كتب: د. علي بن عمر بادحدح13 مارس, 2012 - 20 ربيع الثانى 1433هـ
الدرس الخامس : جامع صفاته الخَلْقية صلى الله عليه وسلم
كنا قد شرعنا في ذكر الخصائص التي اختص بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجملة على سائر الرسل والأنبياء، وما ورد من بعض خصائصه فيما يتصل بأمته.
ثم وقفنا في درسين متتاليين مع المدح والثناء والذكر والإطراء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آيات القرآن الكريم، وعددنا في ذلك وجوها كثيرة ومعان عديدة وخصالاً جليلة لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
وهذا الباب في وصف خَلْقِه -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الشمائل تسترسل معنا في وصف أخلاقه في سائر الأحوال والأنواع، ويذكر أهل الشمائل دائما ويفردون باباً لهذه الصفات الخَلْقية، ويدرجونها في شمائل النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك لأسباب عدة:
السبب الأول: أن الشمائل الخَلْقية من خصال الرجل، ومن تمام صفاته فكما يُعرف الرجل بالصفات الخُلُقية من حلم وصبر وشجاعة ونحو ذلك، فإنه يُعرف بصورة أظهر، وربما بشكل أكبر بصفاته الخَلْقية من لون أو طول أو قصر ونحو ذلك.
السبب الثاني: بيان كمال العناية بكل ما يتصل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نقل لنا أصحابه وصفاً دقيقاً لكل شيء متصل بخَلْقه، حتى إن السامع ليكاد يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأي العين من دقة ذلك الوصف وشموله لكل شيء في خِلْقته -عليه الصلاة والسلام-.
السبب الثالث: بيان كمال عناية الله -سبحانه وتعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- فكما كمل وجمل وحسّن خُلُقه، كذلك حسن خَلْقه -عليه الصلاة والسلام- فلم يكن منزهاً عن العاهة والعيب فحسب، بل كان خَلْقه أتم خَلْق وأحسنه وأجمله وأبهاه وأنضره -عليه الصلاة والسلام- وهذا من كمال إكرام الله -عز وجل- له وعنايته به.
السبب الرابع: أن مما تتعلق به النفوس أيضاً جمال الخِلْقة وبهاء الطلعة، كما أن النفوس تتعلق بالأخلاق، وإن كان التعلق بالخُلُق والمعاملة هو الأكمل والأفضل، لكن اجتماعهما معاً هو الأكمل بالنسبة لذات الإنسان، وبالنسبة لتعلق الناس به ونظرهم إليه.
السبب الخامس: أن في خَلْقه -عليه الصلاة والسلام- شيء من علامات النبوة التي خُصَّ بها -صلى الله عليه وسلم- فهي أي: خِلْقته فيها دلالة على نبوته -عليه الصلاة والسلام- كما سيأتي ذكره في خاتم نبوته الذي كان بين كتفيه -عليه الصلاة والسلام-.
إذن عندما نذكر خَلْق النبي -صلى الله عليه وسلم- فليس ذلك شيئا زائدا وليس أمرا عارضا، وإلا لم يحتف به الأصحاب -رضوان الله عليهم- ولم يحرصوا على نقله، ولم تكن منهم تلك الدقة والوصف الشامل الكامل لخَلْقه -عليه الصلاة والسلام- وهذا باب من أبواب التعظيم.
وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة أقتصر منها على ما ورد في الصحيحين عند البخاري ومسلم، ثم سنذكر بعد ذلك شيئاً من الأوصاف الجامعة التي أوردها الترمذي - رحمه الله- في شمائله.
من ذلك ما ورد من حديث أنس -رضي الله عنه- وكان خادم -رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقريباً منه ولصيقاً به ومختلطاً اختلاطاً شديداً به، فكان من أكثر من وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في حديثه عند الإمام البخاري في وصف -النبي عليه الصلاة والسلام-: "كان ربعة من القوم ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون ليس بأبيض أمهق، ولا آدم، ليس بجعد قطط، ولا سبط رجل أنزل عليه (يعني أوحي إليه) وهو ابن أربعين فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه، وبالمدينة عشر سنين، وقُبِض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.
قال ربيعة -وهو ربيعة بن عبد الرحمن- الراوي عن مالك -رضي الله عنه-: فرأيت شَعراً من شعره فإذا هو أحمر، فسألت فقيل: احمرّ من الطيب.
وفي رواية أيضاً قريبة من هذا وتالية لها من رواية أنس عند البخاري في صحيحه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم، وليس بالجعد القطط، ولا بالسبط، بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، فتوفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.
وهذا الحديث من الأحاديث التي فيها جمع لكثير من الصفات التي كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحاديث وصف خِلْقته -عليه الصلاة والسلام- تعد من الغرائب، أو من طوال الغرائب بالنسبة للغريب الذي فيها أي الكلمات التي لا يعرف معناها كثير من الناس، وذلك في الجملة بالنسبة لنا؛ لأننا لسنا عربا كما ينبغي، كثير من كلمات العربية الأصيلة لم يعد يتداولها الناس، وصاروا بها جاهلين وعن معانيها غافلين.
وربما -ونحن نقرأ هذا الحديث- نسمع من الكلمات ما مر علينا ولم نعرف معناه، بل ربما أصبح المعنى كله مبهما غير واضح، ولذا نقف وقفات بما يتيحه المقام في معاني هذا الحديث.
كان -صلى الله عليه وسلم- رَبْعة من القوم، ربعة بفتح الراء وسكون الباء أي: مربوعاً، والمقصود بربعة تأنيثها باعتبار النفس.
ويقال رجل ربعة وامرأة ربعة، وفسره الحديث في الرواية الأخرى: ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، المقصود أنه لم يكن طويلاً طولاً بائناً أي: مفرطاً في الطول، ليكون معه اضطراب القامة، بل كان مربوعاً كما ورد في رواية أخرى عن البراء بن عازب، وفي رواية عن أبي هريرة بإسناد حسن: كان ربعة وهو إلى الطول أقرب، وفي بعض الروايات لم يكن قصيرا تتقحمه العيون يعني: تنظر إليه إلى الأدنى، ولم يكن كذلك طويلاً مفرطاً، وهذا من كمال الاعتدال وصور الجمال.
وقال في تتمة الوصف: كان أزهر اللون، واللون الأزهر هو اللون الزهري، لكن المقصود أنه كان أبيضاً مشرباً بحمرة، أي: كان لونه أبيض لكن فيه شيء من الحمرة.
وقد وقع هذا الوصف صريحاً عند الإمام مسلم في صحيحه، وكذلك عند الحاكم من حديث علي-رضي الله عنه- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أبيض مشربا بياضه بحمرة.
وهذا فيه وجه من وجوه الجمال؛ لأن البياض كما ورد في نفس الحديث ليس بأمهق أي: البياض الذي ليس معه حمرة، ويكون فيه شيء مما لا تألفه العيون، ولا يكون وصفاً من أوصاف الجمال.
والعرب تسمي البياض المشرب بحمرة سماراً.
وهذا يفسر ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان أسمر، وذلك عند ابن حبان في صحيحه، وورد كذلك عند أحمد بسند حسن: "كان أسمر إلى البياض، يعني: فيه سمرة لكنه إلى البياض أقرب -عليه الصلاة والسلام-.
وإذا قلنا ليس بالأبيض، فالنفي المقصود: أنه ليس بأبيض بياضا مجردا لا حمرة فيه، وإن قيل في ذلك النفي: أنه ليس بأسمر، أي المقصود ليس فيه سمرة لا بياض معها، وإنما هذا كان على كمال الاعتدال، وأجل وأحسن صور الجمال للنبي -عليه الصلاة والسلام-.
والأمهق هو الذي كما قلنا يكون بياضه مفرطا لا يقلل من هذا البياض تلك الحمرة أو السمرة، وقد ورد في شعر أبي طالب في وصف النبي -عليه الصلاة والسلام-
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه
وذلك أيضا بيان لوصفه -عليه الصلاة والسلام- وورد وصف البياض في غير وجهه -عليه الصلاة والسلام- كما عند الإمام أحمد من حديث محرش الكعبي في عمرة الجعرانة، أنه قال: فنظرت إلى ظهره -صلى الله عليه وسلم- كأنه سبيكة فضة، وهذا فيه وصف بالبياض ليس فيه إشارة إلى السمرة أو الحمرة.
وقال أهل العلم: إنه ما كان يستره الثوب أو الثياب في العادة، فإنه كان البياض فيه أغلب، والسمرة فيه أقل، وأما الوجه المكشوف فكان كمال جماله -عليه الصلاة والسلام- فيه تلك السمرة مع ذلك البياض .
وقد ورد أيضا عن أبي هريرة في وصف المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه: "كان شديد البياض" أخرجه البزار بسند قوي.
وهذا كما قلنا صورة وصفية فيها جمال وجلال، وقد ورد في وصف وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث أخرى سيأتي الحديث عنها استقلالا؛ لأنها وردت بها روايات خاصة مستقلة، وكثرت الروايات فيها، لأن أكثر ما يقابل الإنسان هو الوجه، فكثيرون ممن رأوا النبي -عليه الصلاة والسلام- كان أكثر وصفهم لوجهه، وما وصَفَ الأوصاف الدقيقة في كثير من أمور خِلْقته إلا المقربون منه، كأنس وغيره من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وتتمة الحديث في وصف شعر النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بجعد قطط ولا سبط، الجعودة في الشعر: ألا يتكسر ولا يسترسل، فلم يكن كذلك، والسبوطة ضده أن يكون مسترسلا، فلا كان ذلك ولا كان ذلك، بل كان وسطا بينهما.
وقد ورد في بعض الأوصاف أنه كان منسرحا أو متسرحا، وهو بهذا المعنى الذي ورد عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
ثم جاء في تتمة الوصف في هذا الحديث عنه -عليه الصلاة والسلام- بعد ذكر نزول الوحي وكذا: أنه مات، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء، يعني لم يبلغ الشعر الأبيض عشرون فهو دون ذلك في رأسه وفي لحيته.
بل قد ورد الوصف دقيقا بذلك في أحاديث كثيرة في وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها: أن البياض في شعره لم يكن إلا في رأسه، وبعض شعرات في عنفقته في أعلى اللحية، وهذا لاشك أيضا أنه من كمال البهاء والجمال والاختصاص لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، خصوصا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- توفي وعمره ثلاثة وستون عاما، ومثل هذا السن يكون قد وخط الشيب رأسه ولحيته بلا شك، بل ربما يكون الشيب قد غلب على سواد شعره، فكان ذلك مزية لرسول الله -عليه الصلاة والسلام- وإن كان الشيب كذلك إشارة الوقار، فقد كان منه -عليه الصلاة والسلام- قليل في شعره.
وقال ربيعة وهو الراوي للحديث كما قلنا: فرأيت شعرا من شعره فإذا هو أحمر.
وهذا يدلنا على دقة ملاحظة أصحاب -النبي عليه الصلاة والسلام- ودقة وصفهم لخَلْقه، رأى بعض شعرات فيها شيء من الاحمرار، قال: فسألت -في بعض الروايات مصرحا-: هل كان النبي عليه الصلاة والسلام يخضب؟ قال: لا، وإنما احمرّ من الطيب. كان يستخدم الطيب -عليه الصلاة والسلام- ويكثر منه، فغلب أثر الطيب في آخر حياته، فاحمرت بعض شعرات لحيته، وهذا كما قلنا واضح في دلالة هذا الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا كما قلنا من الأحاديث الجامعة في وصف -النبي صلى الله عليه وسلم-.
وأما الأحاديث التي وردت في وصف وجهه فهي كثيرة، منها حديث البراء بن عازب قال وهو عند البخاري: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها، وأحسنه خَلْقا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير.
والطويل البائن: يعني :بان بمعنى ظهر، أي: يظهر مع وجود غيره؛ لأنه يكون طويلا فيظهر من وراء الناس، أو من وراء من أمامه.
وهنا الوصف لوجه النبي -عليه الصلاة والسلام-: كان أحسن الناس وجها.
وسئل البراء -والحديث عند البخاري في الصحيح-: "أكان وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر".
والسؤال هنا ما مقصوده بقوله: أكان وجهه مثل السيف؟ قال أهل العلم وهذا الغالب على قولهم: هل كان مثل السيف في لمعانه وبريقه؟ فأجاب: لا، بل مثل القمر، ونحن نعرف أن بياض القمر ولمعانه أبلغ، وهو الذي تغزل به الشعراء، وهو الذي فيه البهاء والوضاءة أكثر، ثم إن لمعان السيف لا يظهر دائما، وإنما يظهر إذا وقع عليه الضوء غالبا، فهو ليس لمعانا دائما، وهو دون لمعان القمر.
ثم أيضا فيه وجه آخر: وهو أن القمر مع بياضه مستدير، وذلك وصف لوجه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا الذي ذهب إليه بعض الشراح عندما قالوا: إنه لم يرد أن يكون مثل السيف في اللمعان، وإنما مثل السيف حديدا أي: في رهافته أو ميله نحو الطول، ولذلك قال: بل مثل القمر، فجمع بين الاستنارة والاستدارة في وصف وجه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومما ورد في ذلك أيضا حديث كعب بن مالك الطويل في قصة غزوة تبوك قال: فلما سلمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووجهه يبرق من السرور.
وهذا كان مشهورا عن النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا كان به فرح أو طرأ عليه سرور، كان يُرى أثر ذلك في وجهه فتزداد حمرة وجهه.
كما روى جرير في صحيح مسلم في القصة المشهورة بالقوم من مضر لما جاءوا وكانوا فقراء، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة أن ينفقوا، فأنفقوا حتى اجتمع كومان من ثياب وطعام، قال جرير: فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة، أي كأنه قطعة ذهب من توهج حمرته، لفرط سعادته -عليه الصلاة والسلام- وفرحه بما كان من أصحابه - رضوان الله عليهم-.
ووردت كذلك أحاديث كثيرة فيما يتصل بوجه النبي -صلى الله عليه وسلم- ووصفه، من حيث استدارته واستنارته وإشراقه وبياضه وحمرته، وكان ذلك من أكمل وجوه الجمال، ونحن نعرف أن الوجه مجمع الجمال.
وهذا حديث في وصف آخر للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو مروي من حديث أنس أيضا قال فيه: ما مسستُ حريرا ولا ديباجا ألين من كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا شممتُ ريحا قط أو عرقا قط أطيب من ريح أو عرق النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا أيضا وصف من أنس وهو -كما قلنا سابقا- قريب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ويصف فيه نعومة يد النبي -صلى الله عليه وسلم- وصفا عجيبا، يقول: ما مسست حريرا ولا ديباجا، وفي بعض الروايات: ولا خزا (وهو نوع من أنواع الحرير) ألين من كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رغم أنه كان -عليه الصلاة والسلام- يعمل ويجد، لكن كانت يده لينة، وجلد يده ناعما وذلك يلمسه من يصافحه، غير اليد الشثنة الخشنة التي إذا صافح الناس صاحبها شعروا بشيء من الغلظة أو الشدة، فهذه تجمع سماحة نفسه، مع لين كفه -عليه الصلاة والسلام.
وأما الوصف الآخر: فهو في وصف طيب ريحه -عليه الصلاة والسلام-، قال أنس: ما شممت ريحا قط أطيب من ريح رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
وفي رواية أخرى:" ما شممت مسكا ولا عنبرا ولا كافورا أطيب من ريح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
بل قد ورد في الحديث الصحيح عن أم أيمن رضي الله عنها: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي فيقيل عندها، قالت فكانت وهو نائم تسلت عرقه، يعني تأخذ شيئا من عرقه فتضعه في قارورة، فيستيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما تفعلين يا أم أيمن؟) قالت: أدخره طيبا لنا فهو أفضل وأطيب من كل طيب عندنا، وأقرها النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، بل في بعض الروايات قالت: أخلطه بطيبنا حتى يُطيِّب طِيبَنا.
وهذا من كمال ما كان مختصا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نعلم أن العرق مما يُستقذر، وأن رائحته تكون كريهة، لكنه عليه الصلاة والسلام من كمال خلقته وخلقه وما أراد الله عز وجل له مما يقرب الناس إليه، ويعلقهم به، كان عرقه عليه الصلاة والسلام طيب الرائحة كما ورد في هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه.
ثم ننتقل إلى أحاديث أخرى مما يتصل ببعض أوصاف النبي -عليه الصلاة والسلام-، منها الحديث الصحيح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- من رواية أبي هريرة، في وصف مشية النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان -عليه الصلاة والسلام- إذا مشى يتكفأ تكفيا، كأنما ينحط من صبب، وفي رواية: "كان يتقلع تقلعا، كأنما ينحط من صبب".
يتكفأ تكفياً أو يتقلع تقلعاً، أي أنه يرفع قدمه عن موطنها ثم يضعها في الموطن الآخر عند مشيه ولا يسحب رجله سحبا، وشبه ذلك كأنما ينحط من صبب أي عندما يمشي الإنسان وهو نازل في منحدر كيف يكون مشيه؟ لابد أن يثبت قدمه بقوة وإلا انزلق، فهذا دليل أو هذا وجه من وصف مشيه -عليه الصلاة والسلام- فيه وجوه من الكمال والحكمة من جانب آخر:
الوجه الأول: أنه من دلالات الوقار والجد والهيبة لشخصيته -عليه الصلاة والسلام-، فإن المشي المتسكع أو المتسحب إنما هو مشي المتهاونين، أو الموصوفين بصفات الليونة، أو بصفات شذوذ عن الرجولة ونحو ذلك.
الوجه الثاني: أنه -عليه الصلاة والسلام- كان قويا وكان فيه نشاط وحيوية، لم يكن ضعيفا لا في بنيته، ولا في مشيته -عليه الصلاة والسلام-.
الوجه الثالث: هو الذي أشار إليه حديث أبي هريرة الآخر، وهو أن المشية بهذه الطريقة هي المشية الأسرع، لأن الذي يسحب أقدامه هذالا يكون مشيه سريعا، قال أبو هريرة: كنا نمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنهرول، وما نكاد ندركه.
يمشي وهم يهرولون لا يكادون يدركونه من قوة مشيه وسرعته من غير رعونة، ليس هناك جري، ولا هناك شيء لا يليق بمقام هيبته -عليه الصلاة والسلام-، بل كان على هذه الصفة من الكمال.
الوجه الرابع: ربما نشير إليه فيما يتعلق بالوصف الذي كان متعلقا بخاتم النبوة، وهذا فيه أحاديث كثيرة أيضا ومهمة، لأنها تتعلق بأمر يربط بين الخِلْقة وأعلام النبوة، وفي هذا أحاديث كثيرة، ومنها: حديث السائب بن يزيد، قال: ذهبتْ بي خالتي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي وجع، يعني: مريض، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، فتوضأ فشربتُ من وضوئه، يعني من فضل ماء وضوئه -عليه الصلاة والسلام-، وقمتُ خلف ظهره فنظرتُ إلى الخاتم بين كتفيه، فإذا هو مثل زر الحجلة. وهذا الحديث أخرجه الترمذي في سننه وفي الشمائل، وهو عند البخاري بخلاف يسير في لفظه.
ومعلوم أن من علامات النبوة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان له خاتم النبوة بين كتفيه، وهذا الوصف مثل زر الحجلة، قالوا: الحجلة هي نوع من الحجل الطائر ذهب بعضهم إلى هذا، وقالوا: زر الحجلة، الحجلة طائر صغير أيضا يعرف في اللغة العربية بهذا المعنى، وقالوا زر الحجلة أي بما في حجم بيضتها، ولكن الصحيح أن الحجلة نوع من السكة التي تضرب للعروس، كأنها نوع من السكة بمعنى القطعة التي من الذهب أو القطعة التي من الفضة ونحو ذلك، وزرها: علامة فيها أو بروز.
عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه-، قال: رأيت الخاتم بين كتفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وغدة حمراء مثل بيضة الحمامة.
هو بروز ظاهر مميز عن بقية جسمه وكان فيما بين كتفي النبي -عليه الصلاة والسلام - في جهة ظهره.
وفي حديث زيد بن أخطب الأنصاري أيضا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أبا زيد ادن مني فامسح ظهري) قال: فمسحتُ ظهره فوقعتْ أصابعي على الخاتم، فقلت: وما الخاتم؟ قال: شعرات مجتمعات، أي عند هذا الموضع الذي كان في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو أيضا عند الترمذي في الشمائل، وأخرجه ابن حبان في صحيحه.
وأحاديث أخرى جامعة، ومنها الحديث الواسع عند الترمذي، لأن فيه طولا وفيه معانٍ كثيرة سنوجز بعضه ونختم به؛ لأنه أوسع ما ورد في وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو من حديث الحسن بن علي، والحسن بن علي كان أشبه الناس خَلْقا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والحديث عند البخاري في الصحيح: أن أبا بكر جاء، والحسن يلعب فأخذه، قال: بأبي هو شبيه رسول الله لا شبيه علي، يعني شبهه بالرسول أكثر من شبهه بأبيه -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
الحسن بن علي يقول: سألت خالي هند بن أبي هالة وكان وصَّافا، عن حلية النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا أشتهي أن يصف لي شيئا منها، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب (المشذب: هو الطويل البائن الطول، عظيم الهامة: أي عظيم الرأس)، رجل الشعر، ليس سبطا ولا جعدا، إن انفرقت عقيقته، ولا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفرة (وعقيقته: الشعر يسمى عقيقة تشبيها بشعر المولود إذا كان غزيرا)، انفرق شعره: وكان من وصف شعره أنه يسترسل حتى يحاذي شحمة أذنيه، بل قد يسترسل إلى قريب من منكبيه -عليه الصلاة والسلام-، واسع العين، أزج الحواجب (أزج الحواجب: أي حاجباه معقوفان منحنيان ليس متصل، وأزج الحواجب أيضا أنها منقطعة ليست متصلة بعضها ببعض) سوابغ في قيل قرن بينهما عرق يدره الغضب (يعني عرق إذا غضب النبي -صلى الله عليه وسلم- يظهر ويبرز، ونعرف أن الإنسان إذا غضب هناك عرق في جبهته فكانوا يصفون ذلك)، قال: أقنى العرنين (وهو أعلى الأنف) له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية (أي كثيف اللحية)، ضليع الفم، مفلج الأسنان (أسنانه مفلجة بمعنى كل واحدة منها ظاهرة ليس بينها تقدم عن بعضها وإنما هي مستوية ومفترقة) ونحن نعرف أن الناس الآن يسعون إلى أن يفرقوا قليلا بين الأسنان لأنه مظهر من مظاهر الجمال.
قال في تتمة ذلك الوصف أيضا: معتدل الخَلْق، بادن متماسك (يعني لم يكن نحيفا، ولم يكن بدينا لكنه بادن: يعني فيه امتلاء ومتماسك الجسم)، سواء البطن والصدر، لا يعلو صدره على بطنه ولا بطنه على صدره، بل صدره وبطنه في مستوىً واحد، بعيد ما بين المنكبين (وذلك يدل على أنه كان عريض الكتف -عليه الصلاة والسلام-، ضخم الكراديس (والكراديس هي: رؤوس الأعضاء كالكتف والرقبة والركبة)، وكما قال هنا: موصول ما بين اللبة والسرة بشعر تجري كالخط (يعني شعره يسمى شعر المسربة من أعلى الصدر إلى أوسط البطن قليل ليس منعدم الشعر ولا كثيف الشعر وكلاهما ليس مستحسنا، فقلة الشعر أشبه فيها بالنساء، وكثرته أيضا ليست من وجوه الجمال).
قال في تتمة هذا: طويل الزندين، رحب الراحة، سائل الأطراف، أخمص القدمين، مسيح القدمين ليس في قدمه شيء من الميلان، وذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، فإذا التفت، التفت جميعا (يعني لا يلتفت بطرف وجهه، وإنما يلتفت بكليته وهذا من كمال أدبه واهتمامه بمن يتحدث إليه)، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء.
وفي بعض الروايات: كان نظره لحظا (يعني لا يصوّب النظر وإنما لحظ: ينظر ويترك حتى لا يصوب النظر للإنسان فيحرجه أو يشعره بشيء من الذم أو بشيء من الغضب أو نحو ذلك كان يلحظ لحظا).
وقد وصف ذلك كعب بن مالك أثناء غضب النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه في أثناء المقاطعة، قال: فإذا صليتُ أقبل عليّ، وإذا انتهيتُ أعرض عني فلا أدري أكان ينظر إليّ أو لا، وكان هذا من حسن أدبه -عليه الصلاة والسلام-.
كما قال هنا: جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، يعني يمشي وهم يكونون خلفه من جهة سرعته، ومن جهة إكرامهم له، وتقديمهم له -عليه الصلاة والسلام-، يبادر من لقي بالسلام (يعني هو الذي يبدأ بالسلام -عليه الصلاة والسلام-).
ثم في تتمة الحديث:قال صف لي منطق رسول الله -عليه الصلاة والسلام-؟ فذكر له بعض الأوصاف التي قد يرد لنا ذكر لها في أحوال أخرى من شمائله، لكن لا بأس أن نذكر بعضا منها، قال: كان متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم من غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه (يعني بملء فمه فلا يأتي بكلام مغموم كما يتكلم بعض الناس كلاما من طرف فمه، أو من طرف لسانه فلا يبين الحروف).
قال: ويتكلم بجوامع الكلم، فصل لا فضول ولا تقصير، ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يعيب منها شيئا غير أنه لم يكن يذم ذاقا (يعني من الطعام) ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا.. إلى آخر ما ذكر في هذا.
بل قد زاد بعد ذلك لطيفة هنا، أن الحسن قال: فكتمته عن الحسين، ثم ساررته به، فرأيت أنه قد سأله قبلي وعلمه، فكان كل منهما رغم أنهما ابنا بنت النبي -عليه الصلاة والسلام- لكن كانا صغيرين، فلم يعيا من وصفه ذلك الوصف الدقيق، فسألا خالهما كما هو في هذه الرواية، وهي أطول ما ورد عن وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي عند الترمذي في شمائله.
وربما هذا إيجاز القول، وقد أشرت إلى أن ذكر الوصف ليس أمرا عارضا أو شيئا لا أهمية له، بل قدمنا لهذه الأهمية.
وبعد هذا الدرس سنشرع بمشيئة الله تعالى بالبدء في الصفات والخلال، التي هي الأوصاف الخُلُقِيَّة، وسنبدأ بالأوصاف والشمائل المتعلقة بالأخلاق الاعتقادية: في الرضا والتوكل والخشية ونحو ذلك إن شاء الله تعالى.
ساحة النقاش