موقع الأستاذ عبد الفتاح أمير عباس أبو زيد

موقع لغوي أدبي تربوي قبمي


الدرس الثامن : الخوف والخشية

كتب: د. علي بن عمر بادحدح08 مايو, 2012 - 17 جمادى الثانية 1433هـ

 

الدرس الثامن : الخوف والخشية

الخوف والخشية من الله -سبحانه وتعالى- ضمن الأخلاق الاعتقادية والشمائل الإيمانية لخير البرية -صلى الله عليه وسلم- وقد ذكرنا: أن هذه الأخلاق والشمائل المتعلقة بالإيمان والعبادات الباطنية هي من أهم هذه الأخلاق والشمائل وأعظمها، وأكثرها إظهارا لرفعة مقام رسولنا -عليه الصلاة والسلام- وأكثرها بيانا لما هو عليه صلى الله عليه وسلم من أثر هذه الشمائل العظيمة في واقع حياته كقدوة حسنة وأسوة عظيمة لأمته.

وكما مر بنا في خلق الرضا نقسم الحديث إلى قسمين:

الأول: يتناول الموضوع ذاته، فنتحدث عن الخوف والخشية ومعانيهما ومكانتهما وآثارهما،

الثاني: يتناول الأمثلة القولية والعملية من حياته صلى الله عليه وسلم التي تتجلى فيها أعظم صور الخشية والخوف من الحق سبحانه وتعالى.

الخوف والخشية ومعانيهما ومكانتهما وآثارهما:

أولاً: معنى الخوف والخشية:-

والكلمتان متقاربتان في معناهما اللغوي، يقول ابن فارس في معجمه عن الخشية: أنها من الفعل الثلاثي خشي، قال: وهو أصل يدل على خوف وذعر، فالخشية الخوف.

وفي الخوف قال: أنه مشتق من هذا الفعل الثلاثي: خوف، أو خَوَفَ، ثم قال: هو أصل يدل على الذعر والفزع.

وإذا نظرنا إلى التعاريف الاصطلاحية سنجد أقوالا كثيرة لأهل العلم في هذه المصطلحات ذات الدلالات الإيمانية.

فقال بعضهم في الخوف: إنه اضطراب القلب، وحركته من تذكر المخوف، وهذا تعريف حسن؛ لأنه يصف حقيقة الخوف بما يقع من أثره في القلب والنفس، فهو اضطراب القلب وعدم سكونه، والاضطراب دليل على وجود ما لا يكون مناسبا أو ملائما للقلب ليطمئن ويسكن، فالاضطراب دليل على وجود شيء لا يحبه القلب، بل هو مكروه له، وسببه تذكر المخوف الذي يخاف منه، سواء أكان عدوا أم كان شيئا من أمور الحياة الدنيا التي تعرض له، وأعظم منه خوفه من الله سبحانه وتعالى.

وقال الهروي في المنازل في تعريف الخوف: الانخلاع من طمأنينة الأمن بمطالعة الخبر.

الانخلاع من طمأنينة الأمن: أي جاء بالضد، ضد الخوف هو الأمن، وأثر الأمن هو الطمأنينة، فالخوف: هو انخلاع هذه الطمأنينة من القلب بسبب مطالعة الخبر، أي معرفة الخبر الذي يتعلق بالأمر الذي يكون منه الخوف، سواء أكان موتا أم كان حسابا أو عقابا، أو شيئا من أمور الدنيا.

وقالوا في تعريف الخشية: هي تألم القلب بسبب توقع مكروه في المستقبل.

فهو أثر انعكس على القلب من أمر يخالفه ولا يحبه وللتوضيح قالوا: "وتارة يكون بكثرة جناية العبد يعني يخاف لأنه أفرط في المعاصي والمخالفات، وتارة يكون بمعرفة جلال الله وهيبته" لكن كما هو معلوم في لغة العرب أن المعاني قد تتقارب، ولكن لابد أن يكون بينها فرقا.

ثانياً: ما الفرق بين الخوف والخشية ؟

لبيان شيء من التفاوت بينهما لأهل العلم مقالات منها أنهم قالوا: الخشية خوف مشوب بتعظيم. يعني فيه معنى الخوف، ولكن بتعظيم الذي يخاف منه، نحن مثلا نعرف أن الطالب قد يخاف من الاختبار، لكنه لا يسمى خشية باعتبار أنه أمر يسير ليس فيه تعظيم وليس المخوف منه عظيما وضخما أو هائلا، كما قد يكون في شأن الخشية .

وبعضهم قال: الخشية خوف مقرون بإجلال يعني بتقدير وتعظيم، وأكثر ما تكون الخشية عن العلم بما يُخشى منه. فالخوف يختلف كذلك عن الخشية بأن للخشية تعلقا أكبر بالعلم والمعرفة بما يخشى منه.

قال ابن القيم -رحمه الله- في المدارج: الخشية أخص من الخوف يعني الخوف معنى عام، والخشية معنى فيه خصوصية، كما قلنا خوف ممزوج أو مشوب بتعظيم أو بإجلال.

قال فالخشية للعلماء كما قال الله -عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: من الآية 28).

فهو خوف مقرون بمعرفة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام "إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية" فالخشية فيها مقام أعلى في معرفة الخوف ولذلك ذكروا هذا الفرق في أن الخشية منزلة أعلى وأعظم في دلالة الخوف.

ومما قاله الفيروز أبادي في بيان هذا الفرق، كلام يدل على هذا المعنى وهو أوسع مما ذكر، قال:

الخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والوجل للمقربين، وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية.

وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا).

فعلمه بالله عز وجل وعظمته وشدة عذابه، وسطوة انتقامه جعل في قلبه من الخشية ما ليس في قلب غيره من بقية الأمة.

ولذلك أيضا في الفرق بينهما أن صاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم، وصاحب الخوف يلتجئ إلى الهرب والبعد، بمعنى أن الخائف لأن خوفه ليس له ارتباط بالمعرفة والعلم، يسعى إلى الهرب وتجنب المحذور، لكن صاحب الخشية رغم وجود الهرب فإنه يعتصم بالعلم فيكون ملتمسا طريقا إلى الأمن أفضل من مجرد الخوف، الآن إذا فاجأ الناس شيء خافوا واضطربوا وتحيروا، وكان للخوف أثره في عدم قدرتهم على فعل الأنفع لما يدفع ذلك الخوف، أما إذا جاءهم أمر وكانوا على بصيرة وعلم وبينة بأن هذا الخطر هو نوعه كذا وطريقته كذا وهذا مثلا السلاح يؤثر بهذه الطريقة، أو هذا المرض العدوى منه كذا وكذا، عندما تزيد معرفتهم تكون خشيتهم بهذا العلم أو من خلال هذه المعرفة أدعى إلى أخذهم بأسباب السلامة والوصول إلى شاطئ الأمن بإذن الله -سبحانه وتعالى-.

ومن هنا قال الكفوي: الخشية أشد من الخوف، وكما قال أيضا: الخشية تكون من عظم المخشي، وإن كان الخاشي قويا، والخوف يكون من ضعف الخائف وإن كان المخوف يسيرا.

يمثل الله -سبحانه وتعالى- بقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر: من الآية 21).

هل الجبل ضعيف؟ هل الجبل يوصف بالضعف؟ الجبل يوصف بالشدة والثبات والقوة، ومع ذلك خشع وخشي وقد يندك، لماذا؟ لأن الخشية هنا من عظمة المخشي، والخوف من ضعف الخائف، فإن بعض الناس نعرف أنهم قد يخافون، كما نقول في بعض التعبيرات: فلان يخاف من ظله، تعبير عن شدة خوفه من أدنى شيء.

لماذا يختلف الناس؟ هذا يخاف ويضطرب والآخر لا يضطرب؛ لأن هذا أقوى من هذا، فالخوف في أكثر أحواله يكون بسبب ضعف الرجل أو ضعف الخائف، وإنما الخشية تكون بسبب عظمة الذي يخشى منه. وهذه الفروق لعلها توضح الأمر وتبينه.

والرازي قال كلاما بهذا المعنى واستشهد له بمثل ما ذكرنا من هذا القول في الاستشهاد بقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} (الحشر: من الآية 21).

ثالثاً: الخوف والخشية في القرآن والسنة:

ما مقامهما؟ ما عظمتهما؟ ما مكانهما حتى نستطيع أو ندرك أننا أمام أمر عظيم وخصلة مهمة، ومعنى من معاني القلوب والنفوس كلنا محتاج إليه ومفتقر إليه؟

1- الأمر والتذكير:

الله عز وجل أمر بخشيته، وذكّرنا بذلك، ودعانا إليه سبحانه وتعالى، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} (لقمان: من الآية 33).

الله -عز وجل- أمرنا أن نخشى ما يكون من أمره وتقديره وقيام الساعة وما يكون فيها من حساب وعقاب، وقال جل وعلا: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} (الأعراف: من الآية 56).

أمر بأن يكون هناك خوف مع هذا الرجاء، والتذكر لأمر الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا عندما يدعونا إلى أمر إنما يدعونا إليه لأنه في مصلحتنا ومنفعتنا من جهة، ولأنه أمر لابد لنا منه، ولو تركناه لكان فيه علينا أثر سيئ، أو ضرر يقع على الإنسان المسلم في دنياه، وقد يكون له أثر أيضا في أخراه.

2- النهي والتحذير:

نهى الله عز وجل عن خشية غيره وحذر من ذلك، وجاءت الآيات في هذا كثيرة، كما في قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} (البقرة: آية 150).

وقال -عز وجل-:  {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} (آل عمران الآية 175).

وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} (المائدة: الآية 44).

والله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في آيات كثيرة، وعرّض على سبيل الذم والقدح بمن يخشى غير الله كما قال في قوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} (النساء: الآية 77). والحال أن هذا الفعل منهم غير مقبول، بل هو مذموم.

3- المدح والثناء للخشية وأهلها:

وقد ذكرها الله -عز وجل- صفة للأنبياء، وذكرها صفة للملائكة، وذكرها صفة للأولياء، والله -سبحانه وتعالى- قال في صفة الملائكة: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء:26،27). ثم قال سبحانه وتعالى في بيان الصفة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: الآية 28).

فوصف الملائكة الذين هم عباد الله المقربون بهذه الصفة كما بين الحق سبحانه وتعالى :{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النحل:50).

وذلك أيضا في صفة الملائكة، وقال جل وعلا في صفة الأنبياء: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} (الأحزاب: الآية 39).

فجعل ذلك صفة لخير خلقه وصفوته وهم الرسل والأنبياء.

وأيضا بين الله سبحانه وتعالى أنه صفة الأولياء وأصحاب العقول، لما بين من جملة صفاتهم، قوله: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} (الرعد:21).

فهذه صفة أهل الإيمان وصفة أهل الولاية والتقوى، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء:48،49).

فهذا كله على سبيل المدح والثناء، والترغيب والتحبيب في هذه الصفة التي جعلت للملائكة المقربين الذين يفعلون ما يؤمرون، وللأنبياء الذين هم صفوة الخلق، ولخيرة خلقه من المتقين والعابدين والمؤمنين.

وأيضا جعلت صفة للعلماء، كما قال -عز وجل-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر:الآية 28).

وكما قال عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى الحديث: (أما إني أعبدكم لله وأشدكم له خشية).

على قدر علم المرء يعظم خوفه                فلا عالم إلا من الله خائف

وآمن من مكر الله بالله جاهل                 وخائف مكر الله بالله عارف

وأيضا من وجوه ذكر الخشية في القرآن: المقارنة والمفارقة: المقارنة بين خشية الله وخشية غير الله، والمفارقة بين من يخشون الله ومن يخشون غير الله، فالله عز وجل قال: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (التوبة: الآية 13).

وقال في سياق ذكر قصة التبني وقصة زيد بن ثابت في مخاطبة النبي -عليه الصلاة والسلام-: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} (الأحزاب:الآية 37).

ولم تكن خشية النبي صلى الله عليه وسلم خشية مذمومة، وإنما كان لا يريد أن يأتيهم بما لا يعرفون فينكرون، والله عز وجل أراد أن يجعل رسوله عليه الصلاة والسلام قدوة ومثلا لأن يبطل أعراف الجاهلية بفعل يخالفها ويناقضها فيكون هو قدوة للمسلمين أجمعين.

وهكذا نرى هذه المعاني واضحة في دلالات آيات القرآن وبعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فهي صفة عظيمة ومقام جليل ينبغي أن يحرص المرء على أن يعمر بها قلبه، وأن يجعلها هي المشاعر أو الأحاسيس التي تملأ نفسه.

4- مقالات السلف في الخشية:

ولتأكيد هذه المعاني، نذكر بعض مقالات السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم، وماذا كانوا يقولون في الخشية والخوف وصفتهما وآثارهما، وبعض الكلام النفيس الرائع الإيماني الذي صدر عن أولئك الذين تنورت قلوبهم بأنوار الإيمان، واستهدت بهدي النبي العدنان عليه الصلاة والسلام.

هذا عمر الفاروق رضي الله عنه في وصية جامعة يذكر الخشية في ثناياها، يقول: (لا تصحب الفجار لتعلَّم من فجورهم، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله، وتخشع عند القبور، وذل عند الطاعة، واستعصم عند المعصية، واستشر الذين يخشون الله).

إذا: لا أمين إلا من خشي الله، واستشر الذين يخشون الله، وصية نافعة تدل على مقام الخشية، ومعرفة الصحابة لهذا المقام.

ومن كلام ابن مسعود النفيس الجميل، وهو مروي عند البخاري أنه كان يقول: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا).

وهذا تصوير دقيق وفقه إيماني عجيب من ابن مسعود، أراد أن يبين أن الذنب اليسير عند المؤمن يراه عظيما، لماذا؟ من خوفه من الله سبحانه وتعالى، والمنافق يرى الذنب العظيم هينا لعدم وجود الخوف في قلبه من الله جل وعلا.

ومن هنا كان من بعض أقوال السلف: (لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت).

ومن كلام ابن مسعود أيضا: (ليس العلم بكثرة الحديث، ولكن العلم من الخشية).

ومن لطائف ما يذكره الشعبي، يقول: (إنما العلم الخشية) جاءه رجل وهو يقول له كذا، وقال من ضمن كلامه يا عالم، قال: وهل رأيت عالما؟ (إنما العالم من يتقي الله أو من يخشى الله).

ومن كلام أبي الدرداء أيضا، قال: (تمام التقوى، أن يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراما، ليكون بينه وبين الحرام حجاب).

وهذا أيضا تردد في كلام كثير من السلف.

ومن كلام الحسن البصري -رحمه الله-: (لقد مضى بين أيديكم أقوام، لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم).

وعن مسروق -رحمه الله- قال: (كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعمله).

ومن كلام السري السقطي -رحمه الله- كلام نفيس في خصال كثيرة، قال: (للخائف عشر مقامات، منها: الحزن اللازم، والهم الغالب، والخشية المقلقة، وكثرة البكاء، والتضرع في الليل والنهار، والهرب من مواطن الراحة، ووجل القلب).

انظر إلى هذه الصفات كيف جعلها أمارات وعلامات للخوف والخائفين من الله سبحانه وتعالى.

ومما نقله ابن القيم -رحمه الله- من كلام السلف كلام نفيس ذكره عن أبي سليمان، قال: (ما فارق الخوف قلبا إلا خرب).

وقال أيضا عن إبراهيم بن سليمان، وهو كلام نفيس، قال: (إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات).

لأن الشهوات المحرمة تتعلق بها القلوب للالتذاذ بها، فإذا كان الخوف ساكنا في القلب يخوِّف من أثر هذه الشهوات المحرمة، وما يكون من آثارها من ضيق في الدنيا، ومن آثار المعاصي، ومن عقوبة في الآخرة، أحرق مواضع الشبهات وطرد الدنيا عنه.

وذو النون من مقالاته: (الناس على الطريق ما لم يزُل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف، ضلوا الطريق).

5- الخوف والخشية هل هما غاية أو وسيلة ؟

الخوف والخشية وسيلة لغاية أعظم وهي: أصول الامتثال بتقوى الله عز وجل، فالخوف وسيلة تدعو الإنسان أو تدفع الإنسان أو تصل بالإنسان إلى أن يتقي الله بفعل المأمورات وترك المنهيات؛ خوفا وخشية منه -سبحانه وتعالى-.

ولذلك في الجنة الله -عز وجل- يصفها دائما بقوله: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس: الآية 62).

لأنهم بلغوا الغاية، فلا مكان للخوف حتى يبلغوا الغاية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل).

الذي يخاف يسرع ويمشي في الليل ليصل إلى مأمنه، وإذا وصل مأمنه اطمأن وأمن وانتهى خوفه، فالوصول إلى الجنة هو غاية الغايات ومنتهى المقاصد.

6- أنواع الخوف : وينقسم إلى نوعين: محمود ومذموم:

الخوف المحمود: هو الذي يدفع إلى البعد عن المحرمات، ويبقي باب الأمل والرجاء مفتوحا.

أما الخوف المذموم: هو الذي يغلب على القلب حتى يدخل إليه اليأس والقنوط من رحمة الله، فهذا خوف مذموم، مقعد عن العمل، ميئس من رحمة الله، مخالف لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المؤمن.

7- حقيقة الخوف والخشية وقوتهما وضعفهما بأي شيء يكون.

الخوف كما يقول ابن القيم: مسبوق بشعور وعلم.

ما معنى هذا: عندما تكون في حجرتك أو في بيتك في الليل فتسمع صوتا، ماذا يحصل؟ شيء من الخوف أو لا؟ صوت أو حركة غير مألوفة في جوف الليل، هنا نشأ شعور، هل أنت تعرف ما هذا بالضبط؟ لا، لكن أحيانا قد تكون عالما، مثلا في البلاد لا سمح الله حرب، وأنت في بيتك، لكن تعرف أن هناك الآن قتال وكذا، أنت تعلم ذلك، فالخوف أو الخشية إما بشعور ليس معينا، وإما بعلم فهو مسبوق بهذا، فمحال أن يكون للإنسان خوف مما لا شعور له به، لم تسمع صوتا لم تسمع حركة لم تر شيئا خيالا كما يقولون، هل سيكون هناك خوف؟ لا، لابد من ذلك.

لذلك يقول: الخوف له متعلقان، أحدهما: نفس المكروه الذي تحذر وقوعه، والثاني: السبب والطريق المفضي إليه.

هناك مثلا في جهة ما لنقل قتال، فهذا أمر تخشاه، لكن هناك طريق يؤدي إليه أو أسباب تفضي إليه، أو أعمال قد تؤدي بك إلى أن تدخل في هذا القتال، فأنت تخشى الأمر نفسه، وتخشى ما قد يوصلك إليه معاً فلذلك قوة الخوف والخشية تعتمد على العلم والمعرفة، وتعتمد على عظمة المخوف وعظمة استيلاء الخوف على القلب حتى يمنع من كل طريق يؤدي إلى ذلك المخوف.

ومقالة أبي الدرداء في ترك بعض الحلال خشية أن يكون حراماً من الورع الذي يبعث عليه الخوف، لكن ينبغي أن يكون بدون مبالغة تفضي إلى تحريم الحلال، أو منع المباحات أو نحو ذلك مما قد يكون على خلاف هذا.

8- بعض ثمرات الخوف والخشية وآثارهما المحمودة في الدنيا والآخرة:

الأول: الوعد بالجنة واستحقاقها. وهو أعظم هذه الآثار وأجلها كما قال الله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (الرحمن:46).

وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعـات: 40 ، 41).

والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله) كما روى الترمذي.

وعنده أيضاً عن النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم) رواه الترمذي بسند حسن.

الثاني: المغفرة والمثوبة. مغفرة الذنوب واستحقاق الأجر من الله وهذا ظاهر في قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (الملك:12).

وفي الحديث الذي رواه البخاري وغيره عبرة عظيمة في هذا المعنى: قصة الرجل الذي مات وأوصى أهله قال: إذا أنا مت فاحرقوني ثم ذرّوني فاجعلوا بعضي في البر وبعضي في البحر، فصنعوا ذلك فبعثه الله عز وجل فقال: "ما حملك على ما صنعت؟" قال خشيتك، فغفر الله له.

في تعليق لابن تيمية على هذا الحديث يقول: هذا رجل شك في أصلين عظيمين من أصول الإيمان شك في البعث لأنه في بعض الروايات عند مسلم قال: فوالله لئن قدر عليّ الله ليعذبني عذابا ما عذبه أحد. قال: شك في البعث وشك في قدرة الله عز وجل، لكن ما كان في قلبه من خوف الله سبحانه وتعالى كان ذلك سبباً في مغفرة الله له، وهذا يرينا أثر عظمة ومنزلة الخوف والخشية وفائدتهما.

الثالث: الرضا والمحبة من الله سبحانه وتعالى. وهذا أيضاً من أعظم الآثار والثمار فالله جل وعلا يقول: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة:الآية8).

فرضا الله مقرون بهذه الخشية.

الرابع: العظة والعبرة. فإن الخشية هي التي تهيئ القلوب للانتفاع بالمواعظ والتذكر بها والانتفاع مما فيها كما قال جل وعلا: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} (فاطر: الآية18).

{ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} (الأعلى:10). {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (النازعـات:26).

الخامس: النصر والتمكين بإذن الله عز وجل. فمن خاف الله لم يخف أحداً سواه ومن خشي الله لم يخش غيره، فيكون في قلبه من قوة اليقين ما يجعله يواجه كل عدو وكل مخوف من هذه الأمور الدنيوية، فينتصر بإذن الله -عز وجل-.

كما قال الله جل وعلا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (إبراهيم: 13 ،14).

والآيات في هذا المعنى كثيرة ، وهذا يدلنا على عظمة الخوف والخشية.

amer123123

اللهم احفظ المسلمين من شر وسوء المنافقين والخونة والعملاء والكافرين يارب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 156 مشاهدة
نشرت فى 20 يونيو 2013 بواسطة amer123123

ساحة النقاش

عبد الفتاح أمير عباس أبوذيد

amer123123
موقع لغوي تربوي وأدبي وقيمي الرؤية والرسالة والأهداف: رؤيتنا: الرؤية : الارتقاء بالمنظومة التعليمية والتربوية بما يؤسس لجيل مبدع منتمٍ لوطنه معتزاً بلغته فخوراً بدينه رسالتنا: السعي لتقديم خدمات تربوية وتعليمية ذات جودة عالية بتوظيف التقنية الحديثة ضمن بيئة جاذبة ومحفزة ودافعة للإبداع الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها · إعداد »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

14,674,816