بقلم: د.حلمى محمد القاعود 78
في زمن ما قبل1952 م, أراد رئيس للوزراء التوصية علي أحد أقاربه من طلاب كلية دار العلوم, ونقل بعضهم هذه الرغبة إلي أستاذ من اساتذة الكلية,
وكان شيخا معمما. كانت التوصية في وقت الامتحانات وتصحيح الاجابات, فطلب الأستاذ الشيخ ورقة اجابة الطالب المعني بالتوصية, واستخدم قلمه الأحمر في تخفيض درجة الطالب درجة واحدة. كانت هذه الدرجة منحة من الأستاذ الشيخ لكل الطلاب, فقد كان يصحح الأوراق بدقة متناهية, ويضيف إلي كل طالب درجة اضافية فوق الدرجة التي يستحقها خوفا أن يكون الأستاذ الشيخ قد قصر في التصحيح ونسي جزئية يستحق الطالب عليها درجة.
بلغ الأمر رئيس الوزراء, فما كان منه إلا أن رفع سماعة الهاتف واتصل بالكلية وطلب محادثة الأستاذ, وفوجئ الأستاذ برئيس الوزراء يعتذر إليه, ويخبره أنه لم يكن يقصد تمييز قريبه علي غيره من الطلاب, وأنه كان يريد الرعاية الأبوية للطالب الذي كانت له ظروف معينة, وكان رئيس الوزراء يمنحه اهتماما انسانيا خاصا, وكان رد الأستاذ الشيخ: انه قد اعطي الطالب ما يستحق, أما الرعاية الأبوية فهي للطلاب جميعا لا تقتصر علي واحد بعينه.
رأيت في زمننا أساتذة يصفقون لسياسيين ومسئولين شبه أميين, ورأيت رؤساء جامعات يخضعون لنواب شبه أميين في مجلس الشعب المزور, أو ضباط شرطة ومخبرين في أمن الدولة, ويكادون يعبدونهم من دون الله, ورأيت أساتذة جامعة يتحولون إلي حملة حقائب في معية زوجات المسئولين الكبار, أو خدم في الحرملك وبلاد السلطان, ويعدون الرسائل والبحوث التي تلصق عليها أسماء الهوانم الجاهلات, والمسئولين الأغوات!.
تري ماالذي جعل الأستاذ الجامعي يهبط من سماء الكرامة والهيبة إلي مستوي لا يليق بموظف بسيط لا تسعفه الثقافة والفكر, ولا تنهض به تربية أو عزة نفس؟.
بعد انقلاب1952 وحل الأحزاب وحرمان الشعب من الحرية والكرامة, واعطاء القانون إجازة كان لابد من اخضاع الجامعة لإرادة الطغيان المستبد الفاشي, فبدأت أولي عمليات التطهير من العناصر المشاغبة الباحثة عن الحرية والديمقراطية, ودخل الأمن إلي أروقة الجامعة الطاهرة ليلوثها, وتحكم في كل صغيرة وكبيرة, وصنع له عيونا وخدما وكتاب تقارير, وتحولت الجامعة إلي حقل ألغام وبؤرة قهر, وازدادت الغمة في عهد المخلوع, وصار الحرس الجامعي وأمن الدولة فوق الرقاب والأعناق, وأصبحت الجامعة محكومة بعميد شرطة والكلية تحت سطوة نقيب أمن..
وليت الأمر وقف عند هذا الحد, فقد تم التحكم في لقمة عيش الأستاذ الجامعي, ولك أن تتخيل أن القانون49 لسنة1972, خصص مرتبا للأستاذ الجامعي(أعلي درجة علمية في المجتمع) مبلغا وقدره مائة وسبعة عشر جنيها وبضعة قروش, وهذا المبلغ لم يتغير مذ وضع القانون حتي اليوم. والزيادات التي تضاف إليه تأتي عن طريق بنود جانبية لا يحسب معظمها في المعاش, وهذا المبلغ الذي خصص في وقت كان فيه ثمن الصحيفة اليومية علي سبيل المثال قرشا واحدا أو قرشين أصبحت فيه الصحيفة بجنيه وجنيهين, مما يعني أن الأسعار تضاعفت مائة مرة أو مائتين, وهو ما كان يفرض أن يصبح مرتب الأستاذ وفقا لسعر الصحف أحد عشر ألفا أو اثنين وعشرين ألفا!
أمام هذا الوضع المزري سياسيا وماديا, كان امام الأستاذ الجامعي عدة خيارات, منها ان يهرب بجلده إلي الخليج أو الجامعات الأجنبية أو الخاصة, ويقضي هناك أزهي سنوات عمره.. أو ينصرف إلي عيادته أو مستشفاه أو مكتبه أو صيدليته أو معمله إذا كان محظوظا في تخصصه, أما إذا لم يكن من أولاء أو هؤلاء فلا مفر أمامه من الارتماء في احضان السلطة البوليسية الفاشية, ينفذ تعليمات الضابط والمخبر أولا, ثم يناضل من أجل منصب جامعي, صغير أو كبير, ثم يتبع البصر كرة وكرتين وثلاثا, بحثا عن وظيفة حكومية اضافية ذات دخل مرتفع, وعائد كبير إن لم يتحقق هذا العائد وذلك الدخل في الوظيفة الجامعية, وقد يجد في المجالس النيابية والقومية والاعلام والثقافة والتعليم والمحليات وغيرها, مجالات فسيحة وممتدة لدخول كبيرة تفوق الإعارات, والعيادات والمستشفيات والصيدليات ومصانع الدواء والمكاتب الاستشارية ومكاتب المحاسبات.
لقد صار الاقتتال علي المناصب الجامعية خاصة منصب رئيس الجامعة والمناصب التي تؤدي إليه, ضاريا ووحشيا, وأصبح التمسك بهذا المنصب يشبه القبض علي أكسير الحياة, فهناك من يصل دخله الشهري إلي مائتي ألف ويمكن أن تصل إلي نصف مليون, ثم ما أسهل ـ حين تكون السلطة راضية عن الشخص الذي يحمل درجة استاذ جامعي أن يعمل مستشارا في هذه الجهة أو تلك.
لا تحدثني عن العلم والبحث العلمي في هذا المناخ الذي تضرب فيه الأعاصير والعواصف والخماسين والحسوم بنية الجامعة وأساسها, وتجعل العلاقة بين أهل العلم مقطعة الأوصال, بعد أن كان العلم رحما يجمع المنتسبين إليه علي اختلاف تخصصاتهم ومستوياتهم, فقد تدخلت السلطة البوليسية الفاشية لتدمر هذه القيمة, وتجعل من البحث عن المال هو القيمة الأولي, وبسبب هذه القيمة شهدت الجامعة مظالم عديدة, وكان سلاح التأديب سيفا مصلتا في يد أبناء النظام الفاسد البائد وخدامه!.
ومع ذلك فهناك من الشرفاء من قبضوا علي الجمر, ولم ينحرفوا عن واجباتهم العلمية والخلقية تجاه الجامعة والمجتمع.
هناك أمور فرعية أخري تتعلق بواقع الأستاذ الجامعي, ولكن اختيار الأستاذ الجامعي وفقا لمعايير الأخلاق والعلم والالتزام, مع منحه ما يستحق من أجر يجعله يعف عن الصغائر, وبيع نفسه لمن يبيعون الوطن, مع صياغة قانون يعطي للتقاليد الجامعية والقيم الخلقية أولوية في بناء الأستاذ الجامعي, المعلم, والباحث, والقدوة, والأمل الذي تنتظره الأمة وتعقد عليه آمالا كبري في صناعة النهضة المرجوة, والوطن القوي العزيز.
المزيد من مقالات د.حلمى محمد القاعود<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش