيره لهذه الظاهرة (الوقوف على الطلل) كمقابل للتفسير الخارجي لابن قتيبة ومن لفّ لفّه، فهي ممثلة عنده لارتداد الشاعر إلى ذاته وخلوه إليها وهي - في حقيقتها- تعبِّر عن موقفه من الحياة والكون؛ إذ تدل على نوع من القلق العميق إزاء غوامض الوجود المليء بالمتناقضات واللاتناهي والفناء") (. وإذا تتبعنا هذا القول للدكتور إسماعيل النعيمي:" وهناك من وضع (نظرية في الطللية) يتعذر كما يقول صاحبها تفسير الظاهرة الطللية كحالة فردية تخص هذا العضو أو ذاك في المجتمع، بل علينا فهمها بوصفها نبشاً لمكنون الجماعة وللمخزون المجتمعي والتاريخي، ووفقا لهذه النظرة، فإنه يرى الموقف الطللي أشبه بطقس ديني يتكرر باستمرار،...، فضلا عن إرجاعه بواعث الطللية إلى ثلاثة عوامل هي: القمع الجنسي وقحل الطبيعة والانهدام الحضاري"( ). والدكتور النعيمي يبين لنا بصراحة مقصده عندما يقول:" يبدو أن أراء القدامى ومنهم الجاحظ وابن قتيبة وابن رشيق الذائعة الصيت المتفاوتة في رصدها للمنهج الفني التقليدي الموروث في القصيدة الجاهلية، لم تكن تروي ظمأ الباحثين المعاصرين".( ) والسؤال هنا لماذا؟ إن المنهج العلمي في البحث يحتم علينا أن نثبت صحة النظرية أو عدم صحتها، قبل أن نأتي بنظرية جديدة في الموضوع نفسه، فأما أن نتجاوز نظرية القدماء بهذه الطريقة دونما إثبات صحتها أو عدمه، ثم نأتي بنظرية جديدة، وكأن النظرية الأولى لم تكن موجودة، ودون محاولة نقضها أو إثبات صحتها فهذا برأيي الخطأ بعينه، هذا إذا أراد الباحث أن تكون نظريته مما تجذب الآخرين للأخذ بها، أما إذا أراد الباحث أن يحاول أخذ النظريات من الآداب الأخرى ليطبقها على أدبنا دون وجه حق، وفقط لأنها غربية، فإنني أعتقد أن أدبنا العربي لا يقبل إلا ما هو طاهر ونقي هذا أولاً، أما ما أود الإشارة إليه حقاً هو: أن علماءنا القدماء لم يكونوا بهذه السذاجة التي جعلتهم لا يصلون إلى ما وصل إليه هؤلاء الباحثون. وإذا ما ربطنا نتائجهم بما جاءت به النظريات الغربية فسنصل حتماً إلى ظاهرة الغزو الثقافي التي نتعرض لها اليوم، فهذا فالتر براون يقول:" إن غرض الشعراء الحقيقي من الوقوف على الأطلال لم يكن بقصد رثائها أو تسجيل الحنين إلى المودة التي انقطعت والمحبوبة التي رحلت، لكن غرض هؤلاء الشعراء أن يعبروا عن المشكلة الوجودية الكبرى، وهي: (القضاء والفناء والتناهي) وهو يرى أن هذا التفسير من شأنه أن يعلل ما نلاحظه في أشعارهم الغزلية من تناقض، يقيمه الشعراء أحياناً بين الحزن والفرح، واللذة والألم، والموت والحياة، والفناء والبقاء".( ) ولم يبين لنا هذا الباحث أين هو التناقض الذي يتحدث عنه ويبدو أن العديد من باحثينا كانوا يأخذون كل ما هو غربياً صوابا فقط لغربيته، وكل ما هو من تراثنا وعلمائنا القدماء يجب إعادة النظر فيه لكي نُلبس أدبنا ثوب الآداب الأخرى، فمن يربط بين الآراء السابقة يدرك أن التفسير النفسي مصدره فرويد وما تحدث عنه من الكبت والأنا والقمع الجنسي. فهل هذا ينطبق على شاعرنا الجاهلي؟ إذا ما علمنا أن الإنسان في ذلك الوقت كان لديه من الجواري والنساء والعديد من أشكال الزواج وبنات الرايات التي تتحدث عنها سائر كتب الأدب، ثم إن شعراءنا الأوائل كانوا يتكسبون بشعرهم ومعظمهم كان في حالة يحسد عليها من رغد العيش،بدءاً بامرئ القيس مروراً بطرفة وانتهاءً بالأعشى والنابغة. يتفق الباحث مع د.النعيمي عندما قال: "إن الطلل هو رمز للفناء والموت الذي كان هاجس الإنسان الأول" وأختلف معه حينما قال:"( ) ومن غير المجدي أن نفسر الذهاب والسير والرحيل بالمفهوم المادي، إنما المقصود بهذه المفردات الجانب المعنوي (أي الموت)". إذ لو طبقنا قوله على المقدمة الطللية في معلقة زهير حيث أن الظعائن والرحلة والمسير لم تكن تعني الموت، بل على العكس تماما عنت الحياة حيث انتهاء الرحلة. بعد كل هذا الذي سبق، أرى أنه لا يمكن لأي باحث أن يطبق نظريات من تراث شعوب ٍبعيدة كل البعد عن الأدب العربي، فالأدب الغربي عندما وصل لهذه النظريات كان له ما يبرره حيث انه اعتمد تراث الإغريق القائم على الأساطير ودمجها بالفلسفة، وبدأ بحوثه الحديثة بناءً على هذا الموروث، ومن المفيد هنا القول: إن الذي ترجم الأدب الإغريقي وحافظ عليه هم العرب، ولم يكتفوا بالترجمة طبعا بل أخذوا منه كل ما هو منطبق على أدبنا وأضافوا عليه، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من نظريات، ولا ننسى هنا أن الغرب أخذ الأساطير الإغريقية عن العرب في عصر نهضته وترجمها، وهذا يعني أن تفسيراتهم هذه قد عرفها علماؤنا الأوائل قبل الغرب ولم يأخذوا بها لعدم مطابقتها واقع أدبنا العربي. ونستنتج من كل ما سبق أن محاولات النظر إلى المقدمة الطللية من عيون فرويد أو فالتر براون أو من حاول التقريب ودراسة هذه المقدمة دراسة أسطورية قد وقع في الخطأ. وأرى أن تفسير ابن قتيبة هو الصواب بعينه مع عدم إغفال الوحدة الموضوعية في القصيدة الجاهلية، برغم تعدد لوحاتها، وهذا يعني أن الشاعر الجاهلي كان يرمز في شعره بطريقة فنية لها وقعها في أذن المتلقي، وهذا ما أراده ابن قتيبة، وهناك عدة أسباب تؤكد ذلك منها: 1- أن معظم الشعراء الجاهليين كانوا يتكسبون بشعرهم ولم يكونوا يهدفون إلى ترسيخ مفهوم ديني معين، ولم يتطرقوا إلى المعتقدات إلا ما ندر. 2- لم يكن الإنسان الجاهلي يدافع عن مبدأ ديني، أو فكرة أسطورية ما، ويحاول تدعيمها، ولم تكن هناك مدارس تحاول ترسيخ مفاهيمها، على حساب مدارس أخرى. 3- ولد الشاعر الجاهلي في قبيلة تهتم بنسبها وقوتها وتتفاخر بذلك، وكان يذود عنها ويهجو من عاداها. 4- أن طبيعة الحياة الجاهلية وواقعها وقسوتها جعلت من الشاعر الجاهلي في كثير من الأحيان مندهشا وضعيفا، وهذا الشعور لديه قد تحول شعراً، يصف هذا الواقع فكان خيال الشاعر مادياً، ولم يكن يبحث في أساطير القدماء ويحاول محاكاتها. 5- وهناك دليل آخر لا يقل أهميةً هو: أن الإنسان الجاهلي بعامةٍ والشعراء بخاصة لم يندمجوا مع الأقوام الأخرى ولم يأخذوا عاداتهم ودياناتهم، حيث أن العربي حافظ على معتقداته أمام كل الأفكار والديانات التي كانت موجودة في بيئته؛ كاليهودية؛ والنصرانية، والمجوسية، وغيرها. 6- أن ابن قتيبة قرن تفسيره بواقع الحياة الجاهلية؛ إذ كان هدف الشاعر من مديحه أن يؤثر في ممدوحه لكي يحصل على المكافأة، ولم يكن هدفه نشر ديانة أو فكر معين. 7- لو كان الشاعر الجاهلي يقصد تفسيراً أسطورياً في مقدمته الطللية لما استمر شعراء المسلمين على نهج من سبقهم. 8- أن ما يثبت أن الشاعر الجاهلي كان مادياً هو أن معظم النساء التي ذكرت في شعرهم، كانت معروفة لديهم ففاطمة امريء القيس كانت ابنة عمه وأُمامة عند النابغة كانت ابنته، وهريرة وقتيلة عند الأعشى كانتا جاريتين معروفتين. ولست بصدد تحليل هذه الدراسات أكثر من ذلك، لأنها لا تخدم بحثي؛ لذلك اكتفيت بهذا الحد في هذا الباب، راجيا أن أكون قد أعطيته حقه. وسأنتقل لدراسة بع نشرت فى 18 سبتمبر 2011
بواسطة consulthamadass
الخبيرالدكتورحمادة صلاح صالح www.iraegypt.com
خبير التقييم المعنمد للتقييم لدي البنك المركزى المصرى خبير الملكية الفكرية بوزارة العدل للمحاكم الاقتصادية المتخصصة خبير تقييم الأثر البيئى للمشروعات وتقييم دراسات الجدوى خبيرتقييم معتمد لدى وزارة اﻻستثمار رئيس الهيئة الادارية والاقتصادية بالمجلس العربي الافريقي للتكامل والتنمية ونائب الرئيس للشئون الاقتصادية بالمجلس خبير تقييم دراسات الجدوى خبير وعضو المجلس »
أقسام الموقع
ابحثتسجيل الدخولعدد زيارات الموقع
674,790
|
ساحة النقاش