موقع الأستاذ عبد الفتاح أمير عباس أبو زيد

موقع لغوي أدبي تربوي قبمي

authentication required
الدرس العاشر : الرجاء

كتب: د. علي بن عمر بادحدح13 يونيو, 2012 - 23 رجب 1433هـ

 

الدرس العاشر : الرجاء

الرجاء من الشمائل والخصال الإيمانية الاعتقادية العظيمة، وله صلة وطيدة بالخوف والخشية الذي أسلفنا الحديث عنه.

الرجاء في اللغة:

أصله دائر على معنى الأمل، وهو نقيض اليأس، فرجا الشيء إذا أمَّل فيه، ورجوتُ أمرا: إذا كان لي فيه أمل.

وقال بعضهم: الأمل أكبر من الرجاء، لأن الرجاء يُصحب بالخوف غالبا، أي لا ينفك عن الخوف، والأمل أوسع منه وأكبر في هذا المعنى.

الفرق بين الرجاء والتمني:

هل الرجاء هو التمني؟ سؤال يستحق الطرح.

والجواب: لا، فإن بينهما فرقين يتركزان في جانبين اثنين:

الفرق الأول: أن الرجاء يكون مصحوبا بالعمل، وأما التمني فغالبا أنه مصحوب بالكسل.

الذي يتمنى لا يعمل، وإنما في غالب الأحوال يتمنى أمنيات ليس عنده عزم عليها ولا جد في الوصول إليها.

والفرق الثاني: أن الرجاء منوط بالتحقق والوقوع، وأما الأمنيات والأماني البعيدة الخيالية فإنها في الغالب متعذرة الوقوع، وهي من نوع المستحيلات في غالب الأحوال.

وهذا أمر بين، فكثيرا ما يتمنى الناس أمنيات كثيرة عظيمة ليسوا قادرين على العمل لها، وكثيرا ما يرسلون الأمنيات ولا يعملون لها، من يرجو أن ينجح في الاختبارات، أو يرجو أن يصل إلى مستوى معين من الدراسة، لابد أن يكون رجاؤه مصحوبا بالعمل، ومصحوبا بتوقع حصول هذه الآمال بإذن الله عز وجل.

ثمة أمور مهمة نذكر منها على وجه الخصوص مسألتين مهمتين:

المسألة الأولى: تعلق الرجاء بالأسماء والصفات الإلهية:

فإن مبعث الرجاء متعلق ببعض أسماء الله -عز وجل- وصفاته، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله: (أن للرجاء تعلقا باسم الله -عز وجل- البر المحسن) ، فهو -سبحانه- بر رحيم محسن كريم، وهذه المعاني من أسمائه وصفاته هي التي تعلق القلوب رجاء فيه، وأملا فيما عنده، وحسن ظن به سبحانه وتعالى.

قال ابن القيم رحمه الله: (الرجاء هو عبودية وتعلق بالله عز وجل من حيث اسمه البر المحسن، فلذلك التعلق والتعبد بهذا الاسم والمعرفة بالله جل وعلا هو الذي أوجب للعبد الرجاء من حيث يدري، ومن حيث لا يدري، فقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته، وغلبة رحمته غضبه، ولولا روح الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح، ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات، ولولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعات).

فالرجاء: الرغبة والأمل في الثواب وفي عفو الله عز وجل، وهو الذي يحرك الهمة للعمل والبذل، وهو الذي يبعث في النفس حماسة لمزيد من الإقبال على الطاعات ولو وقعت بعض المعاصي، فإن الرجاء كذلك في عفو الكريم وجود الجواد سبحانه وتعالى يحرك الإنسان للاستغفار والتوبة، ومن بعدُ للعمل ومواصلة الصالحات التي تقربه من الله سبحانه وتعالى.

المسألة الثانية: وهي متعلقة بدوران الرجاء بين بعض المعاني:

قال ابن حجر رحمه الله: المقصود من الرجاء أن من وقع منه تقصير فليحسن ظنه بالله ويرجو أن يمحو ذنبه، وكذا من وقعت منه طاعة يرجو قبولها، وأما من انهمك على المعصية راجيا عدم المؤاخذة بغير ندم ولا إقلاع فهذا غرور ليس برجاء، وما أحسن قول أبي عثمان الجيزي: "من علامة السعادة أن تطيع وتخاف أن لا تقبل، ومن علامة الشقاء: أن تعصي وترجو أن تنجو".

الرجاء في القرآن الكريم:

لنستجلي صورته ونعرف أهميته، يمكننا هنا أن نذكر ثلاثة محاور:

المحور الأول: سعة الرجاء سعة واسعة عظيمة يكاد لا يحدها حد ولا ينتهي إليها مراد، يشير إلى ذلك قول الله سبحانه وتعالى في الآية العظيمة التي ذكر كثير من العلماء أنها أرجى آية في كتاب الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53).

والمتأمل في هذه الآية يجد وجوها عظيمة من سعة الرجاء في عفو الله ومغفرته، ومن أهمها النداء بالعبودية: (قل يا عبادي) والخلق كلهم عباد الله حتى من أعرض عن طاعة الله فإنه عبد؛ لأنه خاضع لحكم الله، ولما يجري به قضاء الله، وكل بدنه وحياته وجوارحه تسير وفق ما أراد الله عز وجل من حيث الخلقة والتدبير، (قل يا عبادي) ثم إضافة العباد إليه، فيها معنى التلطف والتحبب وبعث معاني الأمل والرجاء، ثم اختار الله عز وجل الصنف الأبعد في نظر الناس من الرحمة، والأنأى والأبعد عن المغفرة ، قال: {الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (الزمر: الآية 53).

والإسراف هو: المبالغة في الشيء، أسرفوا على أنفسهم يعني بالغوا في الإعراض عن طاعة الله، والتعلق والإدمان لمعصية أمر الله، هؤلاء هم الذين توجه لهم النداء: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } (الزمر: من الآية 53).

وجاء الأمر بماذا؟ بالنهي عن أدنى وأبعد الدرجات التي قد يصل إليها اليأس وهو القنوط: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} ثم جاء التوكيد بعد ذلك: {إن الله يغفر الذنوب جميعا}.

ومعنى ذلك ارجوا رحمة الله، لكن الله عز وجل أراد أن يعظم الرجاء فيه، فقال: {إن الله} وهو على سبيل التوكيد، وإظهار لفظ الجلالة فيه معنى الرعاية هنا وفتح باب الأمل والرجاء: {إن الله يغفر} ويغفر بصيغة المضارع لدليل الاستمرار والدوام، {الذنوب} وأل التعريفية هنا تدل على التمكن، ليس أي ذنب وإنما الذنوب، والجمع كذلك للكثرة، {جميعا} على سبيل الاستقصاء، ثم تأكيد آخر: {إنه هو الغفور الرحيم} ولذلك سئل البعض عن أرجى آية فجعلوا يقولون: هذه أرجى آية، وهذه أرجى آية، والمجلس لعلي بن أبي طالب، فقال بعد أن فرغوا من ذلك: أرجى آية : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (الزمر: من الآية 53).

فإذاً في القرآن سعة الرجاء في رحمة الله سبحانه وتعالى، وكذلك في حديث النبي عليه الصلاة والسلام، كما صح عنه في صحيح مسلم، في الحديث القدسي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، عن رب العزة والجلال: (أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء). والقائل هو الله سبحانه وتعالى: (أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء).

فليتوسع في حسن ظنه بربه فإن الله عز وجل عند حسن ظن عبده به سبحانه وتعالى.

المحور الثاني: استمرارية الرجاء ودوام المغفرة، فليس هو أمر في حالة واحدة، ولا على صفة معينة، بل كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}(النساء:110). والصيغة هنا كلها بالمضارع المستمر {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} يعني يقع منه ذلك مرة بعد مرة نتيجة الغفلة، ونتيجة غلبة الشهوة، ونتيجة ضعف الهمة، ماذا يحصل؟ {ثم يستغفر الله} وهو يديم الاستغفار كذلك ماذا يجد؟ {يجد الله غفوراً رحيماً}.

وفي حديث النبي عليه الصلاة والسلام وهو عند مسلم في الصحيح يخبر الله سبحانه وتعالى عن عبد أذنب ذنباً، ماذا حصل؟ أدرك أنه خالف وأذنب فقال: فاستغفر الله عز وجل. فماذا قال الله عز وجل لملائكته؟ (أذنب عبدي ذنبا، فعلم أن له ربا يؤاخذ بالذنب ويغفر الذنب فاستغفرني، أشهدكم أني قد غفرت له). ثم يذنب الثانية، هكذا نص الحديث، فيستغفر الله، فيقول الله: (علم عبدي أن له ربا يؤاخذ بالذنب، ويغفر الذنب، فاستغفرني، أشهدكم أني قد غفرت له).

ولاحظوا أنه قال: علم عبدي، إذن العلم بالله وأسمائه وصفاته هو الباعث على هذا الرجاء، ويرتبط بالعمل كما سنذكر، فيستغفرني فيغفر الله له، ثم يذنب الثالثة فقال كذلك مثل ما قال.

إذاً فالرجاء واسع، وعندما نقول الرجاء لا ننسى الخوف ولا ننسى العقاب، وسنذكر هذا الآن فيما جاء في كتاب الله عز وجل.

المحور الثالث: المدح للرجاء وأهله، والذم للقنوط وأهله، فالله سبحانه وتعالى مدح أهل الرجاء، وذكرهم على سبيل المدح والثناء، كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (البقرة:218).

وقال جل وعلا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر:9).

وقال جل وعلا: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران:113).

وفي الذم، جاء قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يونس:7،8).

من عظَّم الرجاء في الله، كان من أهل المدح والثناء في آيات الله.

ارتباط الرجاء بالخوف:

وهذا منهج تربوي إيماني قرآني نبوي، منهج التربية بالقرآن والسنة يمزج بين الخوف والرجاء، كما قال أهل العلم: الخوف والرجاء جناحا المؤمن، يطير بهما إلى مرضاة الله عز وجل.

نقرأ آيات القرآن فنجد ذلك واضحا فيها: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (الحجر:49،50).

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} (الرعد: من الآية 6).

لكننا نلاحظ هنا أنه قدم المغفرة والرحمة، وذلك تغليب مقصود من الله عز وجل، ليعظم الرجاء في الجملة على الخوف، والله عز وجل قد أخبر كما في الحديث الصحيح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام عن رب العزة والجلال أنه قال: (سبقت رحمتي غضبي).

لكن قال أهل العلم: يغلّب جانب الخوف قليلا في أثناء الصحة والعافية والقوة والنشاط وأثناء العمل، ويغلّب جانب الرجاء عند البلاء وقرب الأجل.

وها هنا كلمات من كلام أسلافنا تدلنا على هذا المعنى وهي من روائع وغرر الأقوال، يقول يحي بن معاذ رحمه الله في مناجاة وإقرار وتوسل بين يدي الله عز وجل: "إن كنت غير مستأهل لما أرجو من رحمتك، فأنت أهل أن تجود على المذنبين بفضل سعتك، ولولا ما عرفت من عدلك، ما خفت من عذابك، ولولا ما عرفت من فضلك ما رجوت ثوابك، كيف أخافك وأنت كريم؟ وكيف لا أرجوك وأنت عزيز؟ فأنا بين خوف يقطعني، ورجاء يوصلني، فلا رجائي يدعني أموت خوفا، ولا خوفي يتركني أحيا فرحا".

الفرح على سبيل الذم ليس هو مجرد السعادة، ثم كذلك ننتبه إلى طرفي النقيض، فإن الإسراف في الرجاء يفضي إلى الأمن من مكر الله عز وجل، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون، وشدة ترك الرجاء وغلبة الخوف واستحكامه وانعدام الرجاء أو ضعفه، يفضي إلى اليأس من رحمة الله، وكذلك لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولذلك كان الرجاء مع هذا الخوف هو عظمة ما يسير به المؤمن إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى.

شروط الرجاء ومواضع تحققه:

الشرط الأول: أصل الإيمان والتوحيد، فإذا عُدم الإيمان والتوحيد فلا رجاء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: من الآية 48).

(ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لقيتك بقرابها مغفرة) حديث قدسي صحيح.

ولذلك لا ننسى عظمة الإيمان والتوحيد، وندرك حديث البطاقة، وكيف تكون الأعمال في كفة، تطيش بها وترجح بها: لا إله إلا الله، فمن آمن بالله ووحده فهو على خير عظيم، وإن وقع منه تقصير أو غفلة فيرجى له بهذه الكلمة أن ينجو ولو بعد حين، وأن يخلص إلى رحمة الله ولو بعد شيء من عذابه أو عقوبته سبحانه وتعالى.

الشرط الثاني: الموازنة بين الخوف والرجاء، فلا إسراف في الرجاء .

الشرط الثالث: وهو المزية التي أشرنا إليها وننبه الآن عليها: شرط العمل مع الرجاء، فإن الرجاء بدون عمل لا يعتبر رجاء، ولا يصدق فيه ولا يصح في وصفه أنه رجاء، كما قلنا هنا {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} (البقرة: من الآية 218).

قال بعض أهل التفسير: أولئك يستحقون أن يرجو رحمة الله، لأنهم بذلوا وعملوا، فحينئذ يرجون والرجاء يكون له سبب، ويكون له أثر، ويكون له مستند.

ما رأيكم في طالب يرجو أن ينجح وهو لا يذاكر ولا يستعد للاختبارات، هل هذا رجاؤه صحيح؟ كلا، لكنه يبذل ويعمل ويقرأ ويذاكر، ثم يرجو أن يحقق المراتب العالية، والله عز وجل يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } (فاطر:29).

قدموا الأعمال ليؤسسوا عليها الآمال، والله عز وجل يقول كذلك: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ}. وهذه آية واضحة، من كان يريد رجاء صحيحا وأملا واسعا، فإنه لابد له من العمل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: من الآية 110).

فإن توفرت هذه الشروط كان الرجاء في موضعه الصحيح، وهو الذي يقع به ما يؤمله بإذن الله عز وجل من رحمة الله جل وعلا.

مجالات الرجاء:

1/ ذنب يرجو غفرانه: فهو يرجو مغفرة ذنبه من الغفور الرحيم سبحانه وتعالى.

2/ عيب يرجو إصلاحه: وكم فيك من عيب أو طبيعة نفس وأنت تضعف عن تغييرها أو تقويمها، أ ليس كذلك؟ أ ليس في بعض الناس حدة وغضب؟ أ ليس في بعضهم شدة وغلظة؟ فهو يرجو الله عز وجل أن يهذب خلقه، وأن يحسن طبعه، وأن يبعد أو يذهب عيبه.

3/ عمل يرجو قبوله: فهو يعمل الصالحات لكنه يرجو ويدعو أن يتقبل الله منه، فكم من عمل يُرد على صاحبه لأمور كثيرة والله عز وجل عدل، لا يُظلم عنده أحد، وهو سبحانه وتعالى فوق ذلك بر رحيم.

4/ هو أعظمها وأسماها وأعلاها قرب من الله عز وجل ودنو من رحمته وتطلع إلى مرضاته، ليس مرتبطا بهذه بل هو يرجو أن يدنو ويقترب من الله سبحانه وتعالى ومن خالقه ومولاه، فهو يرجو دائما كل خير يقربه إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا من أعظم أسباب الرجاء وأوضحها.

وقد قال ابن القيم رحمه الله في ذكر بعض هذه الأنواع: "والرجاء ثلاثة أنواع: نوعان محمودان، ونوع مذموم، فالأولان: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج ثوابه، والثاني: ورجل أذنب ذنوبا ثم تاب منها، فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه، والثالث: رجل متماد في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب".

رجاء النبي صلى الله عليه وسلم:

وهذه مواقف عظيمة من رجائه عليه الصلاة والسلام، وفرط حسن ظنه بربه جل وعلا، وحسن رجائه فيما هو على النهج الأقوم والأكمل.

الموقف الأول:

هذا حديث خارجة بن زيد بن ثابت، وهو حديث عظيم في معنى رجاء النبي عليه الصلاة والسلام وفي تعليمه ذلك لأمته وبيان جمعه بين الخوف والرجاء: أم العلاء امرأة من الأنصار بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من نصيب زوجها -عندما كانت الأخوة بين المهاجرين والأنصار- عثمان بن مظعون رضي الله عنه، تقول: فأنزلناه في أبياتنا، فوجع وجعه الذي توفي فيه، وعثمان بن مظعون من أزهد الصحابة وأكثرهم عبادة، قالت: فلما توفي، وغُسِّل وكُفِّن في أثوابه، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: فقلت رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله -كان يسكن في بيتها فتراه قائما ساجدا باكيا مبتهلا متضرعا زاهدا في الدنيا- فقالت: رحمة الله عليك يا أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله قد أكرمه؟) فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ مما رأت من حاله فقال عليه الصلاة والسلام: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو الخير له والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي).

قالت أم العلاء: فوالله لا أزكي أحدا بعدُ أبدا. وهنا لا يمنع النبي عليه الصلاة والسلام الرجاء لكنه يضبطه بضابطه ألا يكون جزما، فإنه لا مكره لله عز وجل، ولا يجوز أن يتألى أحد على الله، فيحكم قبل حكمه سبحانه وتعالى، ولا أحد يعلم بخفايا الصدور والنوايا سوى الله، وهذا من بيانه عليه الصلاة والسلام لحقيقة الرجاء.

الموقف الثاني:

من حديث عائشة رضي الله عنها تخبر أن رجلا جاء يستفتي النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: وأنا أسمع من وراء الباب. فقال الرجل: يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب أفأصوم؟ يعني يطلع الفجر ويأتي وقت صلاة الفجر وأكون جنباً هل يصح أن أصوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم). فقال الرجل: لستَ مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال عليه الصلاة والسلام: (والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي).

وهذا من تأديبه وتعليمه وزكاء نفسه، وموازنته بين رجائه وحسن ظنه بربه وخوفه وخشيته من مولاهم.

الموقف الثالث:

وفيه ذكر ما كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى الطائف داعياً إلى الإسلام وإلى الإيمان بالله جل وعلا.

جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها ذكر هذه القصة أنها قالت للنبي عليه الصلاة والسلام: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟

كانت ترى يوم أحد أشد على النبي عليه الصلاة والسلام، وعائشة صغيرة لم تكن تعرف ما جرى في الفترة المكية، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلالٍ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمُرهُ بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمدُ إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت: إن شئت أطبقتُ عليهم الأخشبين" فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً )) متفق عليه.

وهذا رجاء في الدعوة ورجاء في الخير للناس.

ونحن-أحيانا- قد نشعر الناس باليأس من رحمة الله، ونقنطهم من روح الله وإذا رأينا رجلاً ألم بمعصية ربما حكمنا وقلنا: لا رحمة له ولا مغفرة ولا نجاة.

وهؤلاء مشركون كافرون معرضون عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ومؤذون له، ومع ذلك قال: (إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله).

الموقف الرابع:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) متفق عليه.

معجزات الأنبياء كانت في مجملها معجزات حسية، رآها من عايشوهم وكانوا في وقت حياتهم، ثم لما انقضت حياة أولئك الأنبياء لم يكن لأمتهم أثر أو انتفاع بهذه المعجزات من بعدهم، وأما معجزة النبي صلى الله عليه وسلم فهي باقية في أمته يرونها دائما وأبدا، فيعظم إيمانهم بنبوته عليه الصلاة والسلام، وبالكتاب الذي نزل عليه، وبالله سبحانه وتعالى قبل ذلك، فيحصل من ذلك أنهم يكونون أسبق الأمم وأعظمها إيمانا وأكثرها عملا، قال: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة).

عن عبدالله رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في قبة نحوا من أربعين رجلا، فقال: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: نعم. قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا: نعم. قال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة".

وأما الرجاء منه عليه الصلاة والسلام في مقالاته وفي بعض أحواله أيضا فهو كثير، من ذلك أيضا ما كان يدعو به عليه الصلاة والسلام، ومن دعائه في هذا المعنى، كما رواه أبو داود في السنن بسند حسن: (اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت).

والشاهد: اللهم رحمتك أرجو، ثم تأكيد أن هذا الرجاء لا يتحقق إلا بفضل الله، (لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت) ومن ذلك أيضا ما كان من قوله عليه الصلاة والسلام، وهو من الأحاديث العظيمة في حسن رجائه وبيان اعتدال الرجاء والخوف، قال: (لن ينجيَ أحدا منكم عمله). وفي بعض الروايات: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا) لكنه عظم الرجاء، فقال: (إلا أن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا) هذا اللفظ أخرجه البخاري.

نفى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يكون الاتكال والاعتماد على الأعمال (لن ينجي أحدا منكم عمله) ثم قالوا: ولا أنت؟ قال: (ولا أنا) ثم عظم الرجاء فقال: (إلا أن يتغمدني الله برحمته) ثم دعا إلى العمل فقال: (سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة) يعني في الليل عبادة وطاعة (والقصد القصد) أي الاعتدال (تبلغوا) أي إلى مرادكم من رحمة الله سبحانه وتعالى.

وكان للنبي عليه الصلاة والسلام مواقف في الرجاء مع الصحابة يبين لهم كيف يجعلون الرجاء مربوطا بحقيقته في العمل والطاعة لله عز وجل، فإنه صح من حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لبلال مرة عند صلاة الفجر: (يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام).

ومعنى أرجى عمل: أي عمل عملته وأنت تقول لعله يكون من أحسن الأعمال وأعظمها أجرا عند الله، لماذا سأله النبي ذلك السؤال؟ قال: (يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة). هذه من البشارات المقطوع بها لبلال رضي الله عنه، فقال بلال: (ما عملت عملا أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي).

وروى أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل على شاب وهو مريض مشرف على الموت، فقال: (كيف تجدك؟) فقال الشاب: والله يا رسول الله إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمَّنه مما يخاف) قال الترمذي: حديث حسن.

وقد حث النبي وشجع في أحاديث كثيرة على الرجاء في العمل القليل الذي يكون خالصا لوجه الله سبحانه وتعالى.

عن أنس بن مالك رضي عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة" أخرجه الترمذي.

 

amer123123

اللهم احفظ المسلمين من شر وسوء المنافقين والخونة والعملاء والكافرين يارب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 88 مشاهدة
نشرت فى 20 يونيو 2013 بواسطة amer123123

ساحة النقاش

عبد الفتاح أمير عباس أبوذيد

amer123123
موقع لغوي تربوي وأدبي وقيمي الرؤية والرسالة والأهداف: رؤيتنا: الرؤية : الارتقاء بالمنظومة التعليمية والتربوية بما يؤسس لجيل مبدع منتمٍ لوطنه معتزاً بلغته فخوراً بدينه رسالتنا: السعي لتقديم خدمات تربوية وتعليمية ذات جودة عالية بتوظيف التقنية الحديثة ضمن بيئة جاذبة ومحفزة ودافعة للإبداع الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها · إعداد »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

14,618,553