موقع الأستاذ عبد الفتاح أمير عباس أبو زيد

موقع لغوي أدبي تربوي قبمي

authentication required

الدرس (17) : الحلم

كتب: د. علي بن عمر بادحدح16 فبراير, 2013 - 6 ربيع الثانى 1434هـ

 

الحلم خلق عظيم له توابع كثيرة، فالحلم وطيد الصلة بالعفو والصفح، وهو كذلك غير بعيد عن كظم الغيظ وضبط النفس.

والحلم في معناه اللغوي أصل اشتقاقه من هذا الفعل الثلاثي"حلم" يدور على معنى ترك العجلة. فالحلم له هذه الدلالة في الأناة والتروي.

قال ابن فارس في معجمه: الحلم خلاف الطيش، والطيش المقصود به الاندفاع بدون روية برعونة وخفة بدون أناة وبصيرة.

ولذلك أيضا نجد من المعاني ما يدل على هذا المعنى الأصيل، إذ كيف تقع الأناة؟ وكيف يمتنع الإنسان من الطيش؟ من هنا قال الجوهري معنى الحلم: العقل. وقيل هو: الأناة والعقل معا؛ لأن هذا المعنى هو نقيض السفه والخفة، وقد جاء الحلم بمعنى العقل في كتاب الله عز وجل كما في قوله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (الطور:32).

{تأمرهم أحلامهم} أي عقولهم. فالحلم عقل يدعو إلى التأني وترك العجلة وعدم الاندفاع بطيش ورعونة.

وأما الحلم في المعنى الاصطلاحي فهو كذلك قريب من هذه الدلالة، وما قاله العلماء في تعريفه يدور على هذا المعنى، ويمكن أن نجمع من تعاريف العلماء وما ذكره الجرجاني والجاحظ وغيرهم تعريفا يؤدي إلى هذا المعنى.

الحلم: طمأنينة تأتي عند سورة الغضب، وتمنع الانتقام مع القدرة عليه.

طمأنينة تحل عند سورة الغضب أي (شدته) تمنع من الانتقام مع القدرة عليه.

ومن أسماء الله سبحانه وتعالى (الحليم) وحلم الله سبحانه وتعالى تأخيره للعقوبة على من يستحقها، ثم بعد تأخيره قد يعفو سبحانه وتعالى عمن أخّر له العقوبة، وقد يؤاخذه بحسب مشيئته سبحانه وتعالى.

وما من شك أن حلم الله عز وجل عظيم إذ هو ينعم ويُجحد، ويعطي ويُنسى، ويخلق ويرزق، ويُشكر غيره سبحانه وتعالى ومع ذلك ما زال فضله على الخلائق، ونعمه عليهم متوالية، فلذلك من حلمه جل وعلا تأخير العقوبة، والعفو منه سبحانه وتعالى عمن شاء بل الله عز وجل يعفو عن كثير من السيئات، ويُمهل رغم وجود المعاصي، ولا يُعاجل بالعقوبة، وهذا من حلمه سبحانه وتعالى.

ووقفة يسيرة مع بعض ما ذكره العلماء في البواعث على الحلم، ما الذي يدعوك إلى الحلم؟ ويمنعك من إمضاء غضبك والبطش بمن أخطأ في حقك؟.

هناك دوافع كثيرة جدا ذكرها الماوردي وقدم لها بكلمات جميلة، قال فيها: "الحلم من أشرف الأخلاق، وأحقها بذوي الألباب؛ لما فيه من سلامة العرض وراحة الجسد واجتلاب الحمد" وهذه جمل موجزة لكنها عظيمة في معانيها.

قال لما فيه من سلامة البدن: فلا تغضب ولا يرتفع ضغطك ولا تتلف أعصابك، وأيضا يؤدي إلى سلامة العرض، فإذا اندفعت مع الغضب فرددت الصاع صاعين والقول بأشد منه صار يلحقك من ذلك ما يلحقك في عرضك وجسدك، وفيه بعد ذلك اجتلاب الحمد، فإن الناس يثنون على الحليم إذا ترك ما يجري به غضبه أو ما يدعو إليه غضبه.

ما هي هذه البواعث؟ بواعث كثيرة نذكر بعضا من البواعث المحمودة.

الباعث الأول:

الرحمة بالجهال الذين يخطئون ويسيئون في غالب الأحوال، هم جهلة عندهم خفة وطيش، وهؤلاء بصورة من الصور هم مرضى يحتاجون إلى علاج، وهم جهال يحتاجون إلى سعة وحلم يأخذ ما عندهم من هذا الجهل فلا يعيدهم إليه، فيزدادون جهلا ويزدادون في غيهم وطيشهم.

الباعث الثاني:

القدرة على الانتصار: فالذي يقدر على الانتصار على نفسه، يدل ذلك على سعة صدره وحسن ثقته بنفسه.

الباعث الثالث:

الترفع عن مجاراة غير الحلماء والحكماء والعقلاء فيترفع وهذا من شرف النفس وعلو الهمة.

الباعث الرابع:

الاستحياء من مجاراة الجواب: فهذا يشتم وأنت عف اللسان، تستحي أن تقول مثل قوله، والحياء خلق حميد سيأتي معنا ذكره أيضا.

الباعث الخامس:

التفضل على المخطئ والساب والشاتم: تتفضل عليه كما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا جاء وشتمه وأغلظ له القول، فماذا قال ابن عباس؟ قال يا عكرمة انظر حاجة الرجل فاقضها له. ماذا يريد؟ هذا يريد عطاء فأعطه، فاستحيا الرجل من حلم ابن عباس وإحسانه إليه، مع ما كان منه من الخطأ والزلل.

الباعث السادس:

الرعاية للفضل السابق واليد السالفة، فبعض الناس قد يكون أحسن إليك في زمن مضى، وقدّم لك عونا، فإذا أخطأ عليك حتى ولو كان الحق لك تحلم عنه؛ لما كان له من الفضل والخير، وهذا من حسن الوفاء.

والحلم أمره عظيم، وكثرت فيه مقالات السلف، ومقالات العلماء والحكماء والعقلاء.

فمما أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وألا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله وإذا أسأت استغفرت الله".

وقال: إن أول ما عُوِّض الحليم من حلمه أن الناس كلهم أعوانه على الجاهل.

ومن مشاهير العرب الذين عرفوا بالحلم الأحنف بن قيس رحمه الله، كان مشهورا بأنه يحلم حلما عجيبا لا يكاد يغضب مهما وقع من الخطأ، أو مهما قيل له من السب أو الشتم.

كان يسير مرة وجاء رجل من السفهاء وتكلم عليه بكلام قبيح وظل يعيد ويكرر والأحنف يسير دون أن يرد عليه حتى اقترب الأحنف من محلته، ومكان سكنه فالتفت إلى الرجل وقال: يا هذا إن كان بقي معك شيء فهاته، فإني أخشى إن دخلنا إلى حينا أن يضربك الناس، فاستحيا الرجل وانصرف.

ومن مشاهير الحلماء الحكماء الأذكياء: معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وهو المشهور بشعرته التي أصبحت مضرب المثل (شعرة معاوية) يقول معاوية: لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم.

ومن مقالاته أيضا: عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة، فإن أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال.

روت عائشة رضي الله عنها كما عند البخاري في صحيحه قالت: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها".

روى أبو الشيخ في كتابه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وضُعِّف من قبل بعض رواته، قال عبد الرحمن بن أبزى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلم الناس وأصبرهم وأكظمهم للغيظ.

والأحداث والشواهد في الأفعال والأقوال تبرز ذلك وتؤكده وتجليه.

الحادثة الأولى:

يقول أنس: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه برد نجراني غليظ، فأدركه أعرابي فجبذه من برده عليه الصلاة والسلام، قال: فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنقه، أو صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حتى رأيت على صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم أثر حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال الأعرابي: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه النبي عليه الصلاة والسلام وضحك ثم أمر له بعطاء".

هذا كان من حلم النبي صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوس هؤلاء الأعراب الأدب والتعليم لهذا الأدب مع ما يغرسه في نفوسهم من تعظيهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة محتهم له.

الحادثة الثانية:

عند البخاري ومسلم واللفظ للبخاري، قال أبو هريرة: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه، فأغلظ له، أي بكلام لا يليق بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهمَّ به أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، أي هموا أن يضربوه ويبطشوا به، فقال: (دعوه فإن لصاحب الحق مقالا) هذا صاحب حق عنده حجة وله أن يتكلم وأن يطالب، ثم قال: (أعطوه سنا مثل سنه) كان النبي قد أخذ منه جملا قالوا: يا رسول الله لا يوجد إلا أمثل من سنه، أي ما هو أفضل قال: (أعطوه فإن من خياركم أحسنكم قضاء) أحسنوا في القضاء رغم أنه لم يحسن في الطلب، فأحسن له النبي عليه الصلاة والسلام في القضاء والعطاء ولاشك أن هذا من الحلم، بعض الناس إذا أخطأ الإنسان ومعه حق ينكرون حقه ويقولون له: اذهب فلا حق لك عندنا، ردا على سوء تصرفه.

الحادثة الثالثة:

ورد في الحديث الصحيح من حديث عروة بن الزبير، يقول: خاصم رجل رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة، والمقصود يعني: في مجرى للماء في الزرع، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه، فقال عليه الصلاة والسلام للزبير وهو ابن عمته قال له: اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري قال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك؟ يعني : تحابيه وتعطيه ما ليس له وتفضله عليّ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وتلون وجهه ثم قال: (اسق يا زبير ثم احبس حتى يبلغ الجدر) فاستوعب رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ حق الزبير لأنه في البداية كان يطلب من الزبير السماح والتنازل، لكنه لما خالف هذا الأنصاري، قال للزبير خذ حقك كاملا، ولم يغضب النبي عليه الصلاة والسلام بحيث يرد عليه أو يجاريه فيما قاله من قول لا يليق قطعا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحادثة الرابعة:

وأشد من هذا ما هو معلوم من قصة ذلك الرجل الذي قال للرسول عليه الصلاة والسلام: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (ويحك من يعدل إن لم أعدل؟) وقال عليه الصلاة والسلام: (يرحم الله موسى أوذي بما هو أشد من هذا فصبر) فتحلم النبي عليه الصلاة والسلام، واستحضر حلم موسى عليه السلام مع ما كان من نزق وجهل بني إسرائيل في حقه.

الحادثة الخامسة:

أبو هريرة رضي الله عنه واسمه عبدالرحمن بن صخر الدوسي من قبيلة دوس يقول عن سيد قومه قال: جاء الطفيل بن عمرو الدوسي يدعو قومه بعد أن أسلم، فقال: يا رسول الله إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليهم، فاستقبل الرسول صلى اللهعليه وسلم القبلة وقال: "اللهم اهد دوسا وائت بهم".

الحادثة السادسة:

ورد في سنن النسائي عن عمر بن الخطاب قال: لما مات عبدالله بن أبي بن سلول دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتُ إليه. فقلت: يا رسول الله على ابن أبي؟ وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا أعدد عليه، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أخر عني يا عمر، فلما أكثرتُ عليه قال: (إني قد خيرت فاخترت فلو علمت أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت عليها) فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزل قول الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: من الآية 84).

فما أوسع حلمه عليه الصلاة والسلام! وهذا يدل أيضا على فيض رحمته وعظمة شفقته وكمال لطفه ورغبته في الخير للناس جميعا.

الحادثة السابعة:

هذا حديث ترويه السيدة عائشة رضي الله عنها تقول: ابتاع الرسول عليه الصلاة والسلام من أعرابي جزورا على وسق من تمر الذخيرة، يعني: القيمة وسق من تمر، وكان هذا في مكان خارج المسجد، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام إلى منزله، فالتمس التمر فلم يجده، كان في ذهنه أنه عنده هذا القدر من التمر، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام إلى الأعرابي فقال: "يا عبدالله إنا ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذخيرة، ونحن نرى أنه عندنا فلم نجده"، فصاح الأعرابي: وا غدراه يعني هذا غدر، فوكزه الناس وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذا؟! قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "دعوه"، وفي رواية فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم رجلا من أصحابه إلى خولة بنت حكيم قال: "إن كان عندها وسق من تمر فتسلفنا إياه حتى نؤديه إليك" فأرسل فوجد عندها فقال للرجل: "خذه" فذهب به فأوفاه له، قال فمر الأعرابي بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهو جالس مع أصحابه فقال: جزاك الله خيرا فقد أوفيت وأطيبت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أولئك خيار عباد الله عند الله يوم القيامة الموفون المطيبون".

الحادثة الثامنة:

حديث رواه أبو الشيخ وفيه رجل ضعفه بعض المحدثين، وقال البزار في هذا الحديث لا نعلمه يروى عن رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا من هذا الوجه، والحديث من رواية أبي هريرة وهو قصة فيها كثير من مواقف الحلم.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَسْتَعِينُهُ فِي شَيْءٍ فَأَعْطَاهُ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ؟ قَالَ الأَعْرَابِيُّ: لا، وَلا أَجْمَلْتَ. قَالَ: فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ وَقَامُوا إِلَيْهِ, فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ: أَنْ كُفُّوا، ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الأَعْرَابِيِّ فَدَعَاهُ إِلَى الْبَيْتِ، فَقَالَ: إِنَّكَ جِئْتَنَا فَسَأَلْتَنَا فَأَعْطَيْنَاكَ، فَقُلْتَ مَا قُلْتَ، فَزَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ؟ قَالَ الأَعْرَابِيُّ: نَعَمْ، فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا، فَقَالَ له النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ جِئْتَنَا فَسَأَلْتَنَا فَأَعْطَيْنَاكَ، وَقُلْتَ مَا قُلْتَ وَفِي أَنْفُسِ أَصْحَابِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَقُلْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا قُلْتَ بَيْنَ يَدَيَّ؛ حَتَّى يَذْهَبَ مِنْ صُدُورِهِمْ مَا فِيهَا عَلَيْكَ. قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَوِ الْعَشِيُّ جَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا كَانَ جَاءَ فَسَأَلَنَا فَأَعْطَيْنَاهُ، فَقَالَ مَا قَالَ، وَإِنَّا دَعَوْنَاهُ إِلَى الْبَيْتِ فَأَعْطَيْنَاهُ، فَزَعَمَ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ، أَكَذَلِكَ؟ قَالَ الأَعْرَابِيُّ: نَعَمْ، فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:أَلا إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ هَذَا الأَعْرَابِيِّ؛ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَهُ نَاقَةٌ شَرَدَتْ عَلَيْهِ، فَاتَّبَعَهَا النَّاسُ فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلا نُفُورًا، فَنَادَاهُمْ صَاحِبُ النَّاقَةِ: خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاقَةِ فَأَنَا أَرْفَقُ النَّاسِ بِهَا وَأَعْلَمُ، فَتَوَجَّهَ لَهَا صَاحِبُ النَّاقَةِ بَيْنَ يَدَيْهَا, فَأَخَذَ لَهَا مِنْ قُمَامِ الأَرْضِ، فَرَدَّهَا هَوْنًا حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَنَاخَتْ، وَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا وَاسْتَوَى عَلَيْهَا، وَإِنِّي لَوْ تَرَكْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَا قَالَ, فَقَتَلْتُمُوهُ دَخَلَ النَّارَ.

الحادثة التاسعة:

من أحبار اليهود الذين دخلوا في دين الإسلام عن تمام رضا وكمال طواعية: زيد بن سعنة الذي عرف جميع علامات النبوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى اثنتين، فلم تطب نفسه بالدخول في الإسلام حتى يعلمهما. فكان حريصا على أن يَخبُرَهما ليرى هل هما موجودتان فيه أم لا. فكان هذا الموقفُ الذي يحدثنا عنه بقوله: "ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً.

قال زيد بن سعنةَ: فخرج رسول الله  صلى الله عليه وسلم يوماً من الحجرات، ومعه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأتاه رجل على راحلة كالبَدَويِّ، فقال: يا رسول الله! لي نفر في قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام، وكنت حدثتهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغداً، وقد أصابتهم سنة وشدة وقحط من الغيث، فأنا أخشى يا رسول الله أن يخرجوا من الإسلام طمعاً، كما دخلوا فيه طمعاً! فإذا رأيتَ أن ترسل لهم بشيء تغيثهم به فَعَلْتَ. فنظر إلى رجل إلى جنبه أُراه علياً. فقال: يا رسول الله! ما بقي منه شيء، قال زيد بن سعنةَ : فدنوت إليه فقلت: يا محمد! هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان إلى أجل معلوم؟ قال: لا تُسَمِّ حائط بني فلان. قلت: نعم، فبايَعَني. فأطلقت همياني ، فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، فأعطاها الرجل وقال: اعدل عليهم وأغثهم بها. قال زيد بن سعنة: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان في نفر من أصحابه، فلما صلى على الجنازة ودنا إلى الجدار ليجلس إليه، أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ، قلت له: يا محمد، ألا تقضينى حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبدالمطلب إلا مُطْلا! ولقد كان لي بمخالطتكم علم!!.

ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره، فقال: يا عدو الله! أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع ؟ وتصنع به ما أرى؟ فوالذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك! ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليَّ في سكون وتؤدة. فقال: يا عمر! أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا. أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن اتباعه، اذهب به يا عمر فأعطه وزده عشرين صاعاً من تمر مكان ما رعته. قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر. فقلت: ما هذه الزيادة يا عمر؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رعتك. قلت: وتعرفني يا عمر؟ قال: لا، قلت: أنا زيد بن سعنة، قال: الحبر؟ قلت: الحبر. قال: فما دعاك إلى أن فعلت برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت؟ وقلت له ما قلت؟ قلت: يا عمر لم يكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفته في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما. وقد اختبرتهما. فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً. وأَشْهَدُ أن شطر مالي -فإني أكثرها مالاً- صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قال عمر: أو على بعضهم فإنك لا تسعهم. قلت: أو على بعضهم. فرجع عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وأعلن شهادته وإسلامه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فضائل الحلم وثمراته:

ونختم بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يوجه ويعلم، ويفضل الحلم ويرغب فيه، فقد كان حليما، وكان - أيضا- يعلم الناس الحلم فيقول: "إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم".

ويقول عليه الصلاة والسلام كما في الحديث المشهور المحفوظ من حديث أبي هريرة: أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني وأحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام: "لئن كنت كما تقول فكأنما تسفهم المل -أي تطعمهم في أفواههم التراب الحار أو الرمل الحار- ولا يزال معك من الله ظهير عليهم مادمت على ذلك".

وروى أبو يعلى وذكر المنذري أن رواته رواة الصحيح من رواية أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التأني من الله والعجلة من الشيطان وما أحد أكثر معاذير من الله وما من شيء أحب إلى الله من الحلم".

وفي الحديث المشهور حديث وفد عبدالقيس كان فيهم رجل مشجوج في رأسه فقال النبي لهذا الرجل:"إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله، فقال الرجل: ما هما يا رسول الله؟ قال: الحلم والأناة". ففرح الرجل وقال: يا رسول الله خلق تخلقت به أم جبلة جبلني الله عليها؟ قال: بل جبلك الله عليها.

وقال عليه الصلاة والسلام: "ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب".

خلق الحلم خلق اختباري كثير من الناس فيه هدوء وسكون، لكنه إن وقع الخطأ طاش عقله وضاع حلمه، وعظم غضبه وانطلق لسانه، وتحركت أقدامه وبطشت يده، وغلا الدم في عروقه، وهذا كله من فعل الشيطان.

وهنا نرى كيف كان لحلم النبي عليه الصلاة والسلام أثر كبير في عدة أمور:

أولاً: الحلم يترك الفرصة للعقل حتى يتدبر في الأمر ويحسن التصرف، أما الغضب والطيش، فيزول معه العقل، ويذهب كثير من القدرة على حسن التصرف.

ثانيا: الحلم يكسر شدة الغضب عند المخطئ ويبصره بأنه قد تجاوز حده.

ثالثا: يكسب الناس، فيجعلهم يقبلون عليه، ويرون فيه قدوة حسنة في مثل هذا الموقف.

ولذلك تألف النبي عليه الصلاة والسلام النفوس وجذب إليه القلوب من أثر أخلاقه وشمائله كلها ومنها الحلم.

 

amer123123

اللهم احفظ المسلمين من شر وسوء المنافقين والخونة والعملاء والكافرين يارب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 135 مشاهدة
نشرت فى 20 يونيو 2013 بواسطة amer123123

ساحة النقاش

عبد الفتاح أمير عباس أبوذيد

amer123123
موقع لغوي تربوي وأدبي وقيمي الرؤية والرسالة والأهداف: رؤيتنا: الرؤية : الارتقاء بالمنظومة التعليمية والتربوية بما يؤسس لجيل مبدع منتمٍ لوطنه معتزاً بلغته فخوراً بدينه رسالتنا: السعي لتقديم خدمات تربوية وتعليمية ذات جودة عالية بتوظيف التقنية الحديثة ضمن بيئة جاذبة ومحفزة ودافعة للإبداع الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها · إعداد »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

14,618,562