موقع الأستاذ عبد الفتاح أمير عباس أبو زيد

موقع لغوي أدبي تربوي قبمي

الدرس (18) : التواضع

كتب: د. علي بن عمر بادحدح06 مارس, 2013 - 24 ربيع الثانى 1434هـ

 

نمضي بعون الله عز وجل مع شمائل رسول الهدى صلى الله عليه وسلم نستضيء بنوره ونتطيب بعطر أريجه، ونقتدي بأخلاقه العظمى ومحاسنها الكبرى.

وموضوعنا في هذا المقال تواضع المصطفى صلى الله عله وسلم.

التواضع لغة:

اشتقاقه من الفعل الثلاثي وضع، وهو يدل على الخفض للشيء وحطه، فإذا قلت: وضعت الشيء أي: خفضته وحططته عن منزلته التي كان عليها.

ومنه يقال للرجل الدنيء وضيعاً، والوضيع هو الرجل الدنيء.

والتواضع في اللغة: التذلل، وهو خفض الجناح ولين الجانب الذي يكون فيه المرء في منزلة أدنى من منزلته الحقيقية، ويكون ذلك باختياره.

والتواضع صيغته تفاعل وصيغة التفاعل في اللغة تكون بين اثنين، ونحن نقول: تجادل فلان وفلان أو تقاتل فلان وفلان، لكنا نقول: تواضع فلان، لماذا؟ لأن المقصود هنا ليس فيه التفاعل بين اثنين، وإنما المقصود إظهار الصفة والخصلة كما نقول: تغافل أي أظهر الغفلة وليس بغافل، وتواضع أي أظهر الدعة والانخفاض وليس هو كذلك، هو رفيع لكنه لحسن خلقه يخفض ويضع من منزلته ليؤنس الآخرين، وليؤثر فيهم وليجعلهم قادرين على أن ينتفعوا به، ويستفيدوا منه ويتحدثوا إليه، ويتعاملوا معه دون أن يجدوا حرجاً في مقامه العظيم أو مكانته الرفيعة أو جاهه العريض أو ثرائه الوفير، هو مع كل ذلك، ومع كل هذا السمو والرفعة يطلب أو يظهر للآخرين الضعة والذلة وانخفاض المنزلة من كرم خلقه وحسن معاملته للآخرين، والتواضع سمة لمن أظهر الضعة والانخفاض لله عز وجل ولرسوله صلى الله عله وسلم ولإخوانه المؤمنين كما سنذكر.

الفرق بين التواضع والضعة:

الضعة المنزلة الدنيئة في أصلها، فإذا قلنا رجل وضيع يعني -أعاذني الله وإياكم-  دنيء في خلقه دنيء في نسبه دنيء في علمه ليس عنده شيء من أمور المحامد والخصال الحسنة، أما التواضع فصاحبه صاحب مقام عال وسام ورفيع ولكنه يخفض من مقامه لأجل تألف الناس وحسن معاملتهم.

التواضع اصطلاحا:

قال الراغب عن التواضع: هو رضا الإنسان بمنزلة دون ما يستحقه فضله ومنزلته، بمعنى أنه يضع نفسه في منزلة أقل وأدنى مما هي عليه منزلته الحقيقية في علمه وفضله وقدره وشرفه وعلمه ونحو ذلك، وبعضهم جعل هذا التعريف شاملاً لجميع الصور والأحوال التي يقع فيها التواضع فقال: هو انكسار القلب لله وخفض جناح الذل والرحمة للخلق، فجعل الذل بين يدي الله تواضع، ولين الجانب وخفض الجناح للمؤمنين وللخلق تواضعاً.

قال المناوي في تعريفه: هو إظهار التنزل من المرتبة لمن يريد تعظيمه.

التواضع في القرآن الكريم:

التواضع خلق محمود وصفة عظيمة ورد في القرآن الكريم الحث عليها والأمر بها وصدر هذا الأمر، ووجه لسيد الخلق صلى اللهعله وسلم في قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر: 88).

وقوله سبحانه وتعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215).

وجاء النهي عن كل ما يتعارض مع التواضع كما في قوله سبحانه: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} (الإسراء: 37).

وكما في قوله: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحا} (لقمان: 18).

ومن جهة أخرى جاء التنويه والإشادة والمدح لمن اتصف بهذه الصفة، وجعلت أول صفة من صفات عباد الرحمن الذين أثنى الله عليهم ومدحهم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان: 63).

أول صفة: صفة التواضع التي تمثلت في هذه المشية التي ليس فيها استعلاء على الخلق، ولا استكبار على الحق.

وجاء تعظيم هذه الصفة عند الله سبحانه وتعالى، وبيان أنها مرتبة محبوبة عنده وشريفة وعالية القدر في منزلة الإنسان عند الله سبحانه وتعالى كما في قوله سبحانه وتعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54).

أول صفة من صفاتهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54).

هؤلاء ذكرهم الله عز وجل على سبيل التعظيم والمحبة لصفاتهم، والله عز وجل جعل في مقام من أعرض ولم يكن في المرتبة التي يستحقها، فسوف يبعده الله ويأتي بأقوام هو الذي يختارهم، وسيجعل خصالهم هي الخصال الحميدة المحبوبة له سبحانه وتعالى والرافعة لقدرهم ومقامهم عنده فقال أول صفة: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين}.

وذم الله عز وجل الكبر نقيض التواضع  وبيّن سوء عاقبته، فقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} (الزمر: 60).

وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} (النحل: 23).

وقال: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} (الزمر: 72).

لماذا لا يتواضع الناس؟

ما الذي يمنع الناس من التواضع؟ هل ظنهم أنه سبب لازدراء الناس لهم وطريق لاحتقارهم ودنو منزلتهم، فماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ (ما تواضع أحد لله إلا رفعه).

فإذا كنت تلين وتنزل من قدرك للناس ابتغاء وجه الله، والإحسان لإخوانك المؤمنين زادك الله رفعة؛ لأن بعض الناس يظن أن علو القدر يأتي بالأمور التي يحيط بها نفسه، قد يظهر غزارة علمه أو فصاحة لسانه أو يبرز ما عنده من مال أو ثروة، أو يتحسن في زيه ولباسه، كل ذلك يريد أن يصل به إلى منزلة، ولا يعلم أن هذا لا يزيده عند الناس إلا مقتاً واحتقاراً؛ لأن من أراد أن يعلو على الناس فإنه يكون في نفوسهم دنيئا،ً ومن أراد أن يشعر الناس بأنه دونهم ويتألفهم ويخفض جناحه لهم عرفوا أنه عالي القدر كما قال الشاعر:

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر * * * على صفحات الماء وهو رفيع

وقال أحدهم:  الكبر مثل الدخان يعلو في الجو لكنه هباء لا قيمة له ليس فيه معنى ولا فائدة ولا قيمة.

قال عليه الصلاة والسلام : (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد) رواه مسلم.

مراتب التواضع:

ذكر ابن القيم رحمه الله وجوهاً من مراتب التواضع فقال:

الدرجة الأولى:

التواضع له عز وجل وللدين، بأن لا يعارض ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وألا يقدم عقله على ما جاء به الشرع، وألا يكثر المماحكات والمجادلات فيما جاءت به الشريعة من الأحكام والتشريعات.

الدرجة الثانية:

وهي أن ترضى بما رضي به الله لك أن تكون عبداً له، وأن تكون للمسلمين أخاً، وألا تكون باغياً ولا مفتخراً، فإذا رضيت لنفسك ذلتك لله وإخوانك المؤمنين ولين جانبك معهم فأنت قد أخذت بالتواضع.

الدرجة الثالثة:

أن تتواضع للحق فإذا جاء الحق قبلته ولو كان ممن هو دونك، ولو كان هذا الحق يخالف هواك، ولو كان هذا الحق قد يضيع مصلحتك، فالتواضع هو أن تخضع للحق وتنقاد له، وهذا هو حقيقة التواضع وليس مجرد الأشكال والصور.

تواضع النبي صلى الله عله وسلم:

توطئة:

من ليس عنده شيء مما يُفتخر به أو يعلو به مقامه فهل له تواضع؟ رجل لا علم له ولا جاه ولا مال عنده ولا شرف ولا شيء ثم يقول: أنا متواضع. يتواضع على أي شيء؟ إن التواضع الحقيقي لمن كانت عنده منزلة، وكان عنده شيء ما يجعل الناس يرون له مكانة، ثم هو يدني نفسه ويخفض جناحه، فكيف إذا كانت منزلته أعلى المنازل، ومرتبته أعلى المراتب، ومقامه أعلى المقامات، تواضعه حينئذ يكون أعلى التواضع، أليس كذلك؟

نحن نرى الناس إذا رأوا رجلاً ثرياً وتاجراً، ثم رأوه يعامل الناس بتواضع وبسماحة يعلو في أعينهم، فإذا رأوا أميراً يفعل ذلك كان أعلى، فإذا رأوا ملكاً يفعل ذلك كان أعلى، فكيف بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم وخاتم الرسل والأنبياء وسيد ولد آدم، ثم هو مع كل ذلك يخفض منزلته حتى يكون كأدنى رجل من المسلمين، لاشك أن هذا يبرز لنا كم كانت عظمته عليه الصلاة والسلام في تواضعه ليس لها مثيل بين البشر.

ويظهر لنا أيضاً مسألة مهمة وهي أن العظمة ليست بالأسباب الخارجة عن الإنسان، يعني ليست بلباسه لأنه خارج، ليست بماله لأنه شيء خارج، وإنما العظمة الحقيقية في ذات الإنسان، وذاته عليه الصلاة والسلام كانت عظيمة في إيمانه وفي خلقه وفي عقله، وفي كل شيء كان عظيماً، لا يحتاج إلى عظمة تأتي من خارجه حتى تعطيه شيئاً يزيده مكانة بين الناس.

فكما ذكرنا لما كان مقامه أعلى المقامات، كان أقل تواضع يدل على منزلة عظيمة، فكيف وتواضعه كان أعلى وأسمى شيء في التواضع.

أولاً: تواضعه في ذاته وطلبه من أصحابه وأمته ألا تبالغ في تعظيمه:

قال في الحديث الصحيح المشهور: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسله).

وهذا فيه تواضع، وفيه أيضاً تعليم وإرشاد للحفاظ على جانب العقيدة الصحيحة، حتى لا يخرج التعظيم الذي نكنه لرسول الله عليه الصلاة والسلام محبة له وإجلالاً لمقامه واعترافاً بفضله وحقه عما أراده وبينه، وهدانا وأرشدنا إليه.

ولما قال الرجل: ما شاء الله وشئت قال: (أجعلتني لله نداً قل: ما شاء الله ثم شئت).

وعن أبي هريرة أن جبريل عليه السلام جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل فقال له جبريل: هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة، لمّا نزل قال: يا أحمد أرسلني إليك ربك أملك أجعلُك أم عبداً؟ فنظر جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: تواضعْ لربك يا محمد، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل عبداً رسولاً) أخرجه ابن حبان وأحمد وصححه الهيثمي.

وهذا من أعظم ما كان يدل ابتداء على أن التواضع موجود في أصل نبوته ورسالته بأمر ربه.

وقد ورد في الصحيح: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متَّى).

وهو عليه الصلاة والسلام خير منه، وهو عليه الصلاة والسلام قال أيضاً مع التواضع : (أنا سيد ولد آدم ولا فخر).

ومعنى كلامه صلى الله عيه وسلم: هذه حقيقة لكني لا أقولها لأفتخر بها أو أعلو بها على الناس، وإن كان حقها ذلك، وهذا يدل على عظمة تواضع النبي عليه الصلاة والسلام.

 ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تخيروني على موسى ( يعني: لا تقولوا أنا خير من موسى) فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أ كان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله).

ولا يعني فضل موسى عليه السلام المذكور أنه أفضل من الرسول صلى الله عله وسلم، وإنما الرسول عليه الصلاة والسلام يبرز فضل غيره من الرسل والأنبياء من تواضعه، ويبين إقراره بالحق والفضل لمن أعطاهم الله الفضل من رسله وأنبيائه عليهم صلوات الله جميعاً.

ثانيا: تواضعه صلى الله عليه وسلم في نظر أصحابه:

نريد أن نرى ما الذي لمسه النفر الذين اصطفاهم الله عز وجل ليكونوا رفقة وصحبة النبي صلى الله عله وسلم.

في حديث ابن أبي أوفى يصف فيه النبي صلى الله عله وسلم فيقول: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ الذِّكْرَ، وَيُقِلُّ اللَّغْوَ، وَيُطِيلُ الصَّلاةَ، وَيُقْصِرُ الْخُطْبَةَ، وَلا يَأْبَى أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الأَرْمَلَةِ أَوِ الْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ. رواه ابن حبان.

وعن أبي هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلى ذراع لقبلت) رواه البخاري.

لو دعي إلى وجبة فيها كراع، كراع بمعنى عظم من عظم الشاة يعني ليس إلى وجبة دسمة، لو أن إنسانا دعاك ثم قدم إليك شيئاً بسيطا، فإن كثيرا من الناس يرى هذا إنقاصا لقدره، وعدم مراعاة لحقه.

ثالثا: تواضعه عليه الصلاة والسلام عند النصر:

ونمضي بعد ذلك إلى الصور العظيمة التي تجلى فيها تواضع النبي عليه الصلاة والسلام، ومن أجلى ذلك وأعظمه ما منّ الله به على رسوله عليه الصلاة والسلام في الفتح الأعظم فتح مكة يوم انتصر على ألد أعدائه وخصومه، ويوم دخل إلى مكة البلد الحرام الذي خرج منه مهاجراً طريداً، فلو كان ملكاً من ملوك الأرض أو قائداً من قواد البشر كان حقه أن يزدهي بذلك وينتشي، وأن يفتخر به ويستعلي لكنه كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: دخل مكة وهو مطأطئ رأسه حتى كاد أن يمس قادمة رحله، وفي بعض الروايات: حتى مست لحيته ظهر دابته.

في مقام الفخر والعز كان عليه الصلاة والسلام يطأطئ رأسه ليُعلم أن الفضل إنما هو من الله، وأن الاستحقاق هو أن يذل العبد لله بسبب ما أعطاه الله عز وجل إياه وليبين النبي عليه الصلاة والسلام لأمته أن الدنيا ليست مجالاً للفخر ولا للاعتزاز وإنما هي للذل له سبحانه وتعالى، والخضوع والانكسار بين يديه سبحانه وتعالى.

وهذا من المواقف العظيمة التي تدل على تواضعه عليه الصلاة والسلام.

قال ابن كثير معلقاً على هذا الموقف: وهذا التواضع في هذا الموطن عند دخوله صلى الله عليه وسلم مكة في مثل هذا الجيش الكثيف العرمرم بخلاف ما اعتمده سفهاء بني إسرائيل حين أمروا أن يدخلوا بيت المقدس وهم سجد، وأن يقولوا: حطة، يعني حط عنا خطايانا، فاستكبروا على أمر الله فدخلوا يزحفون على أستاههم (أي على مقاعدهم)، ويقولون: حنطة أو حبة في شعير.

وهذا فرق بين ما هدانا الله عز وجل إليه بهدي رسول الله صلى الله عله وسلم وما كان عليه القوم.

رابعا: تواضعه بين يدي لله سبحانه وتعالى:

وهذا من أجل أنواع التواضع كما روى أبو سعيد لخدري رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عله وسلم وأثر الطين في جبهته من سجوده.

النبي عليه الصلاة والسلام في تعبده وذلته وخضوعه لله كان لا يأبه بذلك، بل يحرص على مثل هذا التواضع.

خامسا: تواضعه مع أصحابه:

فكان غاية في التواضع، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة وأبو ذر في أمر يدلنا على عظمة التواضع وغرابته في الوقت نفسه، قالوا: كان يأتينا الرجل الغريب فيدخل إلى المدينة أو إلى المسجد فلا يعرف رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا يستطيع أن يميزه ليس له لباس معين أو مكان معين أو شيء من ذلك، فطلبنا أن نجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دكاناً، الدكان: المسطبة مكان مرتفع (والناس يفعلونه مثل الدكة الآن عند البيوت)  فكان يجلس عليه، ونجلس بجانبه.

وفي قصة الهجرة لما قدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة لم يستطع الناس أن يفرقوا بينه وبين أبي بكر، حتى إذا جاءت الشمس قام أبو بكر يظلل النبي عليه الصلاة والسلام فعرفوه.

وفي حديث أنس أيضاً قال: لم يكن شخص أحب إليهم رؤيته من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه لما يعلمونه من كراهيته لذلك.

وكان إذا دُعي إلى طعام أجاب، بل دعي النبي عليه الصلاة والسلام إلى إهالة سنخة (متغيرة الطعم) طعمها قد تغير من تأخرها قليلاً، فأجاب وطعم مع الناس صلى الله عليه وسلم.

وفي صفته صلى الله عليه وسلم، يقول أنس -وقد كان خادماً لرسول الله عليه الصلاة والسلام-: كان يعود المريض ويشهد الجنائز، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد.

وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف وعليه إكاف من ليف، يعني ليس هناك أي شيء من مظاهر البهرج أو العظمة، ولكنه عليه الصلاة والسلام كان مع ذلك أعظم الناس، وكان يردف معه كثيرا من الناس، والإرداف دليل على التواضع أردف معه أسامة بن زيد، وأردف معه صفية زوجته لما عقد عليها عليه الصلاة والسلام.

ثم كان النبي عليه الصلاة والسلام متواضعاً في الجوانب العملية كثيراً، من ذلك ما رواه ابن مسعود في قصة غزوة بدر، كان كل ثلاثة يعتقبون بعيراً، وكان مع النبي عليه الصلاة والسلام أبو لبابة وعلي بن أبي طالب، فإجلالاً للرسول عليه الصلاة والسلام وتعظيماً له قالوا: نحن نمشي وأنت تركب، لما جاءت عقبة رسول الله عليه الصلاة والسلام لينزل ويمشي قالوا: نحن نمشي عنك قال: (ما أنتما بأقوى مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما) رواه أحمد.

وهو كلام في غاية النفاسة والروعة (ما أنتما بأقوى مني) هذا دليل على قوته عليه الصلاة والسلام (ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما) أجر ومشقة في سبيل الله عز وجل كان الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أيضاً أن يضرب المثل، وأن يبين القدوة وأن يظهر لين الجانب وخفض الجناح وحسن المعاملة ليس هناك فروق، ليس هناك مراتب ولا مقامات، فهل ضاع مقامه عليه الصلاة والسلام بين أصحابه؟ وهل رأوا معاملته كأحد غيره؟ كلا بل كان أحدهم كما نعرف في قصة ثابت بن قيس، ولا بأس بذكرها لما نزل قوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي} (الحجرات: 2) اعتزل ثابت مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعد يشهد المجلس، لماذا؟ لأن ثابتاً كان خطيباً جهوري الصوت، صوته مرتفع بطبيعته فتفقده النبي واستدعاه، مالك؟ قال: يا رسول الله إني امرؤ جهوري الصوت أخشى إن تحدثت إليك أن يعلو صوتي صوتك فيحبط عملي فأهلك، كانوا يرون مكانة النبي صلى الله عله وسلم أعظم من كل شيء عندهم رغم كونه كان متواضعاً معهم.

سادسا: تواضعه في بيته وأهله:

وهذه مسألة مهمة.. كم من الأزواج في السماء السابعة بالنسبة لزوجته وأبنائه لا ينظر إليهم، ولا يعنيه شأنهم، يرى أنه لا ينبغي أن يكون إلا في شدة وحزم، ولا يكاد أحياناً يتبسم، أما إن دعي إلى أن يقوم بعمل من أعمال المنزل فهذه ربما كبيرة من الكبائر، لكن كيف كان وصف عائشة رضي الله عنها لرسول الله عليه الصلاة والسلام عندما سئلت قيل لها: كيف يكون الرسول في بيته؟ ما هي صفته؟ قالت: يكون في مهنة أهله، يعني في خدمتهم، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، وفي الرواية الأخرى: كان يخصف نعله ويرتق ثوبه، فإذا حضرت الصلاة كأنه لا يعرفنا، وفي رواية ثالثة: قالت: كان بشراً من البشر يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه.

حتى قال بعض العلماء: فيه دليل على أن خدمة المرأة لزوجها بل ولأولادها، ليست واجبة شرعاً، وإنما هو تبرع على ما ذكره بعض الفقهاء باختلاف بينهم.

ومن هنا قال: يخدم نفسه، ومع ذلك كان أزواجه يخدمنه رضوان الله عليهن.

سابعا: تواضعه في لباسه وهيأته:

كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (البذاذة من الإيمان).

والبذاذة هي: عدم العناية بالهيئة. يعني تواضع الهيئة في اللباس، في المركب.

ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: {من ترك اللباس (يعني الذي فيه مزية وخصوصية) تواضعاً لله، وهو يقدر عليه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها) أخرجه الترمذي وحسنه.

وكان سمته عليه الصلاة والسلام في لباسه فيه هذا التواضع، كان أحب الثياب إليه القميص، وهو الذي نهى أيضاً الرجال عن الحرير وغير ذلك، حتى عندما لبس حلة حمراء سيراء وكانت فيها خطوط وأعلام بعد أن صلى فيها أعطاها لغيره، لماذا؟ قال: (رأيت نفسي أعجبتني) أو ظهر أن هذا كأنما رآه لا يتفق مع مقامه في تواضعه لله سبحانه وتعالى.

وتقول عائشة جعلتُ للرسول صلى الله عليه وسلم بردة سوداء من صوف فلبسها، فلما عرق فيها وجد ريح الصوف فقذفها، وكانت تعجبه الريح الطيبة، يعني كونه في سمت بسيط لا يعني أنه في هيئة لا تليق بمقامه عليه الصلاة والسلام.

ثامنا: تواضعه مع الضعفاء:

كان النبي عليه الصلاة والسلام يتواضع مع النساء العجائز والكبار والصغار، ومن ذلك أنه كما ورد في الصحيح كانت المرأة تأتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله حاجة فيقول لها: يا أم فلان اختاري أي سكك المدينة شئت فيخلو بها ويستمع إليها ويقضي حاجتها، وكانت تأتيه الوليدة من ولائد المدينة فيمشي معها حتى يقضي حاجتها.

تاسعا: تواضعه مع الأطفال:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يتواضع لهم، خرج مرة مغضباً، فإذا في وجهه أطفال من صغار الأنصار، وبعض خدمهم وعبيدهم، فتبسم في وجوههم، واعتنق بعضهم وقال: (اللهم إني أُحبهم فأَحبهم).

ويذكر عبدالله بن جعفر رضي الله عنه أحد تلك المواقف فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تُلُقِّيَ بصبيان أهل بيته، وإنه قدم من سفر فسُبِق بي إليه، فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه، فأدخلنا المدينة ثلاثةً على دابة) رواه مسلم.

العظماء إذا أرادوا أن يبرزوا بعض تواضعهم لابد أن يأتوا بالصغار ويحملوهم ليظهروا عطفهم على الصغار، وكان هذا سلوكا نبويا يدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم.

آثار التواضع:

ولاشك أن صفة التواضع لها أثر كبير في المجتمع المسلم، ومن أعظم هذه الآثار:

1- قوة المحبة والأخوة الإيمانية.

2- الانتفاع المتبادل بين المؤمنين.

فإن كنت جاهلاً تستطيع أن تسأل العالم لأنه متواضع، وإن كنت محتاجاً تستطيع أن تسأل الغني لأنه متواضع، ومن ثَم سوف يحصل التعاون والتكامل بين الناس.

3- إعطاء صورة حسنة لمجتمع المسلمين أمام غير المسلمين.

لأن غير المسلمين كما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت عندهم ملكيات وطبقيات ومراتب، فلما جاء الإسلام وبيّن لهم أن الناس سواسية وأنهم إخوة في الله عز وجل، لفت ذلك أنظار غير المسلمين وجعلهم يقبلون على الإسلام، ويحبون الدخول فيه لما فيه من المحاسن ومنها التواضع هذه السمة العظيمة والفريدة.

amer123123

اللهم احفظ المسلمين من شر وسوء المنافقين والخونة والعملاء والكافرين يارب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 131 مشاهدة
نشرت فى 20 يونيو 2013 بواسطة amer123123

ساحة النقاش

عبد الفتاح أمير عباس أبوذيد

amer123123
موقع لغوي تربوي وأدبي وقيمي الرؤية والرسالة والأهداف: رؤيتنا: الرؤية : الارتقاء بالمنظومة التعليمية والتربوية بما يؤسس لجيل مبدع منتمٍ لوطنه معتزاً بلغته فخوراً بدينه رسالتنا: السعي لتقديم خدمات تربوية وتعليمية ذات جودة عالية بتوظيف التقنية الحديثة ضمن بيئة جاذبة ومحفزة ودافعة للإبداع الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها · إعداد »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

14,674,665