الدرس (13) : التوكل (2)
كتب: د. علي بن عمر بادحدح23 اكتوبر, 2012 - 7 ذو الحجة 1433هـ
الدرس الثالث عشر : التوكل (2)
نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يعصمنا من الفتنة والزلل، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يحسن عاقبتنا قي الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
حديثنا عن توكل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصدق التوكل وأعظمه وأكمله، وقد خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بالتوكل أمراً به وحثاً عليه وإلزاماً والتزاماً به كما في آيات كثيرة خوطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخطاب له ولأمته من بعده، كما في قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: الآية 159).
وكما خاطبه في شأن مواجهة ما يعرض له من عداء المعتدين وإيذاء المؤذين: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (النساء: الآية 81 ).
وكما أمر به كذلك في الأحوال المتغيرة من حرب وسلم في قوله جل وعلا: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنفال: الآية61).
وهذه مواقف تدلنا على أنه عليه الصلاة والسلام امتثل أمر ربه، وكان أصدق المتوكلين على الله سبحانه وتعالى.
فاعتماده وتفويضه وثقته بالله عز وجل عظيمة، وذلك في سائر ما مر في حياته عليه الصلاة والسلام سواء أكان في الفترة المكية التي غلب عليها ضعفه عليه الصلاة والسلام بقلة أتباعه وقلة حيلته وقلة قوته، أو كان ذلك في مواجهة أعدائه غير المتكافئ بقلة المسلمين وكثرة المشركين، أو حتى في غير ذلك مما انتهى إليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم مما أعزه الله به ونصره على أعدائه وفتح عليه.
ومن ذلك هذه المواقف، وهي قليل من كثير.
الموقف الأول:
هذا الموقف في دعوة النبي عليه الصلاة والسلام في مواجهة قريش ومعاداتهم له وضغطهم عليه ووقوفهم في وجهه. وكانوا يرون أن عمه أبا طالب سيد قريش يمثل حائلاً بينهم وبين أن يواجهوا النبي صلى الله عليه وسلم، وترددوا على أبي طالب مرات عديدة يكثرون عليه القول في شأن النبي صلى الله عليه وسلم.
يخاطبونه في تسفيه ابن أخيه لأصنامهم وفي ذمه لانحرافهم وشركهم، وفي إتيانه بهذه الدعوة الغريبة عليهم، فيطلبون من أبي طالب أن يخلي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يجدون في أذاه ولمزه وغمزه عليه الصلاة والسلام.
وفي بعض هذه المرات والضغوط التي جوبه بها أبو طالب خاطب النبي صلى الله عليه وسلم لما أكثروا عليه فكلم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكأن لسان حال أبي طالب يقول: خفف أو انظر إلى ما يقول هؤلاء القوم، فإنهم قد يعرضون لك بالأذى، وأنا قد لا أستطيع أن أكون معك حامياً ومدافعاً في كل الوقت.
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام ينتفع بحماية أبي طالب له، لكن توكله إنما كان على الله، واعتماده إنما هو على مولاه، وثقته إنما هي على خالقه سبحانه وتعالى، ولذلك قال قولته المشهورة لما خاطبه أبو طالب قال: (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته) رواه الطبراني في المعجم الأوسط والكبير وأبو يعلى، وقال الهيثمي رجال أبي يعلى رجال الصحيح.
فهذه قصة تدل على توكله عليه الصلاة والسلام فإنه يواجه قريشاً قاطبة وعندما يخاطب ليلين أو يغيّر أو يخفف يقول هذه المقولة، وهو يعلم أنها قولة عظيمة قد تفضي به إلى مواجهة حاسمة ومع ذلك يقولها عليه الصلاة والسلام واضحة جلية قوية مدوية.
(لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري).
وهذا أمر محال لكنه يقول: لو فعلوا ما فعلوا لو بلغوا ما بلغوا لو اشتطوا ما اشتطوا فإنه ثابت عليه الصلاة والسلام على دعوته، قائم بأمر ربه لا يأبه لهم ولا يكترث لعدائهم ولا يخشى من قوتهم ولا يلتفت إلى سطوتهم؛ لأن يقينه بالله عظيم وثقته به كبيرة، وهو مفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى قال: (على أن أترك هذا الأمر حتى أو أهلك فيه ما تركته). وفي بعض روايات السيرة: (حتى تنفرد هذه السالفة) والسالفة صفحة العنق، أي: حتى ولو فارق رأسي جسدي، وهذا من أعظم توكله عليه الصلاة والسلام.
الموقف الثاني:
عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته وهو عالم بتآمر قريش عليه، بل ويعلم أن حول البيت من يحيطون به، ينتظرون خروجه لقتله عليه الصلاة والسلام.
ومع ذلك خرج عليه الصلاة والسلام في ثقة كاملة وطمأنينة تامة ويقين كامل بما أمره الله سبحانه وتعالى به، فقد أمره الله جل وعلا بالهجرة والخروج إلى المدينة، فامتثل أمر الله دون أن يكون مكترثاً بما قد يعرض له من الخطر، وإن كان قد أخذ بالأسباب كما سنذكر في هذه الحادثة وغيرها. والله عز وجل ذكر شيئاً من ذلك في الوصف: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (لأنفال:30).
خرج النبي عليه الصلاة والسلام من بين أيديهم، وسيوفهم مسلطة وهم منتظرون مترقبون له، لم يكن في قلبه شيء من اضطراب ولا خوف، لم يكن في نفسه شيء من جزع ولا هلع، وإنما كان فيه من فيض اليقين وصدق التوكل ما جعله يخرج واثقاً بربه، موقناً بأنه سالم من بين يديه، وإن لم يكن يعرف كيف سيكون ذلك.
أغشى الله سبحانه وتعالى أبصارهم، أو ضرب النوم على عيونهم، فخرج من بين أيديهم، ولم يشعروا به عليه الصلاة والسلام: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (يس:الآية 9).
وفي بعض الروايات في السيرة أنه حثا على رؤوسهم شيئاً من التراب، وهذا من صدق توكله عليه الصلاة والسلام مع أنه أخذ بالأسباب، ولعلنا نذكر قصة الأسباب متأخرة مع الحادثة الشهيرة في الهجرة التي سطرتها أيضاً آيات القرآن الكريم، ورواها لنا أبو بكر بألفاظ مختلفة.
ففي صحيح البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه، وهذا لفظ البخاري والرواية عند مسلم قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال عليه الصلاة والسلام على الفور: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما).
وهذا يدلنا دلالة عظيمة على الاستشعار الحقيقي القريب الوثيق في نفس النبي صلى الله عليه وسلم برعاية ربه له وعناية مولاه به، ونظر الله جل وعلا إلى حاله وكلاءته له سبحانه وتعالى.
ولذلك أبو بكر لم يقل ذلك جزعاً، وإنما قاله خوفاً على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكانوا وقوفاً على فم الغار، ماذا كانوا يريدون؟ وأي شيء سيفعلون لو وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل كانوا سيسلمون عليه أو سيدخلون السرور عليه؟.
كان من المرتقب والمنتظر أن يكون وراء ذلك هلاك ماحق أو موت حاسم ومع ذلك قال بفيض اليقين وتمام التوكل ولسان ينبئ عن حقيقة مستقرة في القلب والنفس: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
والرواية الأخرى من حديث البراء بن عازب، وهو حديث جميل، حيث كان أبوبكر يطلب من عازب والد البراء أن يصنع شيئاً، فقال له البراء: لا أفعل حتى تخبرني ما كان من أمرك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فقص أبو بكر هذه القصة فقال: ارتحلنا من مكة فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا، يعني في اليوم التالي، وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه، قال: فإذا صخرة أتيتها، فنظرت بقية ظل لها فسويته، ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله، فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحد، فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه، فطلب منه أن يحلب له، قال: وانطلقت به إلى النبي فوافقته وقد استيقظ فقلت: اشرب يا رسول الله فشرب حتى ارتويتُ، ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله قال: بلى فارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، قال أبو بكر: فقلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحزن إن الله معنا) والحديث رواه البخاري ومسلم.
والله سبحانه وتعالى قد ذكر إشارة لهذه الواقعة في قول الله سبحانه وتعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: الآية 40).
وهذا من أجلى وأظهر مواقف التوكل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولاشك أن التوكل هنا تظهر آثاره، عندما يكون الإنسان محاطا بالخطر والخطر محدق به غالباً ما يكون -إذا كان ضعيف الإيمان- قليل التوكل يضطرب ويحتار، ولا يمكن حينئذ أن يكون له حسن تصرف؛ لأن الأناة تذهب عنه ولأن السكينة تفارقه ويكون عنده شيء من الجزع الذي يجعله في شدة من الحزن والأسى كأنما الأمر قد انتهى.
لكن التوكل يفيض الطمأنينة ويجعل العقل في تمام الرشد والحكمة وحسن التصرف والتدبر، ويفيض كذلك صدق الالتجاء إلى الله عز وجل.
الموقف الثالث:
رواه جابر بن عبدالله وهو موقف أجلى وأوضح في شدة قرب الخطر المهلك ومع ذلك يكون ثبات كامل، ورباطة جأش تامة من أثر التوكل.
روى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قِبل نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاة، والعضاة: الشجرة ذات الشوك، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، وتفرق الناس في الوادي، كلٌ يبحث له عن شجرة يستظل بها، فبقي الرسول عليه الصلاة والسلام واحداً مفرداً لم يكن معه أحد من أصحابه، وسيفه معلق في الشجرة التي استظل بها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مخبرا عما جرى له: (إن رجلاً أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف سلطاً في يده، يعني السيف مشرع ليس بينه وبيني أي شيء ، فقال لي: من يمنعك مني؟ فأجاب النبي على الفور قلت: الله، فأعاد من يمنعك مني؟ فأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم: الله، قال: فشام السيف، معنى شام السيف:أي أغمده وتركه، وفي بعض الروايات أن الرجل ارتعد فسقط السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟ فقال الرجل: كن خير آخذ، فتركه النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال: هذا هو الرجل فإذا هو جالس لم يتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في الصورة المعتادة لمثل هذا الموقف أن يكون كمال الخوف وشدة الهلع والاضطراب، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بكامل الثقة والطمأنينة واليقين والتوكل يجيب إجابة الواثق بالله عز وجل يقول: الله، ثم يفضي ذلك أن الرجل يغمد سيفه أو يهتز من بين يديه، فيكون النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يأخذ السيف ويهدد ذلك الرجل، ويقول من يمنعك مني، فلا يجد الرجل من يمنعه من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيتركه النبي عليه الصلاة والسلام ويعفو عنه، ولا يؤاخذه بذلك.
الموقف الرابع:
حديث رواه أبو داود وابن ماجه في سننهما من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد رجل مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال: "كل ثقة بالله وتوكلاً عليه".
التوكل هنا واضح، لكن هناك أسئلة الآن تدور في الذهن تتعلق بالأخذ بالأسباب لذلك نقول: ليس هنا ترك للأخذ بالأسباب، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يبين أمرين:
الأمر الأول: درجته العالية في التوكل التام على الله عز وجل.
الأمر الثاني: أراد أن يبين للأمة أن الأسباب ينبغي أن يؤخذ بها، لكنها ليست هي المؤثرة بذاتها.
والدليل أن المجذوم وضع النبي عليه الصلاة والسلام يده في الطعام، ولم يحصل من ذلك شيء ولا أثر.
فالناس نقول لهم: خذوا بالأسباب لكن الأسباب لا تؤدي أثرها إلا بإذن الله، لا يتضح ذلك حتى يكون في صورة عملية ومثال حي.
وهذا من صدق توكله وبيان مكانته العالية الرفيعة في التوكل، وهي تعليم للأمة، لماذا نقول ذلك؟ لأننا نقول: عندما جاء كفار قريش إلى الغار ألم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أخذ بالأسباب؟.
جاء إلى أبي بكر في نحر الظهيرة في وقت لا يتحرك فيه الناس، قال له: أعد الناقة ووافاه في الليل وليس في النهار، لم يتجه شمالاً باتجاه المدينة، لكنه اتجه جنوباً باتجاه اليمن نحو غار ثور بعيدا عن طريق المدينة، ثم اختبأ في الغار، وطلب من أبي بكر أن يهيئ بعض الأمور، فكانت أسماء تأتي بالطعام، ويأتي في آخر الليل عبدالله بن أبي بكر بأخبار قريش ويخرج قبل الفجر ويصبح في أهل مكة كبائت فيها، ويأتي راعي الغنم ويمر بالغنم حتى يغطي على آثار عبدالله بن أبي بكر.
خطة محكمة تامة أخذ فيها بكل الأسباب، لكن إرادة الله عز وجل تريد أن تعلم الأمة كلها أن الأسباب ليست بالضرورة تؤدي إلى النتائج.
هذه خطة محكمة لكن الله أراد أن يصل بعضهم إلى هذا الموطن لما قالوا إنهم قصوا الأثر حينئذ ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ لم يضطرب ولم يهلع، بل قال: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
هذا أمر يبين صدق التوكل مع الأخذ بالأسباب حتى في قصة أبي طالب لم يرفض النبي صلى الله عليه وسلم حماية عمه أبي طالب لم يقل له أنت مشرك لا تدافع عني، لكنه عندما أراد أن يترك حمايته أو يريده أن يخفف من دعوته، قال: "لا والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت ذلك.." كما أسلفنا القول في هذا الأمر، وهذا أمره واضح وبين ودلالته عظيمة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام.
الموقف الخامس:
عن أنس رضي الله عنه بعد ذكره لبعض الصفات العظيمة في النبي عليه الصلاة والسلام: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس ثم ذكر لنا صفة أو حادثة، يقول ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت. في رواية سهل بن سعد لهذا الحديث يقول: استيقظ الناس في المدينة على صوت صارخ في الليل، هنا فزع أهل المدينة فخرجوا نحو الصوت يعني بعد لحظات وحتى استوعبوا الأمر، وبدؤوا يخرجون قليلاً قليلاً، يقول: فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد استبرأ الخبر يعني ماذا؟ الرسول صلى الله عليه وسلم قد خرج وذهب وعرف الأمر ورجع، والناس لازالوا مترددين.
وفي الرواية نفسها قال سهل بن سعد: خرج الرسول صلى الله عليه وسلم على فرس عري لأبي طلحة، عري: يعني من غير سرج خرج مباشرة، نعم في هذا شجاعة ولكن فيه توكل، خرج وحده لم ينتظر أعوانا ولا صحبا ولا قوة، متوكلا على الله عز وجل معتمدا عليه، فخرج وراء الأمر ورجع، وهو يقول: (لم تراعوا، لم تراعوا) ثم يقول أنس في آخر الحديث: وجدناه بحرا، وإنه لبحر، يعني واسع في صفاته كلها عليه الصلاة والسلام.
ولذلك كان توكله في مثل هذه المواطن التي ذكرتها بعض كتب السيرة لا يجارى، ولا يبارى، ولا يشق له غبار عليه الصلاة والسلام.
الموقف السادس:
موقف سجلته آيات القرآن للنبي عليه الصلاة والسلام ولأصحابه رضوان الله عليهم، في غزوة حمراء الأسد، وهي التي كانت عقب أحد مباشرة، وكان يوم أحد شديدا وعصيبا ومؤلما للمسلمين عموما، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصا، استشهد سبعون من أصحابه فيهم حمزة عمه وأسد الله وأسد رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد شج وجه النبي وكسرت رباعيته، والصحابة كلهم مصابون، ثم في اليوم التالي أمر النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة بأن يخرجوا للحاق عدوهم، في اليوم التالي مباشرة ليوم أحد، وقد سمعوا أن أبا سفيان يريد أن يرجع ومعه بعض الأعراب إلى المدينة ليستأصلوا شأفة المسلمين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمر الرسول ألا يخرج أحد لم يشهد أحدا، الذين أصيبوا خرج بهم النبي عليه الصلاة والسلام كيف ستكون قوتهم؟ كيف ستكون قوته؟ سليمين أم مصابين؟ فيهم حزن وألم أم لا؟.
ومع ذلك خرج النبي عليه الصلاة والسلام، وذهب إلى حمراء الأسد بعد أحد وانتظر يوما ويومين وثلاثة، حتى إن أبا سفيان أراد أن يرجع بالفعل، فماذا سمع؟ سمع أن محمدا خرج، فقال: خرج محمد وأصحابه، فخاف وواصل طريقه إلى مكة، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (آل عمران: الآية 173).
نتيجة الجمع أن يكون هناك خشية وخوف، فماذا قال الله عز وجل في وصفهم: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل} (آل عمران: الآية 173).
وكان هذا من صدق توكل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، لم يستنصروا بأحد، لم يستعينوا بغيره، لم يأخذوا شيئا من الأسباب الزائدة عن الحد، بل خرجوا اعتمادا وتوكلا على الله سبحانه وتعالى.
وقريب من ذلك وأظهر منه في الجملة، ما كان في يوم الأحزاب، يوم أحاط المشركون بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، واجتمع بالمسلمين شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، وأكمل صعوبة الموقف شدة وبلاء وعسر نقض قريظة للعهد: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} (الأحزاب:10،11).
عندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبر نقض قريظة للعهد، ماذا قال؟ (الله أكبر، الله أكبر، أبشروا، أبشروا).
يقين كامل، وطمأنينة تامة، وتوكل صادق على الله سبحانه وتعالى، من غير جزع ومن غير هلع، لماذا؟ لأن الممتثل لأمر الله يعلم أن الله جاعل له مخرجا، وأنه مادام على أمر الله، فالعاقبة خير في دنياه أو في أخراه، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف، وقد ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل: قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: الآية 173).
التوكل القولي:
وأما التوكل القولي الذي كان يهيئ معاني التوكل في القلب عند الملمات والحاجات، وعند سائر الأحوال المعتادة فإنه كذلك من شمائله عليه الصلاة والسلام في التوكل.
روى أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزى، قال: (اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول وبك أجول وبك أصول وبك أقاتل) رواه الترمذي في سننه وقال: حسن غريب.
هنا عند المعركة وعند المواجهة يدعو دائما عليه الصلاة والسلام بهذا الدعاء الذي فيه معاني التوكل: (اللهم أنت عضدي ونصيري، اللهم بك أحول وبك أجول وبك أصول وبك أقاتل).
يعني الاعتماد كله على الله عز وجل، وعلى قوته سبحانه وتعالى، وعلى نصره سبحانه وتعالى، وعلى حوله وقوته سبحانه وتعالى، وذلك تأكيد واستحضار لمعاني هذا التوكل في قلب المصطفى عليه الصلاة والسلام في مثل هذه الظروف العصيبة في مواجهة الأعداء وقتالهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:(اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) رواه مسلم. وقد ورد عن البراء بلفظ قريب في دعاء النوم.
وهنا نلاحظ المعاني الإيمانية في هذا الدعاء، في صدق الالتجاء إلى الله عز وجل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل والكلمة الحسنة)
هذه بعض المواقف في شمائل النبي عليه الصلاة والسلام في التوكل، وهي جلية واضحة، وفيها درس وعبرة، وفيها قدوة وأسوة.
ساحة النقاش