مقدمة القصيدة الجاهلية عند حسان بن ثابت رضي الله عنه

 

د. محمود عبدالله أبو الخير

أستاذ الأدب والنقد المشارك بقسم اللغة العربية وآدابها

كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية والإدارية - جامعة الملك خالد

 

 

ملخص البحث

يدرس هذا البحث مقدمة القصيدة الجاهلية عند حسان بن ثابت ؛ فيحاول تفسير تخلي حسان عن المقدمة التقليدية في بعض قصائده ، ثم يلقي الضوء على صور المقدمات في قصائده الجاهلية .

ويتناول مظاهر التطور في تلك المقدمات ؛ فيحدد العناصر والمقومات التي تخلى عنها ، والتي أبقى عليها ، والتي ظهرت في بعض المقدمات ، واختفت في بعضها . ثم يكشف عن العناصر الجديدة في مقدماته الجاهلية ، متمثلة في ميله إلى التركيز والتكثيف ، وفي الاقتصاد في التعبير بالصورة الشعرية ؛ وعن العناصر التي انحرف بها عن منهج السابقين ، متمثلة في تضمين مقدماته ذكر أماكن تقع خارج جزيرة العرب ، واشتمالها على التعبير عن إعجابه بأمجاد الغساسنة ، وبكائه على تلك الأمجاد ، وذكر كرائم إبلهم وخيلهم ، واستعادة ذكرياته في ديارهم ؛ وفي عدم تهافته على المرأة ، أو مخاطرته في سبيل الوصول إليها ، ووصف جواري الغساسنة  وتعبيره عن انبهاره بالمرأة الحضرية وزينتها ، وعطرها ، وتفضيلها على البدوية ، ومزج موصوفاته ببعض مظاهر الطبيعة ، واستغلال بعض العناصر الأسطورية في الحياة الجاهلية .

        ويناقش البحث خلال ذلك كثيراً من الآراء في مقدمة القصيدة الجاهلية ، وبعض الآراء في الشعر الجاهلي محاولاً تصحيحها .

•     •     •

   أثارت مقدمة القصيدة العربية اهتمام النقاد والدارسين ، قدماء ومعاصرين ، من عرب ومستشرقين ؛ فأقبلوا عليها ، معللين ، ومحللين ، ودارسين ؛ وكتبت فيها البحوث ، وألفت فيها الكتب .

   وعلى الرغم من ذلك فهي لا تزال بحاجة إلى مزيد من الدراسات والبحوث لتجلية بعض الجوانب ، وتغطية بعض المساحات التي لا تزال بكراً لم ترُدْها الأقدام ، ولم تطأها المناسم .

   ومن تلك المساحات مقدمة القصيدة عند حسان بن ثابت ، رضي الله عنه . فعلى الرغم من كثرة ما كتب حول حسان ، فإن حظ الدراسة الفنية منه قليل ، وأقل هذا القليل ما كتب حول مقدمة القصيدة عنده .

   ولا شك أن مقدمة القصيدة عند حسان تشكل علامة بارزة في مسيرة مقدمة القصيدة العربية ، ولذلك كانت دراستها أمراً ضرورياً للمهتمين بتتبع مسيرة المقدمة التقليدية للقصيدة العربية وتطورها . ومع ذلك لم يلتفت الدارسون إليها ، بل رأيتهم يتنكبون جادتها ، ويزورّون عنها .

   وقدخصصت هذا البحث لدراسة مقدمة القصيدة الجاهلية عند حسان، على أمل أن أفرد مقدمة القصيدة الإسلامية عنده ببحث آخر ، ليقيني أن مقدمات قصائده الإسلامية ، يجب أن تدرس مستقلة عن مقدمات قصائده الجاهلية ؛ نظراً للاختلاف بين هذه وتلك في الغاية ، والتصور ؛ والمنطلق ؛ ولأنها تشكل خطوة متقدمة على طريق تطوّر مقدمة القصيدة العربية .

   واعتمدت في بحثي هذا على طبعتين من طبعات ديوان حسان : الطبعة التي حققها الدكتور سيد حنفي حسنين ، وصدرت عن دار المعارف بمصر سنة 1974م ، والطبعة التي حققها الدكتور وليد عرفات وصـدرت عن دار صـادر ببيروت سنة 1974م أيضاً ؛ لأنهما أتم الطبعات ، وأحسنها ضبطاً ، ولأن كلاً منهما تتمم الأخرى .

واستبعد البحث مقدمة قصيدته الهمزية ، لأنها وإن نص القدماء على أنها جاهلية ، إلا أن منهم من شكك في بعض أبياتها (1) :

   ويدور البحث حول ثلاثة محاور :

         الأول : قصائد حسان التي خلت من المقدمات .

         والثاني : صور مقدمات قصائده الجاهلية .

         والثالث : مظاهر التطوّر في مقدماته الجاهلية .

 

المحور الأول : قصائد حسان الجاهلية التي خلت من المقدمات

   يضم ديوان حسان مائة وخمساً وعشرين قصيدة ، إذا أخذنا بالرأي القائل إن القصيدة تتألف من سبعة أبيات على الأقل (2) . ومن هذه القصائد خمس وثلاثون شكك فيها الباحثون ، وتسعون صححوا نسبتها إليه . والقصائد صحيحة النسبة إليه منها خمس وسبعون إسلامية ، وخمس عشرة جاهلية . ومن قصائده الجاهلية إحدى عشرة قصيدة ذات مقدمة ، وأربع هجم فيها على موضوعه مباشرة ، ولم يمهد لها بأية مقدمة . وتشكل قصائده الخالية من المقدمات 26.66% من قصائده الجاهلية .

وقد عرف الشعر العربي القديم ظاهرةالشروع في القصيدة دون تمهيد، إلى درجة جذبت انتباه ابن رشيق ( ت 456هـ ) ، فسجلها قائلاً : (( ومن الشعراء من لا يجعل لكلامه بسطاً من النسيب ، بل يهجم على ما يريده مكافحة ، ويتناوله مصافحة )) (3)

والمتأمل في تلك القصائد يجد أن حساناً قالها في مواقف تعرض فيها لاستثارات شعورية ، وجد نفسه فيها مضطراً للرّد الفوري لينفس عـن مشاعره المتوترة ، أو عن انفعالات نفسه الثائرة ، التي لم تتح له فرصة التمهيد لتجربته بمقدمة طللية ، أو غزلية ، أو سوى ذلك ؛ فأقبل على قصيدته دون مقدمة ، وباشر موضوعه دون تمهيد .

   فاثنتان من قصائده التي خلت من المقدمات جاءتا رداً على استثارتين مبيّتتين ، فوجئ بهما حسان  :  أما الأولى فكانت ردّاً علـى تعيير زوجـــه ( عمرة ) (4) له بأخواله ، والفخر عليه بالأوس . وكان حسان يحب أخواله ، ويغضب لهم ، فطلقها ، وقال القصيدة يفتخر ، ومطلعها (5) :

أَجْمَعَتْ عَمْرَةُ صَرْماً فَابْتَكِرْ


إِنما يُدْهِنُ لِلْقَلْبِ الحَصِـــرْ


لاَ يَكُنْ حُبُّكِ هَذا ظَاهِـــــــراً


ليسَ هَذا مِنْكِ يا عمرُ بسرْ


سَألتْ حسانَ من أخوالــــه ؟


إنّما يُسْألُ بالشَّيْءِ الغُمُــر


ومن الواضح أنه قالها في سورة غضبه الذي أدى به إلى طلاق زوجه على الرغم من أن كلاً منهما كان محباً لصاحبه ، كما يقول الخبر (6) .

   والمطْلع نفسه يحمل أكثر من إشارة إلى ذلـك ، فهو يأمـر نفسه بعدم الاستجابة لنداء قلبه ، لأنه لا يخضع لنداء العاطفة إلا الضعيف (الحَصِر) ؛ ويعلن ثورة عارمة على تلك الزوجة التي تجاهلت أخواله فسألته عنهم وهي تعرفهم ؛ لأنه إنما يُسأل عن الشيء المجهول . وهو ليس ممن يغضون على الإساءة ، وإن جاءته من أحب الناس إليه . وفي مثل هذه الأجواء الانفعالية ، والجيشان الشعوري ، لا يتوقع المرء أن يمهد الشاعر لتجربته بأية مقدمة .

 

وأما الثانية فقالها عندما مرّ بنسوة فيهن مطلقته (عمرة ) ، فأعرضت عنه ، وقالت لامرأة منهن : إذا حاذاك هذا الرجل فاسأليه من هو ؟ وانسبيه إلى أخواله . فلما حاذاهنّ سألته ، فانتسب لها ، فقالت له : فمن أخوالك ؟ فأخبرها ، فبصقت عن شمالها وأعرضت، فحدد النظر إليها، وعجب من فعالها ، وجعل ينظر إليها ، فبصر بمطلقته عمرة ، وهي تضحك ، فعرفها ، وعلم أن الأمر من قبلها أتى (7) ، فقال القصيدة ، ومطلعها (8) :

قَالَتْ لَهُ يَوْمَاً تخَاطِبُهُ


نُفُجُ الحَقِيبَةِ غَادَةُ الصُّلْبِ


والموقف الذي تمخضت عنـه القصيـدة يكاد يكون تكراراً  للموقف الذي تمخضت عنه قصيدته الأولى والاختلاف بينهما يقتصر على بعض التفصيلات ، والشخصيات ، ولكن جوهر التجربة وباعثها في نفس حسان واحد .

   والقصيدة الثالثة التي خلت من المقدمة في شعر حسان الجاهلي قالها في الرد على قصيدة لقيس بن الخطيم(ت620هـ) يوم السرار(9)، ومطلعها(10) :

لَعَمْر أبيكِ الخَيْرِ يا شَعْثَ مَا نَبَا     عَلَيَّ لِسَاني في الخُطُوبِ وَلاَ يَدِي

وفيها يمزج الفخر بالتهديد ، فهو يبدأُها بالفخر بمجمل القيم الجاهلية من شجاعة ، وكرم ومقدرة شعرية ، وقدرة على قطع الصحاري الموحشة على ناقة قوية ظهرت في جلدها آثار الأنساع ، يواصل عليها السير ليلاً ونهاراً حتى تبلغه أبواب ملك الحيرة ، ويختمها بتهديد قيس بن الخطيم ، وقومه الأوس ، بأنهم سيلقون من الخزرج ليوثاً تدافع عن عرين وتحمي أشبالاً، ويعيرهم بالهزيمة، والقعود عن الأخذ بالثأر ، وعن بلوغ العلياء ، ثم يتهم قيس بن الخطيم بأنه لا شأن له بالحرب ، لأنه إنما يجيد مغازلة النساء، ومعابثتهن ، والتكحل مثلهن .

 

   ومن الواضح أن حساناً وجد نفسه مضطراً إلى الرد السريع على خصمه ابن الخطيم ، الذي هجا الخزرج وافتخر عليهم بعد قتال بالسرارة استمر أربعة أيام ، نال فيها كل فريق من خصمه ، وأثخـن فيه (11) . وأمام تلـك الظروف الحرجة لم يجد حسان من الوقت ما يتيح له التريث بين يدي القصيدة ، أو التمهيد لها بمقدمة ما ، لإلحاح الرد على نفسه ، وإحساسه بضرورة مقابلة فخر قيس وهجائه بفخر وهجاء مثلهما أو أشد .

   والقصيدة الرابعة من هذه القصائد قالها حسان في هجاء شاعر أوسيّ آخر هو أبو قيس بن الأسلــت (12) (  ت قبل الهجرة بقليل ) ، بعد لقاء بين الأوس والخزرج بالبويلة (13) ، اقتتل فيه الفريقان قتالاً شديداً ، ودارت فيه الدائرة على الأوس ، فقالها حسان يهجو أبا قيس والأوس ويفتخر عليهم ، ومطلعها (14) :

أَلاَ أَبْلِغْ أَبَا قَيْسٍ رَسُولاً


إِذَا أَلَقى لَها سَمْعاً يَبِينُ


   وبعد أن يلتمس من يبلغ عنه رسالة إلى أبي قيس يذكره بهزيمة الأوس يوم الجسر ، حيث قتل الخزرج والده . وما يلبث أن يهدده بغارة تحيط بالأوس من كل ناحية ، يخضع لها عزيزهم ، وتسقط لهولها الأجنة من بطون الحوامل ، وتشيب الناهد العذراء ، ويتشتت فيها شمل الأوس . ثم يوجـه خطابه إلى أبي قيس قائلاً : تلك غارة يجود فيها غيرك بنفسه ، وتضن فيها بنفسك الخبيثة خشية الموت ، فتسمع الصرخات والاستغاثات ، وتدعى للقتال ، ولكنك تتظاهر بالصمم ، وليس بك صمم . ثم يعيره بمن قتل من الأوس .

   ومما لا ريب فيه أن حساناً وقد ضجّت في نفسه أحاسيس النصر ، وثب إلى موضوعه دون مقدمة من شأنها أن تؤدي إلى خبّو انفعاله ، أو أن تذهب بحرارة التجربة في نفسه .

   لقد عرف الشعر العربي منذ أقدم عصوره إقدام بعض الشعراء على الاستغناء عن المقدمات ، وإقبالهم على موضوعات شعرهم دون تمهيد ، وبخاصة عندما تجيش نفوسهم بانفعالات قوية ، في مواقف طارئة لا تحتمل التريث . ويبدو أنّ ذلك كان شائعاً ومألوفاً ، لأن النقاد أطلقوا عليه عدداً من الأسماء ، ومنها : (( الوثب ، والبتر ، والقطع ، والكسع ، والاقتضاب )) (15) . ووصفوا القصيدة إذا جاءَت على تلك الحال بأنها بتراء ، وشبهوها بالخطبة البتراء . قال ابن رشيق : (( والقصيدة إذا كانت على تلك الحال بتراء كالخطبة البتراء والقطعاء )) (16) .

   وما كثرة هذه الأسماء والأوصاف إلا دليل على شيوع ظاهرة إهمال المقدمات ، وكثرة القصائد التي سلك إليها قائلوها هذا المنهج .

   وكما نص النقاد على هذا النمط من القصائد ، وسموه بأسمائه ، ووصفوه بأوصافه ، نصوا كذلك على أنّ العرف لم يجْرِ بأنْ يقدم للمراثي بمقدمات تقليدية ، قال ابن رشيق (( ليس  من عادة الشعراء أن يقدّموا قبـل الرثاء نسيبا كما يصنعون في المدح والهجاء )) (17) . ونقل عن ابن الكلبي (18) (ت 206هـ ) قوله : (( لا أعلم مرثية أولها نسيب إلا قصيدة دريد بن الصمة(19) (ت 8هـ،630م) :

أَرَثَّ جَدِيدُ الحَبْلِ من أُمِّ مَعْبَدِ


بِعَاقِبةٍ وَأَخْلَفَتْ كُلَّ مَوْعِدِ ))(20)


   ويعلل ابن رشيق ذلك تعليلاً نفسياً منطقياً ، فيقول : (( لأنّ الآخذ في الرثاء يجب أن يكون مشغولاً عن التشبيب بما هو فيه من الحسرة والاهتمام بالمصيبة ، وإنما تغزل دريـد بعد قتل أخيه بسنة ، وحين أخذ ثأره ، وأدرك طلبته )) (21) . وطبيعي جداً أن يتخلى شاعر الرثاء عن المقدمات بكل ألوانها وأشكالها ، لأن المقام في الرثاء (( ليس مقام متعة ولهو )) (22) .

   وأرى أن تعليل ابن رشيق السابق للمسألة تعليل قائم على فهم صحيح لطبيعة التجربة الشعرية ، وعلى اعتداد بعنصر الصدق الشعوري في العمل الأدبي . وهو ـ في نظري ـ صالح لتعليل خلو قصائد حسان السابقة ، وسواها من المقدمات ، وذلك لأن نفس حسان وإن لم تكن حزينة في قصائده السابقة إلا إنها كانت متوترة ، ومشغولة بما هي آخذة فيه من الفخر والهجاء الذي فجره الموقف في نفسه .

   ومع ذلك فإننا نجد باحثا ذا باع طويل في دراسة مقدمة القصيدة العربية، هو الدكتور حسين عطوان يرفض هذه الفكرة ، ويكاد يصر على أنها ترجع في بعض جوانبها إلى ضياع المقدمات من تلك القصائد ، ويكاد يطمئن إلى ذلك في تعليل هذه الظاهرة (23) ، بانياً موقفه ذاك على أساسين :

 

أولهما: وقوفه على شاهد واحد على ما يذهب إليه ، هو قصيدة النابغة الذبيانـي(ت18ق.هـ/604م) التي رواها الأصمعي على أنها تبدأ بقوله(24):

لقد نَهَيتُ بني ذُبيانَ عَن أُقُرٍ


وعن تَربُّعِهِم في كلِّ أَصْفَار


دون أن يثبت لها مقدمة ، في حين رواها أبو الخطاب القرشي ( عاش قبل منتصف القرن الخامس الهجري ) (25) كاملة ، مع مقدمة ضافية (26) .

   ويضيف الدكتور عطوان قائلاً : (( ومن الطريف أن مقدمتها التي وصف فيها الأطلال ، وصاحبته ، ورحلته في الصحراء ، وناقته ، ومنظراً من مناظر الصيد ، تبلغ ما يقرب من خمسين بيتاً )) (27) .

   ويستظهر من ذلك ((أنَّ كثيراً من القصائد سقطت مقدماتها )) (28) ، معقباً بأنه (( ليس في ذلك شك )) (29) .

 

وثانيهما : (( أنَّ كثيراً من نصوص الشعر الجاهلي ضاع في أثناء رحلته من الجاهلية إلى عصر التدوين )) (30) .

   ولا شكَّ أن وجود شاهد واحد حتى ولو كان صحيحاً لا يمكن أن ينهض دليلاً على صحة ما ذهب إليه الدكتور عطوان من أن (( كثيراً من القصائد سقطت مقدماتها )) ، كما أنه ليس مسوغاً للجزم بذلك إلى حد القول (( وليس في ذلك شك )) ، لأن تعميم حالة قصيدة النابغة تلك على جميع القصائد التي خلت من المقدمات قياس خاطئ قيس الكل فيه على حالة واحدة ، فضلاً عن أنه يتجاهل ما أقرّه نقاد ثقات كابن رشيق من أن (( من الشعراء من لا يجعل لكلامه بسطاً من النسيب ، بل يهجم على ما يريده مكافحة ، ويتناوله مصافحة وذلك عندهم هو الوثب ، والبتر ، والقطع والكسع ، والاقتضاب وكل ذلك يقال )) (31) .

   ثم إن تلك المقدمة المزعومة (( يمكن أن تكون دليلاً على العكس تماماً ، لأنه من المقبول أن يقال إنّ هذه قصيدة وتلك أخرى ، والطول مرشح لذلك ، أو إن هذا الجزء أضيف إلى ذاك .. وخلاف الروايات نفسه ربما يصح دليلاً للشك في أنها قصيدة واحدة )) (32) . كما يقول الدكتور محمد أبو الأنوار .

   أما ضياع كثير من نصوص الشعر الجاهلي (( في أثناء رحلته من الجاهلية إلى عصر التدوين )) (33) التي اتكأ عليها الدكتور عطوان في ما توصل إليه من أن (( كثيراً من القصائد سقطت مقدماتها وليس في ذلك شك )) (34) ، فهي حقيقة تاريخية لا يختلف عليها اثنان ، وقد سبق أن نبه عليها محمد بن سلام ( ت 231هـ ) حين بيّن أنّ العرب لما راجعوا رواية الشعر (( لم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك، بالموت والقتل ، فحفظوا أقلّ ذلك ، وذهب عليهم فيه كثير )) (35) . كما أثارهـا أبو عمرو بن العلاء ( ت154هـ /770م ) حين قال : (( ما انتهى إليكــم مما قالت العـرب إلا أقلُّه ، ولو جاءَكم وافراً لجاءَكم علم وشعر كثير )) (36) .

   ولكن السؤال الذي يبحث عن إجابة هنا هو : هل الإقرار بضياع ما ضاع من نصوص الشعر الجاهلي يمكن أن يتخذ ذريعة للقول بأن كثيراً من القصائد التي خلت من المقدمات قد سقطت مقدماتها ، أو أنها جزء من ذلـك التراث الشعري الذي ضاع ، هكذا على الإطلاق دون دليل مادي ملموس ؟!

ثم كيف لنا أن نمضي مع الدكتور عطوان في اتهام رواية الأصمعي وتوثيق رواية أبي زيد ابن أبي الخطاب القرشي ؟

مع أن القرشي هذا مثار لخلاف عريض حول حقيقة اسمه ؛ وحول حياته ووفاته وحول نسبة مجموعة ( جمهرة أشعار العرب ) إليه .

   فمن قائل إنه عاش في أواخر القرن الثالث أو أوائل الرابع (37) ، ومن قائل إنه عـاش قبل منتصف القرن الخامس الهجري (38) ، إلى قائل إنه توفى سنة (170هـ ) (39) .

   أما اسمه ففيه من الاضطراب الكثير : فهو تارة أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي ، وتارة محمد بن أبي الخطاب من غير كنية ، ومن غير نسبة بعد الاسم وتارة ابن أبي الخطاب،وتارة محمد بن أيوب العزيزي ثم العمري(40) .

   وأما حقيقته فلا يقل الخلاف حولها عن الخلاف حول وفاته واسمه ، فهل هو جامع جمهرة أشعار العرب ، أو شارحها ، أو راويتها ؟ (41) مسألة تتضارب حولها الأقوال .

   وكذلك الأمر فيما يتعلق بنسبة الكتاب وعنوانه ، فالكتاب ينسب حيناً إلى أبي زيد القرشي ، أو محمد بن أبي الخطاب ، وينسب حيناً آخر إلى محمد بن أيوب العزيزي ثم العمري ، وينسب حيناً ثالثاً إلى أبي عبدالله المفضل بن عبدالله ابن محمد المجبَّر بن عبدالرحمن بن عمر بن الخطاب (42) .

   والمشهور أن عنوان الكتاب هو ( جمهرة أشعار العرب ) ، وقد وردت هذه التسمية عند ابن رشيق في العمدة وعند البغدادي في الخزانة (43) ، ولكن الدكتور ناصر الدين الأسد يذكر أنه اطلع في معهد المخطوطات العربيـة على صورة أصلها مكتبة ( كوبريلي ) عنوانها ( جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام وما وافق القرآن على ألسنتهم واشتقّت به لغتهم وألفاظهم ) ، ويقول إن تلك الصورة((تتفق مع النسخة المطبوعة في العنوان والمحتويات))(44).

   هذا فضلاً عن أن جميع من نسبت إليهم هذه المجموعة مجهولون ، فأبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي (( مجهول ليس لـه أدنـى ذكر في جميع كتب الطبقات والرجال ، فلم يذكر مع المحدثين ورواة الحديث ، ولا مع اللغويين ، والنحويين ، ولا مع الشعراء والأدباء ، ولا مع مؤلفي الكتب ، وجامعي الدواوين )) (45) .

كما أن المفضل بن عبدالله المجبّري (( مجهول لم تذكره الرجال والطبقات )) (46) .

والأمر كذلك بالنسبة إلى محمد بن أيوب العزيزي العمري ، فهو أيضاً مجهول لم يعثر له على ترجمة (47). وهل هو ((غير محمد بن أبي الخطاب القرشي، أو أنه هو هو ؟ ويكون أبوه أيوب هو أبا الخطاب كنيةً ؟ )) (48) . لم يصل البحث في ذلك كله إلى نتيجة حاسمة .

   وخلاصة القول أن نسبة الجمهرة إلى صاحبها (( عقدة تحتاج إلى حل ، والتعريف بصاحبها وترجمته ، عقدة أخرى لا تقل عن الأولى ، وأكثر الرواة الذين يروى عنهم مجاهيل لم نجد لهم ذكراً فيما بين أيدينا من كتب الرجال والطبقات )) (49) كما يقول الدكتور ناصر الدين الأسد ، (( وهي عقدة ثالثة تنافس في الصعوبة سابقتيها )) (50) .

   أفبعد هذا الاضطراب الشديد ، والتناقض في الأخبار والروايات ، حول ( جمهرة أشعار العرب ) وجامعها ، يســوغ في عقل أو منطق أن تقدم روايتها على رواية الأصمعي ، بل أن يؤسس على ذلك التقديم بناء حكم عام على ظاهرة أدبية من أهم الظواهر في شعرنا القديم ، وينضوي تحتها كم وفير من القصائد ؟ ، اللهم لا !

   ولماذا يقدَّم جامع هذه المجموعة المجهول ، المختلف في اسمه ، ووجوده ، ووفاته على أديب راوية مشهور (51) ، متفوق على أقرانه في رواية الشعر والمعاني (52) . معروف بتشدده وتحريه الدقة في روايته وأنه (( لا يفتي إلا فيما أجمع عليه العلماء ، ويقف فيما يتفردون به عنه )) (53) . (( صناجة الرواة والنقلة ، وإليه محط الأعباء والثقلة ، كانت مشيخة القراء وأماثلهم تحضره وهو حدث لأخذ قراءَة نافع عنه ، ومعلوم قدر ما حذف من اللغة فلم يثبته ، لأنه لم يقو عنده إذ لم يسمعه )) (54) .

   ويلاحظ على قصائد حسان التي خلت من المقدمات أنه يغلب عليها موضوع الفخر ، فللفخر منها ثلاث قصائد ، وللهجاء قصيدة واحدة . كما يغلب عليها التوسط في الطول . وطول اثنتين منها اثنان وعشرون بيتاً ، وطول واحدة منها واحد وعشرون بيتاً ، وطول أقصرها سبعة أبيات . ونستطيع القول إن متوسط عدد أبيات قصائده الخالية من المقدمات ثمانية عشر بيتاً في تحقيق وليد عرفات ، وسبعة عشر في تحقيق سيد حنفي حسنين .

   وإذا كان حسان قد استغنى عن المقدمات في بعض قصائده ، فقد افتتح تلك القصائد بالصور الآتية :

الأولـى : ذكر المرأة . فهو يذكرهـا في مطلع اثنتين من قصائده ، ويقرن ذكرها بالقسم بصيغة " لعمري " في الأولى ، ويذكر عزمها على هجره في الثانية .

الثانية : الحوار . حيث يستهل إحدى تلـك القصائد بحوار يدور بينه وبين المرأة ، يبدأ بلفظ ( وقالت ) .

الثالثة : صيغة التبليغ " ألا أبلغ". يفتتح بها قصيدته في هجاء قيس بن الخطيم. وقد جاءَت هذه الاستهلالات مناسبة للتجارب الشعرية التي عبرت عنها القصائد التي استهلت بها .

   وهذه الصور من الاستهلال لا تعدو أن تكون أبياتاً مفردة ، لا تدخل في عداد المقدمات (55) .

 

المحور الثاني : صور المقدمات في قصائده الجاهلية

   بلغت قصائد حسان الجاهلية ذوات المقدمات إحدى عشرة قصيدة ، تشكل 73.33% من مجموع قصائده الجاهلية :

   والمتأمل في هذه القصائد يلحظ ما يأتي :

أولاً ـ من حيث الأغراض : يطغى عليها الفخر. فله منها سبع (56) قصائد تشكل 63.63% من مجموعها. وللفخر المتصل بغرض آخر قصيدتان : إحداهما للفخر المتصل بالغزل (57)، والأخرى للفخر المتصل بالمدح(58).وللمدح الخالص منها قصيدة واحدة (59) . وللغزل ووصف الرحيل قصيدة واحدة أيضاً (60) .

   وهذا يدل على أنّ المقدمة غير مرتبطة من حيث وجودها وعدمه بغرض القصيدة ؛ وإنما هي مرتبطة بالموقف الذي يوحي للشاعر بالقصيدة ، وبقوة التجربة الشعرية ، وحيويتها في نفس الشاعر .

ثانياً ـ من حيث الطول : قصائد حسان الجاهلية ذوات المقدمات طويلة نسبيا بالقياس إلى قصائده الجاهلية التي خلت منها . وهي تتراوح بين عشرة وأربعة وأربعين بيتاً.ومتوسط عدد أبيات تلك القصائد أربعة وعشرون (61) بيتاً تقريباً ، في تحقيق سيد حنفي حسنين ، وخمسة وعشرون في تحقيق وليد عرفات(62) . وقد يحمل هذا مؤشراً آخر هو أنّ القصيدة عند حسان كلما طالت كانت أكثر استدعاء للمقدمة .

ثالثاً ـ من حيث المناسبة : ليس في قصائد حسان الجاهلية ذوات المقدمات سوى قصيدة واحدة اتخذت شكل النقيضة ، قالها يوم خَطْمة (63) ، في الرد على قصيدة للشاعر الأوسي أبي قيس بن الأسلت (64) التي مطلعها (65) :

قَالتْ ولمْ تَقْصُدْ لِقِيل الخَنَا


مَهْلاً فَقَدْ أَبلغْتَ أسْماعِـــــــــــي


    ومطلع قصيدة حسان النقيضة (66) :

بَانَتْ لمَيسُ بحبْلٍ منْكَ أَقْطَاعِ


واحْتلَّت الغَمْر تَرْعَى دَارَ أشْراعِ


   وقصيدة ابن الأسلت ليست ذات مقدمة . ولكن قصيدة حسان لها مقدمة تقع في ثلاثة أبيات ، يتبعها بيت التخلص .

 

   ولئن كان في هذا بيان فإنه يبدو أن حالة حسان النفسية عند إنشاء القصيدة هي التي كانت تحدد منهجه في بناء القصيدة .

   وجميع قصائده ذوات المقدمات لم ينظمها حسان ـ فيما يبدو ـ على عجل ، ولم تكن تجربته فيها وليدة موقف طارئ ، أو انفعال مفاجئ ، وإنما قالها بنفس هادئة ، بعد أن ترك للتجربة أن تنضج في نفسه ببطء ، بعيداً عن التوتر الذي ينتج عن إلحاح المناسبة ، وعن ثورة الانفعال في النفس . ولعل مما يؤكد ذلك أن جميـع هذه القصائد لم يذكر في ديباجتها سوى عبارة (( وقال )) (67) أو (( وقال حسان )) (68) أو (( وقال حسان يفتخر )) (69) أو (( وقال يمدح جبلة ابن الأيهم )) (70) ، وهي عبارات لا تدل في العادة على ارتباط القصيدة بموقف مفاجئ أو طارئ، عدا القصيدة التي رد فيها على أبي قيس بن الأسلت ، فقد جاء في ديباجتها خبر يوم خَطْمة ، ووردت فيها عبارة (( فأجابه حسان بن ثابت )) (71) .

   ويبدو أن رد حسان لم يأت سريعاً ، لأنه لا يتضمن أية إشارة إلى ما جاء في قصيدة أبي قيس ، أو إلى يوم خطمة ، وإنما هي فخر عادي لا يختلف عن فخر حسان في معظم قصائده الأخرى ؛ على حين جاءَت قصائـده الجاهلية الخالية

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 98/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
33 تصويتات / 5320 مشاهدة
نشرت فى 13 فبراير 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,792,253