كتب: د. علي بن عمر بادحدح26 مايو, 2012 - 5 رجب 1433هـ
الدرس التاسع : الخوف والخشية (2)
نستكمل ما بدأناه من الحديث عن الخوف والخشية من الله عز وجل في شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وقد سبق لنا الحديث عن تعريف الخشية والخوف، والفرق بينهما، وبيان ذلك فيما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وتحدثنا عن ثمرات هذه الخشية.
وهذه الخصلة معدودة في خصال الأخلاق والشمائل الإيمانية الاعتقادية التي بدأناها بالرضا وثنينا فيها بالخشية.
وبعد أن أشرنا إلى ما يتعلق بالخشية من حيث معناها والمسائل المتعلقة بها نشرع في عرض النماذج العملية التطبيقية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم التي تبرز لنا عظمة خشيته لله سبحانه وتعالى وخوفه منه، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له).
والأمثلة في حياة المصطفى عليه الصلاة والسلام كثيرة، والمتأمل فيها يجدها ذات دلالة عظيمة، ونقف هنا وقفات متعددة في خشيته وخوفه عليه الصلاة والسلام.
الوقفة الأولى: مواقف عملية في خشيته صلى الله عليه وسلم:
ورد في السنة والسيرة النبوية الكثير من أحوال وأخبار ومواقف خشيته عليه الصلاة والسلام منها: ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي من أقرب الناس إليه وأحبهم له، فتقول فيما ثبت برواية صحيحة عند البخاري ومسلم: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى من لهواته، إنما كان يتبسم تبسماً، وكان إذا رأى ريحاً عُرف في وجهه، فقالت: يا رسول الله أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيتَه عرفتُ في وجهك الكراهة، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة ما يؤلمني أن يكون فيه عذاب، قد عُذِب قوم بالريح، وقد رأى قوماً العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا).
وهذا الحديث عظيم في بيان خشية المصطفى صلى الله عليه وسلم يظهر في سمته العام ليس حالة عارضة أو حادثة معينة، وإنما كما قالت رضي الله عنها: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى لهواته.
يعني: ما رأيته مستجمعا ضاحكا، أي: متمكناً في الضحك ومسترسلاً فيه، قالت: كان يتبسم تبسماً، والمستجمع هو الذي يقصد الشيء ويجتمع له ويجد فيه، يعني لم يكن من دأبه ولا من سمته القصد إلى الضحك والتوغل فيه والاستزادة منه أبداً حتى تقول لم تكن ترى لهواته، واللهاة هي ما نسميه لسان الموت عندما يضحك الإنسان ضحكاً شديداً فيفتح فمه من شدة ضحكه ترى هذه اللهوات، قالت: ما رأيت ذلك من رسول الله عليه الصلاة والسلام وإنما كان يتبسم تبسماً.
وذلك حال من غلبت عليه الخشية، وكان في نفسه وقلبه استحضار الخوف من الله عز وجل.
ثم بينت ذلك في نظرته عليه الصلاة والسلام للأحوال والعوارض، كيف كان ينظر إليها؟ ونحن نرى أحوالنا اليوم، ونحن ننظر إلى الأمور نظراً فيه خفة، وفيه عدم تأمل فيما يكون وراء هذه العوارض والأحوال.
تقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الريح عُرِف في وجهه، يعني: يتغير وجهه تأثراً، قالت: فقلت: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم يستبشرون، يعني: يرون أن فيه المطر، وأنت إذا رأيتَه رأيتُ في وجهك الكراهة، لماذا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (ما يؤلمني أن يكون فيه عذاب) من شدة خشيته لله عز وجل واستحضاره لما قد يقدره الله من البلاء والعذاب والفتنة.
يقول: (ما يؤلمني أن يكون فيه عذاب) وقد رأى قوماً الريح من قبل ورأوا الغيم هذا، وقالوا: كما في قصة هود عليه السلام مع قومه، قالوا: هذا عارض ممطرنا فجاء الجواب القرآني: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الأحقاف: من الآية 24).
وهذا يبين لنا السمت الغالب على شخص النبي عليه الصلاة والسلام لتذكره عقوبة الله عز وجل وابتلاؤه لعباده مما يسلطه على الناس بما تقضي به حكمته ويجري به قدره.
وفي حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (إبراهيم:36).
وتلا أيضاً قول الله عز وجل على لسان عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة:118).
ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه ودعا لأمته وهذا يأتينا تفصيلاً في الكلام عما يتعلق بخشيته على أمته.
ونأخذ موقفاً آخر ترويه السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: فقدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة في الفراش في النوم فلم أجده، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدمه وهو في المسجد تعني: وهو ساجد أي: في موضع السجود وهو يقول: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).
توقظه الخشية من نومه ويهزه الخوف من مضجعه، فتقول عائشة: افتقدته فإذا هو ساجد، وهذا الدعاء يبين ما كان يدفعه وينهضه إلى هذه الطاعة والعبادة (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك) يعني: يخشى سخط الله ويلتمس رضاه.
(وبمعافاتك من عقوبتك) أي: يخشى عقوبة الله ويلتمس معافاته، ثم يثني على الله سبحانه وتعالى.
ومرة ثالثة مع السيدة عائشة رضي الله عنها وهي تخبر أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وقد انسل من جوارها، وخرج فخرجت تتبعه تريد أن ترى أين يذهب فإذا به يذهب إلى البقيع يزور أصحابه ويدعو لهم، ولما رجع انتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة فسبقته، فجاء إلى عائشة وهي قد تصنعت النوم فقال: (مهيم) يعني: ماذا يا عائشة؟ فإذا بها تنهج من شدة ما كانت تجري، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى أنه تذكر أصحابه فخرج يتذكر الموت ويدعو لهم.
وفي حديث أم المؤمنين زينب قالت: استيقظ النبي عليه الصلاة والسلام ليلة ثم قال: (ويل للعرب من شر قد اقترب فُتِح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وحلق بإصبعيه بإبهامه وسبابته ثم قال: من لي بصويحبات الحجر أو الغرف يعني:أزواجه، حتى يذكرهن بضرورة أن يقمن في الليل، ويذكرن الله عز وجل ويدعونه ويتعبدن ويصلين لله خوفاً من هذا.
فكان دائماً يذكر بهذه المعاني في صورة يضرب بها المثل من نفسه، وتروي ذلك أزواجه أقرب الناس إليه، وأعرفهم بحاله في خلوته، وفي حلس بيته، وفي داخل داره صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدلنا على ما كان في قلبه ونفسه من خشية الله وخوفه منه.
وهذا حديث يرويه خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن أم العلاء، وهي امرأة من الأنصار بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: لما كانت الهجرة قسم النبي عليه الصلاة والسلام المهاجرين، وآخى بينهم وبين الأنصار، قالت: فكان من قسمنا عثمان بن مظعون رضي الله عنه وهو من أكثر الصحابة زهداً وتعبداً، قالت: فأنزلناه في أبياتنا، فوجع، وكان وجعه هو الذي توفي فيه، فلما توفي غسل وكُفِّن في أثوابه، ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك يا أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، تعني: بإكرام الله له أنه رضي عنه وغفر له، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه؟) قالت: فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمتى يكرمه الله؟ وهذا حاله نعرفه فقال عليه الصلاة والسلام: (أما هو فوالله لقد جاءه اليقين، فوالله إني لأرجو له الخير، فوالله ما أدري -وأنا رسول الله- ماذا يُفعل بي) قالت: فقلت: والله لا أزكي بعده أحداً.
نعم نرجو للمحسن الثواب، ونخشى على المسيء العقاب، لكن لا نعرف مصيره، وهذا يدلنا على أمر مهم يقع به الخوف الدائم والخشية التامة وهو أمر حسن الخاتمة، وماذا يكون بعد الموت.
ولذلك يقول الحسن البصري رحمه الله: أدركتُ أقواماً هم أخوف منكم أن تحاسبوا على سيئاتكم، من أن تُرد عليهم حسناتهم.
يعني خوفهم من أن ترد عليهم الحسنات وألا تقبل منهم، أعظم من خوفكم أن تحاسبوا على سيئاتكم، وهذا فرق ما كان بين السلف وبين من فرطوا فيما كانوا عليه من الأحوال.
وهذا حديث يرويه البراء بن عازب رضي الله عنه وهو عند الإمام أحمد في مسنده، وعند ابن ماجة في سننه، ورواه البخاري في تاريخه، وسنده حسن.
يقول: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة، يعني: مجموعة من الناس متجمعين فقال: (علام اجتمع هؤلاء؟) فقيل: على قبر يحفرونه، قال: ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر حيث كان الناس يدفنون، قال: فجثا عليه، يقول البراء: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ماذا يصنع، قال: فبكى حتى بل الثرى من دموعه، ثم قال لأصحابه: (أي إخواني لمثل اليوم فأعدوا).
وهذا يدلنا على ما كان في قلبه عليه الصلاة والسلام من عظمة خشيته لله وسرعة تذكره وشدة استحضاره.
وحديث آخر يرويه الإمام أحمد والترمذي والبيهقي وغيرهم من أهل السنن، ورواه الترمذي بلفظ مختصر من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال بعضهم للرسول صلى الله عليه وسلم: شبت يا رسول الله، قال: (شيبتني هود وأخواتها).
يعني ما في الآيات في سورة هود وأخواتها من الوعيد ومن ذكر الآخرة.
أما رواية البيهقي عن ابن عباس وهي أيضاً عنده رواية أخرى من رواية أبي سعيد فيها شيء من بيان ذلك قال: قال عمر: يا رسول الله أسرع إليك الشيب، قال: (شيبتني هود وأخواتها: الواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت).
ومن تأمل في هذه السور رأى أن فيها آيات كثيرة عن قيام الساعة، وعما يحصل من أحداث الكون، وما يقع من حساب وعقاب، وهذا أمر ظاهر وبين.
ومن أعظم ما يبين لنا كيف كانت خشيته عليه الصلاة والسلام في تعبير ذكر فيه ما يعلمه من الحقائق التي لا يعلمها غيره، ما رواه الإمام أحمد والترمذي في السنن وحسنه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه، وأحنى جبهته ينتظر الأمر بالنفخ في الصور) قالوا يا رسول الله فماذا نقول؟ قال: (قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل).
وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين) وفرج بين إصبعيه.
يعني أن الأمر قريب، ولذلك قال: (الأمر أعجل من هذا) أعجل من أن تمد في الأمل وتسوف، ولذا كان هذا هو دأبه عليه الصلاة والسلام وسمته في خشيته لله سبحانه وتعالى.
الوقفة الثانية: الخشية في أقواله عليه الصلاة والسلام:
وذلك -على وجه الخصوص- خاص بدعائه عليه الصلاة والسلام كما مر بنا بعضه، وفي ذلك أقوال كثيرة مما ثبت له في كتاب الله عز وجل ومما قال به في دعائه وتذكيره صلى الله عليه وسلم.
أما من القرآن، فقد قال الله عز وجل في وصف الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} (الأنعام:15،16).
وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } (يونس:15).
وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك).
(اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك).
(اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار، وعذاب القبر وفتنة القبر، ومن شر فتنة الغنى، ومن شر فتنة الفقر، ومن شر فتنة المسيح الدجال، اللهم أزل خطاياي بماء الثلج والبرد) إلى آخر الدعاء، وهو ثابت من حديث الترمذي عند عائشة، وقال الترمذي حسن صحيح.
وفي حديث الصحابي الجليل عبدالله بن الشخير قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولصوته أزيز كأزيز المرجل، يعني من صوت بكائه عليه الصلاة والسلام.
الوقفة الثالثة: خشيته على أمته عليه الصلاة والسلام:
وأما خشيته على أمته فقد كان يذكر لهم أموراً يخشاها عليهم، حتى يجعل في قلوبهم الخشية مما يخوفهم منه عليه الصلاة والسلام.
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها) أي في الدنيا.
وكما قال: (لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا، فتنافسوا فيها، فتهلككم كما أهلكتهم) كما أخبر عن الأمم السابقة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أكثر ما أخاف عليكم، ما يخرج الله عليكم من زهرة الدنيا).
وهذا أمره بيِّن وظاهر، وفيه أيضا حديث عبدالله بن عمرو الذي ذكرنا طرفا منه، لما تلا ما قاله الله على لسان إبراهيم وعيسى، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أمتي.. أمتي.. أمتي) وظل يبكي عليه الصلاة والسلام، فقال الله عز وجل: (يا جبريل اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله: ما يبكيك؟) فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أمتي.. أمتي.. أمتي) قال الله: (يا جبريل اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك) رواه مسلم في صحيحه.
وهذا من خشيته على أمته ورغبته في الخير لهم كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما مثلي ومثلكم، كمثل رجل استوقد نارا فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار).
وهذا من شدة شفقته وخشيته وخوفه على أمته، ورغبته في الخير لهم.
الوقفة الرابعة: خشية أتباعه صلى الله عليه وسلم:
فأما أبو بكر فكما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما لما قال عليه الصلاة والسلام عندما كان مريضاً : (مروا أبا بكر فليصل بالناس) اجتهدت وكانت تريد أن يصلي عمر فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (يأبى الله ذلك ورسوله مروا أبا بكر فليصل بالناس).
فقالت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف لا يملك إذا صلى أن يبكي فيبكي الناس ببكائه، هذا طبعه لما كان يصلي في مكة كان يعتدل في بيته فيصلي فيقرأ فيبكي، فيجتمع النساء والأبناء والرجال، فيبكون ببكائه رضي الله عنه.
ولما جاء أبو بكر إلى المدينة في أول الهجرة أصابته حمى المدينة، فكانت عائشة تدخل عليه وتعوده فكان يقول:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
أما الفاروق عمر فالروايات في خوفه كثيرة، لأن حياته طالت بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك أن عمر كان يقول: لو نادى مناد يوم القيامة أيها الناس: إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلا لخشيت أن أكون أنا ذلك الرجل.
ولا يقول عمر هذا من باب التواضع ، وإنما كانت غلبة خوفه وشدة إيمانه ويقينه بما أخبر الله عز وجل من العقاب والعذاب، وخوفه من عدم قبول الأعمال هو الذي أنطق لسانه بذلك.
عَنْ قَتَادَةَ قال: خَرَجَ عُمَرُ رضي الله عنه مِنَ الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ الْجَارُودُ الْعَبْدِيُّ، فَإِذَا امْرَأَةٌ بَرْزَةٌ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا عُمَرُ رضي الله عنه فَرَدَّتْ عَلَيْهِ السَّلامَ، أَوْ سَلَّمَتْ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهَا السَّلامَ، فَقَالَتْ : هِيهًا يَا عُمَرُ، عَهِدْتُكَ وَأَنْتَ تُسَمَّى عُمَيْرًا فِي سُوقِ عُكَاظَ تُصَارِعُ الصِّبْيَانَ، فَلَمْ تَذْهَبِ الأَيَّامُ حَتَّى سُمِّيتَ عُمَرَ، ثُمَّ لَمْ تَذْهَبِ الأَيَّامُ حَتَّى سُمِّيتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِي الرَّعِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ خَافَ الْمَوْتَ خَشِيَ الْفَوْتَ، فَبَكَى عُمَرُ رضي الله عنه، فقال الْجَارُودُ: هِيهٍ فَقَدِ اجْتَرَأْتِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبْكَيْتِهِ، فقال عُمَرُ رضي الله عنه: "أَمَا تَعْرِفُ هَذِهِ؟ هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ امْرَأَةُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الَّتِي سَمِعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلَهَا مِنْ فَوْقِ سَمَاوَاتِهِ، فَعُمَرُ أَحْرَى أَنْ يَسْمَعَ لَهَا".
وابن عمر يروي هذه الحادثة، قال: لما طُعِن عمر كانت رأسه على حجري أو على فخذي، فقال عمر: ضع رأسي على الأرض قال: فوضعته على الأرض، فقال: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي.
وكان رضي الله عنه شديد الخوف، حتى ذُكِر في وصفه أن في وجهه بعض السواد كالأخاديد مما كان يكثر من البكاء من خشية الله.
وأبو هريرة رضي الله راوي حديث رسول الله وصاحبه كان يبكي في مرضه الذي مات فيه، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي على بُعد سفري وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي.
وهكذا نجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين تأثروا به واقتبسوا منه على هذا النهج، وهذه خلة عظيمة ومنقبة من أجل مناقبه وأحسن شمائله عليه الصلاة والسلام.
فحري بالمؤمنين أن يستحضروا عظمة الله ويتذكروا وعيده وعقابه، وأن يجعلوا ما يقرؤون وما يعرفون من القرآن والسنة كأنما يرونه رأي العين حتى يخلص إلى قلوبهم ويتأثروا به.
كما كان عليه الصلاة والسلام يخبرهم بذلك فيقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى).
ساحة النقاش