كتب: د. علي بن عمر بادحدح30 يناير, 2013 - 18 ربيع الأول 1434هـ
مع شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم وحديث عن صبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد أسلفنا القول في المقال الماضي عن الصبر وتعريفه وأنواعه وبعض ثماره ونحو ذلك.
ونبينا صلى الله عليه وسلم كان أعظم الناس صبراً، وأثبتهم قلباً، وأربطهم جأشاً، وأحلمهم في سياسة نفسه عليه الصلاةوالسلام.
لكن الصبر كما قلنا بتنوعه يدل على ذلك الوجه أو تلك الوجوه المتنوعة التي قد تعرض للإنسان في حياته، فله عليه الصلاةوالسلام صبر على طاعة الله، وله صبر على ما قدره الله عز وجل من الابتلاء وما كتب عليه من الإيذاء، وكان له صبر مع أصناف مختلفة من الناس: صبر على المشركين، صبر على المنافقين، صبر على اليهود، وكانت له عليه الصلاة والسلام في جملة حياته صور كثيرة من الصبر، حتى قال الماوردي في أعلام النبوة مصوراً ما تعرض له من الأذى: "تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لما يشيب له النواصي، ويهد الصياصي، وكان مع ذلك صابراً صبر المستعلي ثابتاً ثبات المستولي عليه الصلاة والسلام".
ونذكر هنا وجوهاً من أنواع الصبر التي ظهرت في سيرته النبي صلى الله عليه وسلم، ونبدأ بالصبر على البلاء والإيذاء في أنواع مختلفة.
النوع الأول: الصبر على الاستهزاء والسخرية:
ومع أنه عليه الصلاة والسلام أشرف الخلق وأرفعهم، وخاتم الأنبياء وأفضلهم فقد لقي من قومه وخصومه أشد أنواع السخرية وأقذع أنواع الاستهزاء، ونحن نعرف أن الإنسان بطبعه إذا اعتدي عليه بالقول سخرية واستهزاء يكون ذلك من أشق ما يكون على النفس، فكيف إذا كان شريفاً أو إذا كان وجيهاً في الناس، فكيف إذا كان هو أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم فقد لقي من ذلك ما هو معلوم مما جاءت به آيات القرآن: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الحجر:6).
وقال الله عز وجل: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (صّ:4).
وقال الله عز وجل: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} (القلم:51).
وكانوا يتضاحكون عندما يرون النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ *وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} (المطففين:29،30).
وكل ذلك مما يؤلم النفس ويوجد الحزن لكنه عليه الصلاة والسلام كان يستعلي على ذلك، فيصبر ويحتسب أجره عند ربه سبحانه وتعالى، ورفعة درجاته في الآخرة عند مولاه، وكان عليه الصلاة والسلام يكظم غيظه ولا يقابل هذا بمثل ما يقابلونه به عليه الصلاة والسلام، فقد كان عف اللسان كريم النفس سمح التعامل غضاً عمن يخطئ عليه.
النوع الثاني: التشويه والافتراء:
لم تكن سخرية فحسب، بل كانوا يشوهون الحقائق، ويفترون ويكذبون ويختلقون، ويقلبون الأمور رأساً على عقب حتى يصدوا الناس عن دين الله عز وجل ويصرفوهم عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، كانوا يبثون الدعايات الكاذبة وينشرون الشبهات الباطلة، ويوردون الإيرادات الواهية، كانوا يصرفون الناس بتنفير نفوسهم، وبإضلال عقولهم، وقالوا عما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام أقوالا كثيرة، وقالوا كما أخبر الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (الفرقان: الآية 4).
قالوا عن كلام الله الذي بلّغه إنه إفك اختلقه من عند نفسه، وأعانه عليه آخرون، وكذلك قالوا: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان:5). وقالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} (النحل: الآية 103).
ورد الله عز وجل عليهم ذلك كله، لكن الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبر على ذلك، ويثبت عليه؛ لأننا نريد أن ندرك أن هذه الوجوه التي نذكرها الآن يتعرض لها المسلمون عموما، ويتعرض لها الدعاة الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
النوع الثالث: المعارضة والإيهام:
لم يكتفوا بسخرية، ولم يكتفوا بافتراء، بل جاءوا بمعارضة، وما معنى المعارضة؟ هذه قضية خطيرة أن يأتوا بشيء يعارض ما يأتي به، يقولون: أنت تقول قولا وعندك أخبار، وعندك أقوال، نحن نأتي بشيء مثله نصرف به الناس عنك، يعني إذا جاء بشيء جاءوا بشيء مثله يريدون أن يوجدوا للناس بديلا عما يأتي به رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذه قضية خطيرة، لأن واقع الناس اليوم وواقع المسلمين يدل على أن أعداءهم جاؤوا بألوان من الباطل كثيرة تلهيهم وتشغلهم، فإذا كان هناك قرآن كان هناك غناء، وإذا كان هناك حق جاءوا بباطل، وإذا كان هناك تأثير جاؤوا بالأساليب الترغيبية، رغبوا في الشر، وإذا كان هناك أساليب ترهيبية رهبوا من الخير وجعلوا هذه الأساليب كلها كما فعل كفار قريش.
كان أحد زعمائهم، واسمه النضر بن الحارث يقول: يا معشر قريش والله لقد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم كاهن لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم شاعر لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هجزه ورجزه، وقلتم مجنون لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش فانظروا في شأنكم فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم.
يعني لا يكفي أن تسخروا، ولا يكفي أن تقولوا هذا باطل، ماذا يريد هذا؟ نتوقع أن يقول: خذوا إذن بالحق، ووافقوا محمدا واتبعوه، وآمنوا بما جاء به، كلا.. ذهب هو إلى الحيرة وتعلم بها أحاديث وأخبار وقصص ملوك الفرس، وأحاديث رستم وإسفنديار وكذا، ثم جاء وقال: الآن جئتكم بالحل، فكان إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الناس جلس هو بجواره، يقول: هلموا إليّ عندي خير مما عند محمد، أعطيكم أحسن مما يقول محمد عليه الصلاة والسلام، فجاء بذلك، ثم كان يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، ويحدثهم بهذه القصص والأخبار، أراد أن يأتي بأمر عملي يقدمه للناس يسد فراغهم أو يعطيهم شيئا يصرفهم عن الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كيد أكبر، ومكر أعظم، وخطورة أشد؛ لأنهم لو قالوا: كلامه باطل فقط، فإن الناس ربما يرون أنه حق، لكنهم كانوا يقولون: هذا باطل، وتعال أعطيك شيئا أحسن منه أو خيرا منه، ولذلك فعل النضر بن الحارث ذلك، ومما فعله كما ذكر ذلك ابن عباس في روايته، قال: اشترى النضر بن الحارث قينات، وكان لا يسمع برجل يميل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو يريد أن يستمع له إلا بعث عليه واحدة منهن تطعمه وتسقيه، وتغني له حتى تلهيه، فما عاد يذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أبدا، وكان عليه الصلاة والسلام يرى ذلك ويسمعه، وهو ماض صابر محتسب عليه الصلاة والسلام.
النوع الرابع: المساومة والإغراء:
جاءوا للنبي عليه الصلاة والسلام من هذا الطريق أيضا، والحديث الطويل الذي جاء به الوليد لما جاء إلى النبي عليه الصلاةوالسلام فقال: إن كان ما أتيت به تريد مالا جمعنا لك مالا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد الباه اخترنا لك أحسن نسائنا حتى تتزوج ولو شئت عشرا، وأغروا في ذلك وأسرفوا والنبي صلى الله عليه وسلم لا يوافق.
وقال الله عز وجل أيضا: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم:9).
قالوا نعطيك، نساومك، اعبد إلهنا عاما ونعبد إلهك عاما، مفاوضات ومساومات، بعض الناس أو بعض الدعاة ربما يغترون بها ولا يصبرون، قد يصبرون عندما يواجهون بالمعارضة أو بذلك الاستهزاء، ولكن إذا جاءتهم هذه الإغراءات نعطيك كذا وكذا وتفعل وتخدم الدعوة ثم يكون ذلك مزلقا من هذه المزالق.
والرسول صلى الله عليه وسلم نزلت عليه آيات القرآن كما نعرف: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الكافرون:1،2).
وروى ابن إسحاق في سيرته أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعترضه الأسود ابن المطلب وهو يطوف بالكعبة ومعه جمع من الناس وكانوا من ذوي الأسنان، قال: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، يعني نخلط فيما بيننا وبينك، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه.
النوع الخامس: التضييق والإيذاء:
وهو الوجه الأظهر والذي أكثرنا ربما يتحدث عنه عندما يتحدث عن الصبر، وقد لقي النبي عليه الصلاة والسلام كما لقي أصحابه من ذلك شيئاً كثيراً، ولقي عليه الصلاة والسلام صنوفاً من الأذى الحسي المباشر الذي وقع من كفار قريش، وكان أول من صنع ذلك وابتدأه عمه أبو لهب.
فقد روى الترمذي أنه منذ أول يوم دعا فيه النبي عليه الصلاة والسلام قومه من بني هاشم، وكان قد دعاهم على الصفا، وورد أن أبا لهب أخذ حجراً بيده ليضرب به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبناء أبي لهب عتبة وعتيبة متزوجين ببنات النبي عليه الصلاة والسلام، فأمر أبناءه أن يطلقوا بنات الرسول عليه الصلاة والسلام، ولما مات ابن النبي عليه الصلاة والسلام وهو عبدالله، استبشر أبو لهب وذهب يقول للناس: قد صار محمد أبتر يعني ليس له نسل يحفظ نسبه، وغير ذلك من هذه الوجوه.
ثم أيضاً كانت أم جميل، وهي زوجة أبي لهب تضع الشوك أمام بيت النبي عليه الصلاة والسلام، وتضع القاذورات في طريقه وأمام بابه حتى تؤذيه عليه الصلاة والسلام وهو صابر محتسب، وفيها وفي زوجها نزلت سورة المسد: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد:1).
ولما نزلت هذه الآيات أخذت أم جميل معها حجراً كبيراً وذهبت تبحث عن النبي عليه الصلاة والسلام حتى تضربه بذلك الحجر، فلقيت أبا بكر قالت: أين صاحبك فإني قد سمعت أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربته بهذا الفهر، ثم صرفها الله عز وجل عنه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ذاك كان مع أبي بكر وهي تخاطب أبا بكر ولا ترى النبي عليه الصلاة والسلام كما ورد في سيرة ابن هشام، وقال أبو بكر: يا رسول الله أما تراها رأتك؟ قال: (ما رأتني أخذ الله بصرها عني).
ولقي النبي صلى الله عليه وسلم الأذى عندما بصق عقبة بن أبي معيط في وجهه عليه الصلاة والسلام، وعندما وضع صناديد قريش سلا الجزور على رقبته وهو ساجد عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك وهو صابر محتسب.
حتى عندما جاءت فاطمة، وأزالت عنه الأذى وبكت رضي الله عنها صبّرها النبي عليه الصلاة والسلام.
والنبي صلى الله عليه وسلم عندما وقعت هذه الحادثة دعا على أولئك القوم، وكلهم كما ورد في الرواية كانوا من قتلى بدر استجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع السادس: المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية:
وكانت هذه من أشد أنواع الأذى الذي مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم.
في القصة المعروفة عندما اجتمعت قريش في خيف بني كنانة في وادي المحصب، وتحالفوا على بني هاشم وبني عبدالمطلب ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة، وعلقوها في الكعبة، ودام هذا الحصار ثلاث سنوات كاملة.
أخبر الصحابة رضوان الله عليهم ببعض ما جرى في ذلك قالوا: حتى قرحت أشداقنا يعني تشققت، وقالوا: حتى أكلنا ورق الشجر، وقال سعد: ذهبت أقضي حاجتي وأتبول، فسمعت قعقعة فالتفتُ فإذا هي شن، يعني قطعة من جلد قاسية قال: فأخذتها فدققتها فكانت قوتي أياماً، من شدة ما لقي النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من الصحابة لم يصدهم ذلك عن دينهم ولم يلينوا في مواقفهم، ولم يوافقوا أعداءهم، بل كان للنبي عليه الصلاة والسلام ولأصحابه صبر عظيم تجاوزوا به هذه المحن كلها، وثبتوا في دين الله عز وجل.
وكان هذا جملة ما لقي النبي عليه الصلاة والسلام من المشركين في الفترة المكية.
أما في الفترة المدنية فقد لقي منهم أموراً كثيرة احتاجت منه إلى صبر عظيم منها:
الأولى: صبره عليه الصلاة والسلام على الهجرة وشدتها وصعوبتها، وفراق أرضه وداره وأهله وسكناه، ولم يكن ذلك أمراً سهلاً وهيناً، فصبر النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك واحتسب.
الثاني: صبره عليه الصلاة والسلام في المعارك والقتال الذي تعرض فيه للقتل ولإرادة قتله من أولئك الكافرين، كما فعلوا عندما كان في مكة تآمروا على قتله، لكن الله عز وجل نجاه منهم.
وكانوا في المعارك يقصدونه، ويريدون قتله عليه الصلاة والسلام ففي يوم أحد: عندما شج وجهه عليه الصلاة والسلام، وسال دمه على وجنتيه، وكسرت رباعيته ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه، وانتزعهما بعض الصحابة، ومع ذلك كان عليه الصلاةوالسلام يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
وغاية ما قاله عليه الصلاة والسلام في ذلك الظرف الشديد قال: (كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم؟).
لم يقل عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك، لم يدع عليهم حتى في هذا الوقت الذي أرادوا قصده.
وفي قصة أبي بن خلف الذي كان يبحث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ويقول: أين محمد لا نجوت إن نجا، كان يقصد قتل النبي صلى الله عليه وسلم فأراد الصحابة أن يتعرضوا له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوه، ثم أخذ النبي صلى الله عليهوسلم حربته ورماه بها، فأصابه وكان مقتله بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقي النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً شدة عظيمة في يوم الأحزاب كان حصاراً عظيماً اجتمع فيه شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأحجار على بطونهم من شدة الجوع.
قال جابر: فكشفتُ عن بطن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا على بطنه حجرين من شدة ما كان من جوع ألم بهم في حصار جاء في وقت عصيب وشديد ، ومع ذلك كان صبر النبي عليه الصلاة والسلام عظيماً، وكان رضاه بقدر الله سبحانه وتعالى كبيراً وكان انتظاره وارتقابه وأمله في فرج الله سبحانه وتعالى كبيراً وثبت حتى حقق الله عز وجل له وللمؤمنين النصر والظفر: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (الأحزاب: الآية25).
وأخبر بالعاقبة التي آلت إليها هذه الحادثة العصيبة قال عز وجل: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا} (الأحزاب: الآية27).
وجعل الله عز وجل الخير لمن صبروا وثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عندما نتحدث الآن عن مجاعة أو جوع شديد قد نتأثر لكننا لا نتأثر تأثر من مرت به مثل تلك الظروف ومرت به مجاعة شديدة، ورأى فيها ما رأى من الأذى والشدة والقسوة ونحو ذلك، فليس الخبر كالمعاينة.
وعندما نتحدث عن الأمن عندما يحصل انفراط للأمن، أو لا يكون الناس في أمن ويقع الخوف، من جرب ذلك وعرفه وكانت معرفته بأثره وبضرره وبخطره وبعظمه أكثر ممن لم يعرف ذلك، ولم يلقه أو يمر به في حياته.
ولذلك عندما نقرأ ذلك أو نتحدث عنه ينبغي أن نصوره ذلك التصوير الذي جاء على أكمل وأعظم صورة في آيات القرآن، وكذلك فيما وصف به الصحابة رضوان الله عليهم تلك الأحوال التي مرت.
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} (الأحزاب:10،11).
سماه الله عز وجل زلزالا شديدا {وزلزلوا زلزالاًْ} تأكيد بمفعول مطلق، ثم وصف بالشدة ليبلغ الأمر مداه.
ولذلك حذيفة رضي الله عنه عندما قال له بعض التابعين: كيف كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كنا نجهد، يعني نتعب قال: لو أدركناه لما تركناه يمشي على الأرض فقال حذيفة: لو كنت معنا يوم الأحزاب، يوم قال النبي صلى الله عليهوسلم:(من يذهب ويأتي بخبر القوم؟)، فلم يقم أحد، وفي القوم أبو بكر وعمر فقال: (من يأتي بخبر القوم وأضمن له العودة؟)، فلم يقم أحد، وفي القوم أبو بكر وعمر،( من يأتي بخبر القوم وله الجنة)، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (قم يا حذيفة) فلم أجد من ذلك بداً.
هذا الموقف يدل على أن الصبر ليس مجرد كلمات خصوصا عندما يكون الأمر عظيماً.
لكن دعونا نأخذ المثال الذي قال عليه الصلاة والسلام أنه من أعظم ما مر به من الشدة.
هذا الموقف روته عائشة رضي الله عنها وهو حديث في الصحيح عند البخاري ومسلم.
سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله عليه الصلاة والسلام قالت: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال:{لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم عليّ ثم قال يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا}.
متى كانت هذه الحادثة؟ هذه الحادثة التي خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف ليدعو أهلها، خرج بعد صد مكة وإعراضها، وبعد ما لقي فيها من الإيذاء، فخرج بأمل وذهب إلى أولئك القوم.
نأتي بالروايات الأخرى لهذه الحادثة في سياق روايات السيرة وفيها بعض التفصيل أكثر مما ورد هنا.
انتهى النبي عليه الصلاة والسلام إلى الطائف وعمد إلى نفر من ثقيف كانوا يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم يعني: أعقل القوم وأحسنهم وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو وأخواه مسعود وحبيب، فجلس إليهم النبي عليه الصلاة والسلام فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فانظروا ماذا كان الجواب؟
قال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، يعني: إن كان الله أرسلك فأنا أشقق أستار الكعبة بمعنى ليس فقط عدم القبول وإنما السوء الشديد في الرد، وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً، إن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم قدرا من أن أرد عليك الكلام، وإن كنت كاذباً على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.
فقام الرسول صلى الله عليه وسلم من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف، هؤلاء أحسن الناس الذين الأمل فيهم أكبر، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: {إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني} كره النبي عليه الصلاة والسلام أن يبلغ قومه هذا الخبر وأن يشمتوا بما وقع له عليه الصلاة والسلام، فلم يفعلوا، وأشاعوا خبره وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، ويرمون الحصى حتى دميت أقدامه الشريفة عليه الصلاة والسلام.
موقف في غاية الشدة، ولذلك اعتبره النبي أشد ما لقي، وجاءت الآيات تصف مثل هذا الموقف في قوله سبحانه وتعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6).
{باخع نفسك} يعني مهلك نفسك، وأنت تريد إسلامهم، وتريد هدايتهم وهم يعرضون ويردون بمثل هذه الردود.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لقي شيئاً شديداً، فذهب وخرج من الطائف ومضى كما قال عليه الصلاة والسلام: {يهيم على وجهه حتى استفاق في قرن الثعالب}.
في هذه الحادثة تعرفون أنه مكث عند حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة ودعا بذلك الدعاء العظيم:
(اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو أن يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك).
منتهى الصبر والاحتمال وعدم اليأس، لقد كان بحق أعظم المواقف التي صبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو أعظم أنواع الصبر لأنه صبر في ميدان الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وهو أعظم ميدان؛ لأنه الميدان الذي حمله ويحمله أتباع محمد صلى الله عليه وسلم من بعده: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108).
(العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) كما قال عليه الصلاةوالسلام.
وهناك صور أخرى من الأذى الذي احتمله النبي عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك:
أذى المنافقين:
والمنافقون كان أذاهم دائماً في المكر والكيد والطعن من الظهر، وكانوا يرسلون الأقاويل، ويرجفون بالأراجيف، ويشيعون الشائعات، ويجوسون خلال الصفوف المؤمنة من داخلها، وكان هذا أيضاً أمر عظيم حتى جاء بعض الصحابة يستأذن في قتل عبدالله بن أبي؛ لأنه قال: ليخرجن الأعز منها الأذل، وقال: ما نحن وأصحابنا أولئك إلا كقول القائل: سمن كلبك يأكلك، يعني أعطيناهم ديارنا وآويناهم وأطعمناهم، ثم يريدون أن يفعلوا بنا ما يفعلون، حتى جاء عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول قال: يا رسول الله إن كنت آمراً أحداً أن يقتله فمرني حتى لا أرى قاتل أبي، فتأخذني حمية فأقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: {لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، نحسن صحبته مادام فينا}.
وهذا تشريع، لكنه كذلك كان صبراً.
ونعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير مرة مع بعض أصحابه، ومعه أسامة بن زيد، وكان الرسول صلى الله عليهوسلم راكباً على حمار، وأردف وراءه أسامة، وذهب ليعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، فمر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين، وفيهم بعض المشركين وبعض اليهود، وفيهم عبدالله ابن أبي وعبدالله بن رواحة، فلما مر النبي صلى الله عليهوسلم قال عبد الله ابن أبي: لا تغبروا علينا، يريد النبي صلى الله عليه وسلم، ووقف الرسول، ونزل ودعاهم إلى الله وقرأ القرآن، فقال عبدالله بن أبي يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: أيها المرء لا أحسن من هذا، إن كان ما تقوله حق فلا تؤذنا في مجالسنا فمن جاءك منا فاقصص عليه، فقال عبدالله بن رواحة: اغشنا في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، حتى استب المسلمون والمشركون واليهود، حتى هموا أن يثبوا قال: فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويخفضهم حتى سكنوا.
كيد اليهود:
بالرغم من أنهم أهل كتاب إلا أنهم من أول قدوم النبي عليه الصلاة والسلام كذبوه عليهم لعنة الله، وذهبوا في فترة من الفترات بعد ذلك إلى قريش، وقالوا: أنتم أحسن ديناً من دين محمد عليه الصلاة والسلام وهم أهل كتاب.
وقالوا بعد بدر: يا محمد لا يغرنك أنك لقيت أقواماً أغراراً لا علم لهم بالحرب، فلئن لقيتنا لعرفت أنا نحن الرجال.
وهم بينهم وبينه عهد وميثاق، ومع ذلك يقولون هذا القول.
وسعوا كما هو معلوم إلى قتل النبي عليه الصلاة والسلام في بني النضير عندما ذهب يطلبهم في إعانته على دية اثنين قتلهما عمرو بن أمية الضمري بالخطأ وهو عندهم، أرادوا أن يغدروا به، وصعد أشقاهم بعد ائتمارهم حتى يلقي حجر الرحى فوق النبي عليه الصلاة والسلام فيقتله، قالوا: لن تجد الرجل في حال أحسن مما هو عليه بين أظهركم، فقام أشقى القوم وهو عمرو بن جحاش، فصعد حتى يلقي بالرحى فوق النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الله سبحانه وتعالى، وأنزل عليه الوحي فخرج من بين أظهرهم، ثم حاصرهم وأجلاهم.
وأيضاً كان منهم ما كان من تأليب الأحزاب، ومر الموقف العصيب بتأليب اليهود وهو قد ذكرناه.
ثم كان لليهود سبب بقدر الله عز وجل في موت رسول الله عليه الصلاة والسلام في القصة المشهورة قصة السم الذي وضعته المرأة اليهودية للنبي عليه الصلاة والسلام في الذراع، وكان أحب شيء إليه الذراع فنهس منها نهسة واحدة وقال عليه الصلاةوالسلام: (إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم).
وكان البراء بن المعرور قد أكل من هذا اللحم فمات بذلك، وأما النبي عليه الصلاة والسلام فنجا، لكنه عند موته كما ورد في أحاديث كثيرة قال: (ما زالت أكلة خيبر تعاودني أو تعادني فهذا أوان انقطاع أبهري). والأبهر: هو العرق الذي هو سبب أو يكون بعده الموت.
وهنا نرى كما قلنا تنوع ما مر بالنبي عليه الصلاة والسلام من كل هذه الأنواع، وبقي أن نشير إلى أمر واضح جلي لم يبلغ أحد فيه مبلغ رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو:
الصبر على الطاعات:
من الصبر، الصبر على الطاعات، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويقرأ بما يقرأ من البقرة وآل عمران والنساء في ركعة واحدة، وكان يصوم وربما سرد الصوم يومين وثلاثة، وكان ما ابتدأ عبادة إلا بقي مواظباً عليها لا يتركها حتى وفاته عليه الصلاة والسلام، ولم يكن أحد أبلغ منه في مثل هذا ولا أكثر عبادة ولا خشوعاً ولا أصبر على مثل هذه العبادات وأكثر تعلقاً بها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما أعظم صبره، وما أكبر احتماله، وما أوسع حلمه، وما أجل شجاعته عليه الصلاة والسلام، فالصبر خلق مهم لابد أن نحرص فيه على الاقتداء برسولنا عليه الصلاة والسلام.
ساحة النقاش