الدرس (15) : الصبر
كتب: د. علي بن عمر بادحدح16 يناير, 2013 - 4 ربيع الأول 1434هـ
مع خلة عظيمة وخصلة حميدة، وخلق نفيس نادر من شمائله عليه الصلاة والسلام، وهو خلق عظيم يحتاج إليه كل أحد وذلكم هو خلق الصبر.
سيكون حديثنا عن الصبر ومعناه وأقسامه، والأمر به والحث عليه وثمرته وما يلحق بذلك، ثم نفرد الحديث عن صبر سيد الخلق عليه الصلاة والسلام في حلقة أخرى بمشيئة الله تعالى.
معاني الصبر:
الصبر في لغة العرب: بمعنى الحبس، فإن قلت صبرت نفسي عن كذا: أي حبستها عنه وإذا قال الإنسان: صبرت عن الطعام أي: حبست نفسي فلم آكل ولم أطعم.
وقد خوطب النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ} (الكهف: الآية 28). أي: احبس نفسك معهم، وكن ملازماً لهم غير مفارق.
وأما في المعنى الاصطلاحي: فالصبر هو: "حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع" لأن العاقل بعقله المجرد يصبر ويترك أموراً؛ لأنه يدرك أن فيها مضرة وأن عاقبتها وخيمة، وأن نهايتها مضرة، والشرع هو الحاكم والفاصل في هذا؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنعم علينا بأن بيّن لنا المآلات، وعرّفنا بالغايات محمودها ومذمومها، فما كان محموداً أمرنا به وما كان مذموماً نهانا عنه.
وخلق الصبر يعد من أصول الأخلاق والشمائل؛ لأنه تتفرع منه وتتبعه صفات وأخلاق لازمة له ومنبثقة عنه، فالحلم خلق مستقل، وهو من الشمائل النبوية كذلك، لكن الحلم نوع من الصبر أو فرع من فروعه، وكظم الغيظ أمر آخر، وهو ضرب من ضروب الصبر أيضا، وله به صلة.
أقسام الصبر:
ينقسم الصبر إلى:
1- صبر قوي متمكن يغلب نوازع النفس التي قد تدعو إلى ضعف العزيمة فتضعف أمام الشهوات، أو تضعف أمام المغريات، فإذا كان الصبر قوياً متمكناً كان هو الغالب على هذه النوازع.
2- صبر ضعيف تغلبه الشهوات، ويذهب به الفساد والمغريات، فبعض الناس عنده صبر، لكن صبره ضعيف بمجرد أن يتعرض إلى الإغراء أو غيره، يضعف وينساق ولا يستطيع أن يحبس نفسه.
وهذا واقع كثير من الناس لسببين اثنين:
أولهما: متعلق بضعف الإيمان، وضعف اليقين، والإيمان بأن من ترك شيئاً لله عز وجل يعوضه خيرا منه.
الثاني: عدم المصابرة بين الصبر وتمكنه أو الصبر وذهابه كما يقال: إنما النصر صبر ساعة، ما معنى ذلك؟ هو لا يثبت في أول الأمر ولو ثبت لوجد أنه قد اجتاز مرحلة مهمة.
لماذا يضعف صبر بعض الناس؟
يقول: لا أستطيع، ولو أنه قاوم مرة واحدة، لوجد أنه يستطيع، ثم سيكسبه ذلك قوة ويقوى صبره، لكن المشكلة هي كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى). مجرد أن تتجاوز المرحلة الأولى انتهى كل شيء، مثال بسيط: نأكل ونشرب، فإذا جاء رمضان كان أول يوم يوما شديدا، وبدأنا بتغيير لم نكن قد تعودنا عليه، لكن بعد اليوم الأول ثم الثاني، كأنما قد نُسي الطعام والشراب، ولم يعد الإنسان أصلاً يفكر فيه، حتى يشعر أحياناً بشيء من شدة في جوع أو عطش.
ينقسم الصبر من جهة ما يتعلق به إلى ثلاثة أقسام:
1- صبر على الطاعات: القيام بالطاعات فيه شيء من المشقة التي تحتاج إلى جهد، فترك النوم على الفراش الوثير مع الهواء العليل والتعب الكثير؛ ليؤدي الفجر صعب.
2- الصبر عن المحرمات والمناهي: الصبر عن أخذ المال من غير حله، والنفس داعية إلى ذلك ومرغبة فيه، الصبر عن قضاء الشهوة من غير طريق مشروع النفس تدعو إليها والشهوات والمغريات تزينها، واللذة والمتعة تغري بها، وهذا يحتاج إلى صبر أيضاً ولجم للنفس وكبح لجماحها، ومنع لها عن الانسياق مع ميولها ورغباتها وفطم لها عن شهواتها:
والنفس كالطفل إن تتركه شب على ***** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
الصغير عند الفطام يرضى بالفطام سريعاً، فلابد أن نعطيه الصبر، وأن نمنعه، وأن نتركه يبكي حتى يجتاز مرحلة معينة، ثم هو بعد ذلك لو عرض عليه الرضاع يأبى .
3- الصبر على ما يجري به القضاء من البلاء: قد يُبتلى الإنسان بمرض، وقد يبتلى بخوف، وقد يبتلى بأمور كثيرة كما أخبر الحق سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة:156،155) وأعظم ما يبتلى به الناس: زوال هاتين النعمتين نعمة الأمن ونعمة الرزق.
وأكثر ما منّ الله به على العباد عموماً، وعلى أهل البلاد المقدسة في الحرمين خصوصاً نعمة الأمن والرزق: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} (القصص: لآية57).
وقال الله عز وجل: {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: من الآية67)، فإذا سلبت نعمة الأمن حل الخوف.
سئل أحد الحكماء العلماء: ما السرور؟ قال: الأمن، فإني لم أر لخائف نعيماً.
ما فائدة أن يكون عندك مال وأنت لا تأمن عليه، أو لا تأمن على روحك أو عرضك؟!!!.
ليس هناك أي أثر لأي نعمة، إذا سلبت نعمة الأمن نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا أمننا وأماننا.
وأيضاً نعمة الرزق ووفرته، وقد استعاذ النبي عليه الصلاة والسلام من الجوع وقال: (وإنه بئس الضجيع)، الضجيع يعني الذي يكون معك تضطجع فهو معك، فإذا كان الجوع معك لا شك أنه لا يجعل الإنسان يستطيع أن يفكر، ولا أن يهنأ ولا أن يسعد، ولا أن تتعلق أيضاً نفسه وقلبه حتى بطاعة الله على الوجه المطلوب.
الإنسان إذا ضاقت عليه أسباب الرزق عظم همه، وانشغل فكره واضطرب حاله وضاق صدره، ولم يكن عنده شيء مما يحتاج إليه من الطمأنينة والاستقرار، ولذلك من أعظم الأسباب على مواجهة البلاء هو الصبر والرضا بالقضاء.
ولذلك يتنوع الصبر في أحكامه ليشتمل على الأحكام الخمسة كلها:
1- صبر واجب: وهو الصبر عن المحرمات، والصبر على الواجبات المفروضة.
2- صبر مندوب: وهو الصبر عن المكروهات، والصبر على المستحبات من النوافل والسنن والتطوعات.
3- صبر محرم: وهو أن يصبر على ما فيه هلاكه، كأن يترك الطعام والشراب حتى يهلكَ أو حتى يصيبه الضرر وهذا لا يجوز.
4- صبر مباح: والمباح يعني في الأمور التي يستوي فيها الطرفان كما يقولون.
منزلة الصبر:
وللصبر منزلة عظيمة في كتاب الله، وقد ذكر كثيرا،ً وذكر في حالات سنرى مدى أهميتها ونفعها وسنحاول أن نذكر بها في واقعنا خصوصاً وواقع المسلمين عموماً.
أمر الله عز وجل بالصبر، وأمر به رسله وأنبياءه، وأمر به صفوتهم وخاتمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جل وعلا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّه} (النحل: الآية 127)، وقال له سبحانه وتعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (يونس: 109).
ونلاحظ هنا أن الأمر بالصبر مرتبط إيقاعه ووجوده وتحققه بعون الله عز وجل، فنحن نصبر لله يعني لوجه الله، ونصبر بالله يعني بإعانة الله لنا على الصبر، نحن نقول: صبر لله، وبالله، وعلى الله.
ثم جاء الأمر بالصبر ليس بهذه الصيغة فقط، بل جاء بالأمر بأشد أنواع الصبر، يعني عند وجود الشدة العظيمة جاء الأمر بالصبر أيضاً كما في قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (طه: الآية 132).
ما قال: (واصبر) بل قال: (واصطبر) وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى كما يقول أهل اللغة، يعني يحتاج هذا الأمر إلى زيادة صبر، ولذلك قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا واتقوا الله} (آل عمران: الآية 200).
وجاء الأمر بالصبر على سبيل بيان أنه مما يعين، ويخفف عن الإنسان وطأة ما يعارضه، أو يعرض له يقول الحق عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } (البقرة: الآية 153).
وقدم الصبر لأنه بداية، والصلاة كأنها تعين على هذا الصبر كما ذكر الوحي في الأمر السابق وكما ذكر: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّه} (النحل: الآية 127).
ابدأ أنت بعزيمتك وقوتك وإرادتك وسوف يأتيك المدد والعون من الله تثبيتاً وتقوية وإعانة على ملازمة الصبر، وتحتاج إلى قوة معنوية وإلى مدد رباني فهذه الصلاة تمدك بذلك.
ثم ننظر إلى مسألة ثالثة وهي مهمة، فالآيات قرنت بين الصبر وبين غيره من المقامات العظيمة، وكل ربط في هذا الصبر سنجد فيه معنى عظيماً، وأعظم هذه المعاني التي ارتبط بها الصبر وهي من أجل ما هو متعلق بحياة الناس (اليقين). قال ابن القيم: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
والدليل قوله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24).
وجعلت صيغ وألفاظ أخرى تؤدي معنى الصبر، فالثبات من الصبر: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (الأنفال: الآية45)، فالثبات هو نوع من الصبر.
وأخبر الله سبحانه وتعالى، أن الأمر بالصبر أمر بترك ضده، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف: الآية 35).
عكس الصبر هو الجزع والسرعة التي يريد بها الإنسان أن يحقق النتائج، وأن تنتهي المعضلة التي يواجهها، والله عز وجل يمحص ويبتلي ويختبر، ويجعل من هذا البلاء سبباً لظهور ما في الخفاء.
لكن كيف يظهر ما في هذا الخفاء؟ يظهر إذا وجد البلاء، والابتلاء حينئذ وعند هذه المواقف سوف يظهر الصادق من الكاذب، ومن سيثبت ومن سيتقاعس، فالمخلص سيصر ويمضي ويعمل ويبقى في طاعة الله عز جل، والمنافق سوف يتخلى ويبتغي غير وجه الله عز وجل، فالبلاء فيه خير:
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} (آل عمران: الآية179).
والله عز وجل قال: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 141).
الله عز وجل يعلم أن هؤلاء منافقين، لكن كيف ينزل بهم العذاب أو الابتلاء والعقاب والناس يقولون: مستحقين؟ كما قال الله عز وجل:{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال: الآية 42). وهذا من أسرار هذا المعنى.
وحتى يثبت هذا الصبر وتتعلق به القلوب وتطلبه النفوس، لابد من جزاء فالنفوس مفطورة على ذلك، والله عز وجل يعلم طبائع النفوس فجعل على الصبر ثواباً جزيلاً وعطاء عظيماً، وخص الصبر بأن جزاءه غير محدود لا نهاية له كما قال عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: الآية 10).
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أعطي أحد عطاء أوسع من الصبر). بمعنى أنه أعظم شيء يعطى؛ لأنه يفسح لك في كثير من الأعمال والخيرات، إذا كنت صابراً أديت الفرائض والطاعات، ولم تكن ثقيلة عليك ولم تتقاعس عنها، إذا كنت صابراً زدت من التطوعات والنوافل وغير ذلك، إذا كنت صابراً تركت المحرمات، إذا كنت صابراً فتحت لك أبواب من الخير عظيمة تنال بها أجراً عظيماً.
مثل الطالب أيام الامتحانات، فإنه يتعب عندما يذاكر ويشدد على نفسه فيترك مألوفاته من كثرة النوم إلى قلة النوم، ومن كثرة الطعام إلى قلة الطعام، ومن كثرة مخالطة الناس إلى الانعزال وحده.
ألا يشق ذلك عليه؟ فماذا يقول؟ صبر أيام وبعدها ينال النتيجة، ويحصل على الجائزة، ويرقى إلى الدرجات العالية، ولذلك يفكر العاقل دائما بأن الصبر له ثمرة ونتيجة، يقول سبحانه وتعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}(النساء: الآية 125)؛ لأن الناس قد يرون في ظاهر الصبر صعوبة أو مضرة، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لهم} الحجرات: الآية 5).
{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل: 128،127).
فالصبر عاقبته محمودة إلى أقصى حد دنيوية كانت وأخروية، ويظهر أثره في الحياة الدنيا في عدة جوانب من أعظمها: الإمامة في الدين: لماذا قلنا بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين؟ وما سر ربط الصبر باليقين؟ {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ} (التوبة: من الآية 52)، ما هي إحدى الحسنيين؟ إما النصر وإما الشهادة، ففي كلا الأمرين هناك مكسب وربح.
وربط الله الصبر بالتوكل فقال: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل: 42).
والتوكل هو الاعتماد على الله، ولا يمكن أن تصبر إلا إذا وجد هذا الاعتماد والثقة بالله سبحانه وتعالى، وتفويض الأمر إليه، نحن ماذا نقول عندما تحل بنا مصيبة أو تواجهنا صعوبة؟ نقول (إنا لله وإنا إليه راجعون) هل تفكرنا في معناها؟ إنا لله: نحن لله، نحن من الله، والعاقبة في آخر الأمر، وإنا إليه راجعون: يعني نحن منه بأمره وقدره ونعمته وجدنا وسننتهي إليه، إذن ما الذي يخيفنا؟.
ألا ينزل هذا برد اليقين على قلوبنا؟ ألا ندرك أن المتصرف في الأمور هو الله سبحانه وتعالى وأنه لا يقع في ملكه إلا ما أراده، وأن كل قوى الأرض إن جاءت فإنها لا تستطيع أن تلحق ضرا أو تعطي نفعا إذا لم يكن ذلك بقضاء الله وقدره.
ويرتبط الصبر بذكر الله عز وجل، لأن الذكر يفيض الطمأنينة ويقوي العزيمة: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (الطور: 48).
وكما قال عز وجل:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} (غافر: 55).
الذكر يجعلك تتذكر الله عز وجل فتقول: أنا أصبر لله راجيا ثواب الله، عندما تذكر الله سبحانه وتعالى يتحقق لك ذلك.
ولا يرتبط الصبر باللسان أو القول فقط، بل يرتبط بالأعمال الصالحة كذلك، كما قال عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (هود: من الآية 11).
ويرتبط الصبر بالتقوى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} (آل عمران: من الآية 120)، وكما قال عز وجل في قصة يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: من الآية 90).
بين الصبر والتقوى معان متقاربة {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} فكيد الأعداء ومكرهم وقوتهم وبطشهم إذا وجد معه الصبر والثبات، ووجد معه تقوى الله باحتساب الأجر والإخلاص له سبحانه وتعالى وابتغاء مثوبته وبيان أن هذا الصبر إنما هو لإعزاز دينه ولرفع رايته أو للذود عن حرماته، فإن هذا هو أقوى وأعظم ما يصرف الكيد ويبطله، وما يجعل أهل الإسلام والإيمان في قوة لا يستطيع الأعداء أن ينالوا منها، وفي ثبات لا يمكن زعزعته، وفي رسوخ لا يمكن نقضه أو خلعه.
ورد في القرآن وصف الصبر بأنه جميل، كما قال عز وجل: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: من الآية 18).
ما الصبر الجميل؟ هو الصبر الذي لا شكوى معه، بعض الناس بعد أن تأتي المصيبة يتسخط ويتشكى، وفي الأخير يقول: أمرنا لله نصبر، هذا صبر بعد شكوى ولا يكون صبرا جميلا.
صبر أيوب:
الناس يقولون دائما صبر أيوب، فهل صبر أيوب أعظم أم صبر بعض الأنبياء غيره؟ هذا من المشتهرات التي ليست موافقة للصواب، صبر نوح عليه السلام على سبيل المثال أعظم من صبر أيوب، لماذا؟ ليست المدة وليس لأنه لم يدع، ولكن لأن صبر أيوب كان صبر اضطرار لا صبر اختيار، ابتلي بالمرض فلم يكن أمامه إلا الصبر، أما نوح عليه السلام فكان صبره صبر اختيار، كان يمكنه أن يترك العمل ويترك الدعوة خاصة بعد أن طالت المدة ألف سنة إلا خمسين عاما، شيء عجيب جدا، صبر هائل وضخم وعظيم.
صبر أيوب لاشك أنه كذلك، لكن انظروا أدب الأنبياء، لم يدع مباشرة، قالوا: كان دعاؤه بعد مرور سبع سنوات، وعندما دعا قال: {رب إَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} (الأنبياء: من الآية83).
من الذي أصابه بالضر؟ الله سبحانه وتعالى، لكنه لم يقل ذلك أدبا مع الله قال: {رب إَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، هذا حالي أصابني المرض والضر وأنت أرحم الراحمين.
هذا من أعظم حسن الأدب مع عظمة الثناء على الله عز وجل وحسن المسألة.
إذا نظرنا إلى هذا الصبر وجدنا أثره عظيما في حياة الناس والحاجة إليه ملحة، ونختم بما كان من حال النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من حديث خباب بن الأرت لما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن اشتد الأذى والبلاء يقول للرسول: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فماذا قال الرسول؟ وافقه؟ قال: (إنه كان فيمن كان قبلكم يوضع المنشار في مفرق رأسه ثم ينشر حتى يفلق إلى نصفين ما يصده ذلك عن دينه، وإنه كان في من قبلكم يمشط بأمشاط من حديد ما بين لحمه وعظمه لا يصده ذلك عن دينه) ثم قال: (والله ليسيرن الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون).
العجلة ضد الصبر، وهي نوع من جزع كأنه لم يطق أن يصبر فجاء يريد ذلك والله عز وجل قال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214).
قريب ليس معناه أنه غدا أو بعد غد لكنه قريب بالمعنى الإيماني وبالمعنى الإجمالي في طول عمر الزمان، النبي عليه الصلاة والسلام أوذي في مكة وأعرض عنه كفار قريش ولم يؤمن معه إلا نفر قليل، وذهب إلى الطائف ووجد صدا وإعراضا وبقي ثلاثة عشر عاما على هذا الحال، ثم انتقل إلى المدينة وبقي فيها عشر سنوات، هذه ثلاثة وعشرون عاما كم هي في عمر الزمان، لم ينتقل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن دانت الجزيرة كلها، وكان المسلمون بقيادة من ولاهم النبي عليه الصلاة والسلام الجيوش قد وصلت إلى بلاد الروم، ثم في قلة من الزمان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أكمل أصحابه، فإذا هم في وقت قصير قد عم نور الإسلام شرق الأرض وغربها، وكما قال لكنكم قوم تستعجلون.
النبي عليه الصلاة والسلام طاف في يوم عمرة القضاء في العام السابع من الهجرة في شهر ذي القعدة بناء على اتفاقية صلح الحديبية، ورجع وقالوا: ترجع العام القادم وتعتمر، عندما اعتمر أين كانت الأصنام؟ حول الكعبة، وموجودة في مكة، الرسول عليه الصلاة والسلام رسول الإسلام وداعية التوحيد يطوف والكعبة حولها الأصنام، ماذا قال؟ هل قام وكسرها؟ هل ورد أنه شتمها؟ هل بصق عليها؟ هل يعني ذلك أنه مقر بها؟ صبر وضبط نفسه حتى يأتي الأوان بقدر الله الذي يسعى له أهل الإيمان والإسلام بأعمالهم، بعد عام واحد في شهر رمضان في العام الثامن من الهجرة كان فتح مكة، هذه الأصنام نفسها جاء النبي صلى الله عليه وسلم إليها بعد عام واحد فقط أو أقل من عام ومعه عصاه يضرب بها هذه الأصنام، وتتهاوى وتتحطم وهو يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81).
نحن قد نرى شيئا من الباطل لابد أن ننهيه الآن، وليست الأسباب متوفرة وليست العدة مناسبة، وليس ما يترتب على هذا الإنكار أو التغيير خير، بل قد يكون فيه ما هو أكثر شرا وضرا منه، ومع ذلك الجزع وعدم الصبر وعدم القدرة على كظم الغيظ وعدم معرفة أن مواجهة الأعداء، وأن تغيير المجتمعات، وأن الدعوة تحتاج إلى صبر نوح عليه السلام تسعمائة وخمسين عام، نوح عليه السلام في آخر الأمر لما دعا قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} (نوح: من الآية 26).
تغيير النفوس ودعوة الناس هي من أشق وأعظم الأمور صعوبة، ليست أمرا سهلا. ومغالبة الأعداء كذلك ليست في جولة ولا في دولة ولا في ميدان واحد بل في ميادين شتى، والنبي عليه الصلاة والسلام واجه قريش لما كانت تكذب، ولما كانوا يرجفون الأراجيف، ولما كانوا يقصون القصص، ولما كانوا يصدون الناس عنه ويقولون: لا تسمعوا له إنه ساحر. إنه كذا إنه كذا، ثم واجههم يوم قاتلوه، ثم واجههم وهم يكيدون من داخل المجتمع في المدينة، ويبثون الفرقة والنزاع بين المسلمين كل هذا لا بد أن نستحضره، ونعلم أن عدتنا فيه الصبر: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} (آل عمران: من الآية 120).
{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: الآية 9) يوسف عليه السلام بيّن أنه صبر، صبر على ظلمة الجب، وصبر على ظلمة السجن، وصبر على نكاية الإخوة، وصبر على فتنة الإغراء بالنساء، وصبر على فتنة الملك والقدرة والسلطان، صبر على كل ذلك، واتقى الله فكانت عاقبته عاقبة حميدة.
ساحة النقاش