كتب: د. علي بن عمر بادحدح01 ديسمبر, 2012 - 17 محرم 1434هـ
شجاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، هي من أظهر خِلاله، وأبرز شمائله، وأجلى صفاته عليه الصلاة والسلام.
تعريف الشجاعة:
الشجاعة في أصلها اللغوي تدور على معنى: الجرأة والإقدام، فالشجاع جريء يهجم على المخاطر دونما وجل أو خوف أو تردد واضطراب، وهو لجرأته تلك يقدم غير هياب ولا خائف، وقال صاحب لسان العرب في معنى الشجاعة: هي شدة القلب عند البأس: أي قوة ثبات القلب. عند البأس: أي في وقت المحن في الوقت الذي تضيق فيه الأمور، وتعظم فيه الخطوب، وربما تتراءى فيه الحتوف، فحينئذ لا يكون شجاعا إلا من كان رابط الجأش مطمئن القلب مستقر النفس وهذا هو جوهر الشجاعة.
من تعاريف الشجاعة الاصطلاحية نقف مع معان جليلة وكلمات نفيسة قالها بعض أهل العلم، فمن كلام ابن حزم رحمه الله، في وصف الشجاعة وتعريفها، قال: "هي بذل النفس للذود عن الدين أو الحريم، أو عن الجار المضطهد، أو عن المستجير المظلوم، وعن من هُضِم ظلما في المال والعرض وسائر سبل الحق، سواء قل من يعارض أو كثر".
ومن كلام آخر للجاحظ في تعريف الشجاعة نقف أيضا على معان أخرى، قال: "هي الإقدام على المكاره والمهالك عند الحاجة إلى ذلك، وثبات الجأش عند المخاوف مع الاستهانة بالموت، وهذا الخلق مستحسن من جميع الناس، وهو بالملوك وأعوانهم أليق وأحسن".
الملوك والقادة والأمراء والمقدمون في الناس لابد أن يكونوا هم الشجعان، وسنرى ذلك في خلق المصطفى صلى الله عليهوسلم، أما إذا كان رأس القوم جبانا، وإذا كان مقدم القوم ليس فيه جرأة ولا إقدام، فلاشك أن هذا يفت في عضد من وراءه، ويسري إليهم الوهن والخور والضعف والعجز، ويصبح عندهم من الحيرة والاضطراب والخوف والهلع، ما لا يستطيعون به إحكام أمر أو مواجهة خطب لحال من الأحوال، ثم قال في تتمة كلامه: "بل ليس بمستحق للملك من عدم هذه الخلة، فأكثر الناس أخطارا وأحوجهم إلى اقتحام الغمرات هم الملوك، فالشجاعة من أخلاقهم الخاصة بهم".
ودائما أستحضر مثلا من سيرة الصحب الكرام رضوان الله عليهم في معركة عجيبة فريدة هي غزوة مؤتة: يوم لقي ثلاثة آلاف من المسلمين ثلاثين ألفا من الروم على الأقل، وبعض الروايات ذكرت أكثر من ذلك. بالمقياس المادي هؤلاء لا يثبتون ولا يمكن لهم بحال أن يقفوا ثانية أو لحظة، والذي يفكر أصلا في هذه المواجهة أو يتقدم لها لاشك أن عنده من رباطة الجأش وقوة القلب ما يجعله يفكر بهذه المخاطرة.
والشاهد: أن هذه المعركة العجيبة الفريدة في التاريخ تمت دون أن يهزم المسلمون، ودون أن يكسروا، ودون أن يبادوا، والأعجب من هذا وهو موطن الشاهد: أن عدة الشهداء الذين استشهدوا في مؤتة اثنا عشر رجلا، لكن الأعجب أن ربع هؤلاء هم قادة الجيش، الثلاثة القواد الذين عينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبدالله بن رواحة، القيادة لم تكن بعيدة، كانت في مقدمة الركب، ولذلك عندما استشهد هؤلاء الواحد تلو الآخر كان ربعهم من القادة، وليس لأمة من عزة ولا قوة ما لم يكن عندها شجاعة وحمية، وليس هناك أقوى من شجاعة وحمية تستند إلى الإيمان واليقين والثقة بالله والتوكل عليه.
ينبغي أن نعرف أن الشجاعة ليست هي القوة، لأن القوة في الظلم ليست شجاعة، والقوة في غير موضعها هي من أرذل الرذائل، وهي دليل على طيش العقل وانحراف النفس، وعلى استحكام الأهواء الفاسدة في الناس.
في كتابه عن سراج الملوك يقول الطرطوشي: "وليس الصبر والشجاعة وقوة النفس أن تكون مُصِرا في المحال، لجوجا في الباطل، ولا أن تكون جلدا عند الضرب، صبورا على التعب، مصمما على التغرير والتهور فإن هذه هي صفة الحمير والخنازير، ولكن أن تكون صبورا على أداء الحقوق عليك، صبورا على سماعها عند إلقائها إليك، غالبا لهواك، مالكا لشهواتك، ملتزما للفضائل بجهدك، عاملا في ذلك على الحقيقة التي لا يحيلك عنها حياة ولا موت".
وكلنا نعرف حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عند الترمذي في سننه: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
ومدح العلماء والأئمة الشجاعة لأنها مهمة، وذكروا لنا صور هذه الشجاعة في المواطن الحاسمة وهي مهمة ولابد أن نقدم بها حتى نستطيع أن ندرك المرتبة العالية والمكانة الرفيعة التي بلغها النبي عليه الصلاة والسلام في شجاعته.
أوجه الشجاعة:
ذكروا أن هناك ثلاثة مواطن للشجاعة في المكاره والشدائد:
الموطن الأول:
إذا التقى الجمعان، وتزاحف العسكران، وتكالحت الأحداق بالأحداق، تعينت المواجهة، وبرز من الصف إلى وسط المعترك، يحمل ويكر، ويقول: هل من منادي؟ هذا هو موطن الشجاعة الأول، مقدام جريء مغامر.
من أعجب ما ذكر من شجاعة الصحابة -وهم دون رسول الله صلى الله عليه وسلم- شجاعة عبدالله بن الزبير رضي الله عنه، كان يقاتل بسيفيه ويضرب بيديه ويقاتل بهما معا، وفي معركة من معارك الروم اخترق صفوفهم من أولها إلى آخرها يضرب بيديه، ثم رجع من آخرها إلى أولها، وهذا من أعجب ما كان للصحابة رضوان الله عليهم.
الموطن الثاني:
إذا اضطربت الأمور، وأصبح هناك خلل في الصفوف، وبدأت بعض بوادر الاضطراب والانهزام، وهذا يحصل أحيانا في المواجهات والمعارك، ولم يدر أحد من أين يأتيه الموت، ماذا يكون حال هذا الشجاع؟ قالوا: يكون رابط الجأش، ساكن القلب، حاضر اللب، لم يخالطه الدهش، ولا تأخذه الحيرة، فيتقلب بقلب المالك لأموره، القائم على نفسه، لا يحتار ولا يضطرب.
الموطن الثالث:
إذا وقع في الناس انهزام، وبدأ الفرار، قال إذا انهزم أصحابه يلزم الساقة، والساقة مؤخرة الجيش، يضرب في وجوه القوم، ويحول بينهم وبين عدوهم، ويقوي قلوب أصحابه، ويرجي الضعيف منهم، ويمدهم بالكلام الجميل، ويشجع نفوسهم، فمن وقع أقامه، ومن وقف حمله، ومن كبا به فرسه حماه، حتى ييأس العدو منه، كل هذه في هذه المواجهات.
استمداد الشجاعة:
وأما استمداد الشجاعة فأمره مهم، وقد قال فيه الراغب الأصفهاني رحمه الله كلاما نفيسا: "أعظم ما يمد هذه الشجاعة الإيمان وقوة التوكل على الله، وكمال الثقة به، وعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويمده أيضا الإكثار من ذكر الله والثناء عليه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال:45).
وزاد على ذلك، فقال: والإخلاص لله، وعدم مراعاة الخلق سبب بالغ في تقوية ذلك".
فإن المخلص الذي لا يريد إلا وجه الله وثوابه يقوى عزمه، ويقوى قلبه بإذن الله سبحانه وتعالى، فهذه بعض معان في الشجاعة.
شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم:
ونحن يهمنا أن ننتفع بالقدوة العظمى المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذه وقفات فيها غيض من فيض، وقليل من كثير في سماء الشجاعة السامية العالية، وذروتها السامقة الرفيعة التي تربع على عرشها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وإذا أردنا أن نستمع إلى ذلك نستمع ابتداء إلى آيات القرآن وهي تصف لنا وتبين لنا الصورة التي كان عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام في شأن جهاده وقتاله لننظر إلى كمال شجاعته.
يقول الله سبحانه وتعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} (النساء:84).
قال أهل التفسير: المصطفى صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يقاتل المشركين إذا واجهوه ولو كان وحده لكمال شجاعته، ذكر ذلك ابن كثير وذكره القرطبي وغيره؛لأنه لا يتصور مهما كان الحال أن يكون عليه الصلاة والسلام منهزما أو متراجعا أبدا، وهذا مما يدل على عظمة شجاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم لأن الأمر الرباني له لا يأمره إلا بما يطاق.
وأما الوصف العام قبل أن ندخل في ذكر الحوادث بأعيانها، فإن الصحابة رضوان الله عليهم قد ذكروا ذلك، وقبل ذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الطبراني في الأوسط بسند رجاله موثوقون، قال عليه الصلاة والسلام: (فضلت على الناس بأربع: وذكر منها الشجاعة).
وأما الصحابة فقد أفاضوا في ذلك الوصف فكان من سياق الوصف وأدقه وأجمعه وأوجزه وأنفعه، وصف أنس وهو خادمه والقريب منه واللصيق به والعارف بحاله رضي الله عنه وأرضاه، قال في وصف شجاعة النبي عليه الصلاة والسلام في مقدمة قصة سيأتي ذكرها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسع الناس وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس" وصيغة التفضيل والتعميم تجعل الوصف يشمل الناس كلهم ليس هناك استثناء، بل هو أشجع الخلق أجمعين عليه الصلاةوالسلام، وهكذا كان وصف الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام .
والشجاعة تأتي في المواقف والأقوال كما تأتي في المواجهة والنزال.
الموقف الأول:
النبي عليه الصلاة والسلام بعث في أمة مشركة كافرة، فهل وافقه الناس؟ واستجابوا له؟ وكان جلهم معه؟ أم كان الأكثر في أول الأمر ضده وعارضوه وخالفوه، فأي شيء كان منه؟ هل اضطرب أمره؟ هل ارتجف قلبه؟ هل تحير فكره؟ هل خارت قواه؟ هل ضعف عزمه؟ لم يكن شيء من ذلك، بل بقي عليه الصلاة والسلام من قول الله {اقرأ} ومن قول الله سبحانه وتعالى في دعوته للكافرين والمشركين وأمر الله عز وجل بتبليغ دعوة الله سبحانه وتعالى في أول الأمر إلى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:99) وهو على كمال القوة في دين الله عز وجل، وقد مر بنا في بعض المواقف والخلال السابقة ما يشير إلى ذلك، ويكفينا أنه عليه الصلاة والسلام يوم أمر بقول الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) هل كان يتوقع أنهم سيقولون له نعم القول ما قلت؟ ونعم الأمر ما جئت به؟ فيوافقوه، أم كان يتوقع غير ذلك، لكنه ماذا صنع؟ استجاب لأمر الله، وصعد على الصفا، ونادى في قريش بطنا بطنا، حتى اجتمعوا له، قال: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم، أ كنتم مصدقي؟) قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم) قال أبو لهب عليه لعنة الله: تبا لك أ لهذا جمعتنا؟.
كان هذا من قوة شجاعته عليه الصلاة والسلام، وقد مر بنا قوله: (لو وضع القمر في يميني والشمس في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى تنفرد هذه السالفة) كما في بعض هذه الروايات.
الموقف الثاني:
أما مواقف الشجاعة المباشرة في النزال، فقد قص الصحابة وصفا إجماليا لها، ثم قصوا علينا وصفا تفصيليا في الأحوال المختلفة.
فمما كان يقوله شجاع مغوار، وفارس كمي من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، طبعا إذا وصف الشجاع من هو أشجع منه عرفنا كيف توصف الشجاعة، أما الجبان فأدنى موقف يعتبره شجاعة نادرة المثال، فعلي بن أبي طالب وهو من الشجعان الفرسان المغاوير رضي الله عنه وأرضاه، يقول: (كنا إذا حمي البأس، ولقي القومُ القومَ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه وإن الشجاع منا كان الذي يحاذي به) أشجع واحد الذي يستطيع أن يكون في صفه أو قريبا منه عليه الصلاة والسلام.
في يوم بدر عن علي بن أبي طالب، والحديث مروي عند الإمام أحمد في مسنده وعند غيره كذلك، وإسناد أحمد إسناد صحيح قال: (لقد رأيتني في يوم بدر، ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس بأسا) وهذا وصف يدل على الشجاعة.
الموقف الثالث:
ومن المواطن التي تعددت فيها مواقف شجاعته وتجلت يوم أحد، روى أصحاب السير وذكره البيهقي في دلائل النبوة قال المقداد رضي الله عنه يصف الحال في يوم أحد: لا والذي بعثه بالحق إن زال رسول الله صلى الله عليه وسلم شبرا واحدا لم يتحرك من موقعه مع هذه الحيصة والاضطراب، لقد لقي وجه العدو تثوب إليه الطائفة من أصحابه مرة وتصرف عنه مرة، فربما رأيته قائماً يرمي بقوسه ويرمي بالحجر حتى تحاجزوا قال: وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو في عصابة صبروا معه،لم يتزحزح ولم يتغير وربما جاءه من جاء، وانصرف من انصرف وهو ثابت في مكانه عليه الصلاة والسلام.
وقدم الشقي اللعين أبي بن خلف ينشد: أين محمد لا نجوت إن نجا؟ يبحث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويريد أن يستغل الفرصة ويقتل كما يزعم رسول الله عليه الصلاة والسلام، فسمع بعض الصحابة ذلك فقالوا لرسول الله عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟ نتصدى له ونمنعه ونقتله، فقال عليه الصلاة والسلام دعوه فتركوه، فلما دنا تناول النبي صلى الله عليه وسلم حربة من الحارث بن الصمة رضي الله عنه فانتفض بها انتفاضة تطاير الصحابة رضي الله عنهم تطاير الشَعراء، والشَعراء: حشرة خفيفة أو نوع من الذباب الصغير يعني من شدة ما رأوا من بأس النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا عنه وابتعدوا منه .
فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في عنقه طعنة تدأدأ منها أي: خر عن فرسه مراراً، وفي بعض الروايات أنه كسر له ضلعاً من أضلاعه، فرجع إلى قريش فرقاً يقول: قتلني محمد قتلني محمد وهم يقولون: لا بأس عليك يعني سوف تشفى أو كذا فقال: لو كان جميع الناس لقتلهم، أليس قد قال: أنا أقتلك؟ قال: والله لو بصق عليّ لقتلني.
فمات من ضربة النبي عليه الصلاة والسلام تلك وهو الذي باشر النبي عليه الصلاة والسلام قتله بيده الشريفة عليه الصلاة والسلام، وهذا من شجاعته عندما يعرف الواحد أن هناك إنسان يقصده ويتوجه له ويريد أن يقتله، ثم يقول: دعوه، يعني: ليس بي خوف ولا هيبة، بل ثبات ورباطة جأش وقوة قلب، وبسالة وجرأة وإقدام منه عليه الصلاةوالسلام ثم فعل ما فعل.
وبعد أحد دعا النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه جميعا في اليوم التالي، وخرج بهم لكي يلحقوا عدوهم، وكانوا قد كسروا كسرة معروفة، وكان قد أصابهم ما أصابهم، لكن قوة اليقين والإيمان ورباطة الجأش وشدة البأس وعظمة الشجاعة جعلته يخرج ليقول للناس وليقول لأصحابه: إنه ليس بخائف ولا هياب وإن ما جرى لم ينل من قوة الثبات واليقين ولا من رباطة الجأش وشدة البأس وقوة القلب.
ولعلنا نستحضر حادثة نذكّر بها بين الفينة والأخرى حتى يلتفت نظرنا إلى أحوال أمتنا:
سقطت بغداد في شهر محرم عام 656هـ على أيدي التتار المغول، واستحر القتل في أهل بغداد -كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية- أربعين يوماً حتى سالت ميازيب البيوت من دماء المسلمين قال: وقتل في بغداد ثمان مئة ألف، وقيل: ألف ألف وثمان مئة ألف، يعني ما بين ثمان مئة ألف إلى مليون وثمان مئة ألف. قال: وأنتنت الجثث حتى بلغ ريحها إلى بلاد الشام، حصل هذا في محرم سنة 656 فمتى انتصر المسلمون على التتار؟ بعد قرن من الزمان؟ بعد عقود من الزمان؟.
المفترض أن أمة يحصل لها هذا متى تنهض؟ تحتاج إلى عشرات السنين لكن في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان عام 658هـ يعني بعد سنتين كانت معركة عين جالوت التقى فيها المسلمون مع التتار، وكان قائد المسلمين قطز صاح صيحته الشهيرة (وا إسلاماه) وثبت وقاتل حتى استشهد، وانتصر المسلمون وقتلوا التتار فلم يبق منهم أحد وتبعوهم من مصر حتى حدود بلاد الشام.
وهذا يدلنا على أن العزيمة ليست بالقوة المادية فحسب، فإن القلوب إذا كانت خواء، والنفوس فيها وهن، والصفوف فيها اضطراب وحيرة، لا تغني القوى المادية، وكما قال بعض العلماء المعاصرين: لا يغرنك السلاح العظيم في يد الرعديد الجبان، ونحن نسمع اليوم وللأسف الشديد من أبناء جلدتنا ووسائل إعلامنا من يهولون قوة أمريكا، وكأنهم يقولون للناس: إن كان في قلوبكم شيء من رباطة أو قوة فانسوها، إن كان عندكم شيء من شجاعة أو كرامة فألغوها، وهذا مما يفشي الوهن في نفوس الناس، حتى لو كان هذا صحيحاً فمن الحكمة ألا يشاع ذلك حتى لا يفت في عضد الناس.
وقد رأينا كيف مر النبي صلى الله عليه وسلم بأشد الظروف وأصعبها، وكانت الظروف المادية في مؤتة لا يمكن أن تقاس بحال من الأحوال.
لماذا أعداؤنا اليوم أقوى؟ ما معنى ذلك؟ لأن الصف المقابل أعني صفنا ليس صف إيمان محض وليس صف إسلام كامل، وليس صف إخلاص مجرد لله وليس صفاً يريد إعلاء راية الله عز وجل، ليست أمة الإسلام اليوم على ما يحب الله ويرضى، لم ينصروا الله، فلم يتحقق لهم نصره ، وكما يقال: ليس من قوة يدك يسقط الجدار المتهالك وإنما من ضعف الجدار. فليس من قوة الأعداء يسقط المسلمون، وإنما من ضعف إيمانهم ويقينهم.
لذلك عندما نتحدث عن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وشمائله أو سير أصحابه فليس هذا من نافلة القول، إنما لنعيد إلينا ثقتنا بأنفسنا، وأن نعرف كيف كانت حقيقة الإيمان وانعكاساته وآثاره في حياة المصطفى عليه الصلاة والسلام والصحابة وتاريخ الأمة.
وفي عام 702هـ كانت معركة شقحب، وكان ابن تيمية يحرض المؤمنين على القتال ويقول: قاتلوهم والله إنكم لمنصورون يقولون له: قل إن شاء الله؟ ، يقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، لماذا؟ لأنه رأى في صورة المسلمين ورجوعهم إلى الله وثباتهم ورغبتهم في الدفاع عن الدين ما رأى مما يبشر بالنصر.
والنبي عليه الصلاة والسلام بشر بالنصر في معارك كثيرة قبل أن تبدأ، لماذا؟ لأنه كان يرى أسباب النصر موجودة في أمته وأصحابه رضي الله عنهم.
الموقف الرابع:
في يوم حنين وهو موقف معروف رواه البراء بن عازب في حديث طويل وروي بألفاظ مختلفة كثيرة. في رواية البراء بن عازب رضي الله عنه، وهي رواية البخاري ومسلم قال له رجل يسأله: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ بعض الصحابة يسألون يعرفون حنين وما جرى فيها والقرآن وما نزل فيها من الآيات.
قال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أباعمارة؟ فبماذا أجاب؟ انظروا كيف يحسن الصحابة الإجابة.
أول ما بدأ قال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، (بدأ بالرسول حتى لا يظن أن ما ذُكِر من التولي يشمله) قال: أشهد على نبي الله ما ولى، ولكن انطلق أخفاء من الناس، يعني من تولى هم من مسلمة الفتح، وقلة ليسوا من خلص الصحابة الذين خاضوا بدراً ومروا بأحد وخرجوا من الخندق الأثبات الأقوياء.
قال: ولكن أخفاء من الناس وحسر إلى هذا الحي من هوازن، يعني: أهل هوازن وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل كأنها سرب من الجراد من شدة النبل فانكشف هؤلاء الأخفاء من الناس، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا واستنصر وهو يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب).
ثم قال: (اللهم أنزل نصرك) قال البراء: كنا والله إذا احمرّ البأس نتقي به وإن الشجاع منا للذي يحاذي به أي: بالنبي عليه الصلاة والسلام.
وفي الصحيحين عن العباس بن عبد المطلب يقول: شهدت مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب رسول الله عليه الصلاة والسلام فلم نفارقه، (يروي العباس رواية شاهد عيان) ورسول الله على بغلة له بيضاء أهداها له ثروة بن نفاثة الجدامي، (البغلة تدل على الشجاعة لأن البغل لا يفر) فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين (حصل اضطراب لأن الذين في المقدمة رجعوا عندما فاجأتهم السهام) فاضطربت الصفوف، فطفق الرسول صلى الله عليه وسلم بغلته قِبَل الكفار، قال العباس: وأنا آخذ بلجام رسول الله عليه الصلاة والسلام أكُفُها إرادة ألا تسرع والرسول صلى الله عليه وسلم يركضها قال: وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال رسول الله: أي عباس ناد أصحاب الشجرة (أي الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الموت) فقال: العباس وكان صوته جهوريا: أين أصحاب الشجرة؟ (وهذا وصف جميل ورائع جداً لشجاعة الصحابة في المواطن العصيبة).
قال العباس يصف ما الذي جرى: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، رجعوا مباشرة. قال: فاقتتلوا والكفار. قال: والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار وبدأ كل الناس يدعون بما يشجع أصحابهم. قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث بن الخزرج فنظر الرسول صلى اللهعليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال: الآن حمي الوطيس. قال: ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجه الكفار وقال: (انهزموا) وكان ما كان من نصر الله عز وجل للمسلمين.
وعند ابن هشام في آخرها قال: فما رؤي أحد يومئذ كان أثبت منه ولا أقرب للعدو منه عليه الصلاة والسلام.
قال الصالحي في سبيل الهدى والرشاد: هذا ما يكون في غاية الشجاعة التامة؛ لأنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى، وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع ذلك على بغلة لا تصلح لكر ولا فر ولا هرب، ثم هو كذلك يركضها إلى وجوههم وينوه باسمه ليعرف من ليس يعرفه يقول: (أنا النبي لا كذب) أنا هنا من أراد أن يأتي فليأت، من أراد أن يأتي من الأعداء، أو من أراد أن يلحق به ويتقوى بثباته ورباطة جأشه وشجاعته عليه الصلاة والسلام.
والمواقف في ذلك كثيرة وهذا غيض من فيض شجاعته عليه الصلاة والسلام المستندة إلى ما سلف أن ذكرناه من قوة يقينه وتوكله على الله وثقته بالله.
ساحة النقاش