كتب: د. علي بن عمر بادحدح07 مارس, 2012 - 14 ربيع الثانى 1433هـ
الدرس الرابع : وجوه الإكرام والتعظيم في القرآن الكريم
عنوان درسنا اليوم: وجوه الإكرام والتعظيم في القرآن الكريم، وهو استكمال للدرس الذي سبق عندما تعرضنا لشيء من ذلك في آيات كثيرة تحت عنوان: تعظيم قدره وبيان إكرامه في القرآن الكريم، ومررنا على وجوه كثيرة متعددة لها شواهدها من كتاب الله، وما يعضدها من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء من ذلك ما مر بنا في المدح والثناء وذكر المحاسن، أو ما وقفنا عنده في العناية الإلهية والرعاية الربانية، أو ما كان من تجليات اللطف به والإكرام له، أو بيان تقديره وتقديمه وتعظيمه وإجلاله، وانتهينا إلى الحديث عن الشفقة والرحمة به، وما كان كذلك من التأييد والحفظ له، وكونه أولى بالأنبياء وبأمته منهم، وقلنا إن هناك جملا وافرة من هذا التعظيم والإكرام جمعت في بعض الآيات، وفي بعض السور وخصصنا منها سورة الإسراء والفتح والنجم.
وهذه هي وقفاتنا التي نرى فيها وجوها مجتمعة من إكرام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه وبيان قدره ومكانته من خلال هذه الآيات الجامعة.
الوقفة الأولى: مع مطلع سورة الإسراء:
قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء:1).
وهذه الآيات فيها ذكر الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى بيت المقدس ومن البيت الحرام للمسجد الأقصى، وقد ثبتت بالأحاديث الصحيحة المتكاثرة هذه الحادثة وما بعدها، وهي حادثة المعراج إلى السماوات العلى، وتأتي الإشارة إلى ذكر ذلك في سورة النجم، وسنشير إلى أحاديثها ورواياتها عند استعراضنا لهذه الوجوه من تعظيم وإكرام المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من خلال هذه الحادثة العظيمة.
{سبحان} مصدر سماعي غير قياسي للتسبيح، سبح يسبح تسبيحاً هذا مصدر قياسي و{سبحان} مصدر سماعي.
والمعنى هو: التنزيه، سبح: أي نزه وعظم، فإذا كان ذلك مرتبطا بحرف الجر (عن) كان ذلك تنزيها، ومنه: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون: من الآية91) أي: ننزه الله عن وصف أولئك الواصفين.
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الطور: من الآية43) تنزيه لله عز وجل عما يقول أولئك المشركون.
وأما إذا تجردت عن حرف الجر كما هو هنا فمعناها التعظيم.
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه} (الإسراء: من الآية1).
ليس هنا في الآية سبحان الله عن شيء معين فالمقصود هنا التعظيم، وهو إطلاق التعظيم على ما يليق بجلاله تعجبا من قدرته المطلقة، وعظمة خلقه وعظمة ما يجري به قضاؤه وقدره - سبحانه وتعالى-.
{الذي أسرى} والسرى: هو المشي بالليل، ومع ذلك جاء في الآية ليلاً بالتنكير مع التنوين، وذلك ليس فيه تكرار وليس للتأكيد، وإنما لبيان أن الإسراء لم يستغرق الليل كله إنما استغرق جزءاً منه، وهذا أبلغ في إظهار المعجزة التي كانت لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
وقال: {بعبده} ولم يقل برسوله أو بنبيه لبيان مكانة العبودية ورفعتها، وأنها تسمو بصاحبها إلى المقام الأرفع، وتكون ذات أثر في مكانته وقدره عند الله -سبحانه وتعالى-.
وكذلك فيها إثبات بشرية النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى يمنع ذلك من المغالاة المفرطة، فتنزع عنه صفة البشرية، ويكسى أو يلحق به بعض الصفات الإلهية فبين أنه -وإن بلغ هذا المقام الأرفع- لا يزال عبداً رسولاً بشراً ، هكذا اقتضت حكمة الله -عزو جل- أن تبقى بشريته وأن يرقى بعبوديته.
ثم بين موطن الإسراء ابتداءً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ولم يقل قصي أو أقصى منه للإشارة كما قال أهل التفسير: أنه سيكون بين المسجدين مسجد يكون هو أقصى من الأول، ثم يكون الثاني هو الأقصى، وفي هذا إشارة إلى مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن قد أقيم ولا أنشئ، ولم يكن النبي -عليه الصلاة والسلام- قد هاجر بعدُ؛ لأن هذه السورة كانت في الفترة المكية.
و{الذي باركنا حوله} فيها دلالة على بركة البيت المقدس، وأنه مبارك من باب أولى وأن بركة ما حوله إنما سببها هي بركته التي أرادها الله.
ثم قال: {لنريه من آياتنا} وهذا إجمال للآيات المعجزة التي رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الرحلة المباركة {إنه هو السميع البصير}.
أما وجوه التعظيم والإكرام فكثيرة في هذه الآية، وما يتصل بها من دلالات الإسراء والمعراج، وسنقف وقفات موجزة، وإلا فإن المقام في هذا أكبر وأعظم من أن تتسع له الكلمات والأوقات المحدودة.
الوجه الأول: وجه التعظيم والإكرام بالإفراد والتخصيص.
فإنه لم يثبت لنبي من الأنبياء ولا لرسول من الرسل شيء مماثل لحادثة الإسراء والمعراج، ولا قريب منها بوجه من الوجوه، وهذا الإفراد والتخصيص لا شك أنه وجه ظاهر في تعظيم وإكرام النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الوجه الثاني: الدلالة على التقديم والإمامة للأنبياء.
فيما وقع مما ثبت من أنه صلى بهم إماماً في بيت المقدس، وهذا تفضيل وتقديم وتأتي له وجوه أخرى أيضاً من الدلالات، وهذا من التعظيم والإكرام بلا شك.
الوجه الثالث: الدلالة على الوراثة للديانات وختم النبوة.
فإنه لما عُرج به إلى السماء كان يمكن أن يعرج به من مكة المكرمة، ومن البيت الحرام مباشرة، لكن جاء الإسراء إلى بيت المقدس، وهو موطن كثير من الأنبياء، ومر به موسى وعيسى وإبراهيم الخليل -عليهم الصلاة والسلام-.
وكذلك للإشارة إلى أن ميراث النبوة الذي انتهى إلى عيسى -عليه السلام-، وما أنزل عليه من الإنجيل، ومن قبله موسى وما أنزل عليه من التوراة، وبنو إسرائيل المنتسبون إلى هؤلاء الأنبياء جاءت رحلة الإسراء والمعراج لتقدم دليلا على أنه هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وإشارة إلى أنه هو الأحق بهؤلاء الرسل والأنبياء، وأن كتابه كما جاء في القرآن الكريم هو المهيمن على هذه الكتب، وأن دينه هو الكامل الخاتم الذي جاء بخلاصة أو بخير ما في هذه الكتب والرسالات والنبوات قبله -عليه الصلاة والسلام-.
الوجه الرابع: التعظيم والإكرام في الاستدعاء والمرافقة، وإظهار الإعجاز في الانتقال.
فإن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يسأل ربه ذلك، ولم يطلبه منه وما كان له ذلك وربما لم يكن يخطر له ببال، لكن الله -جل وعلا- هو الذي دعاه، والدعوة إكرام، من يدعوك إلى بيته، أو إلى ضيافته أو إلى أمر يحبه، لاشك أنه قد اختصك بذلك، فإذا كان قد دعاك وحدك، وخصك بالدعوة من دون سائر الخليقة كلهم، ثم إنه أرسل إليك من يحملك إليه ومن يوصلك إليه، ثم هيأ الدابة التي عرفتم صفتها في أحاديث الإسراء وهي دابة البراق، كان يضع حافره في موطن بصره، وهذا من الإعجاز مع الإكرام الذي لم يكن له مثيل إلا فيما اختص به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا وجه مهم وملحظ لطيف، وإجلال وتكريم، ينبغي ملاحظته في هذا الاستدعاء، وليس هو كما قلنا استدعاء عاديا، أو إلى مكان معتاد، إنما هو من رب الأرباب، وملك الملوك، جبار السماوات والأرض- سبحانه وتعالى-، وأرسل له أمين الوحي وسيد الملائكة جبريل -عليه السلام-، ليكون مرافقه في هذه الرحلة التكريمية العظيمة.
الوجه الخامس: إظهار صفاء ونقاء فطرته.
فيما خير فيه في أثناء هذا المسير، ما بين إناء خمر وماء ولبن، وما اختاره النبي -عليه الصلاة والسلام-، وما حكم له أو بين له جبريل -عليه السلام- بأنه هدي إلى الفطرة التي هي في رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أكمل وأتم وأنقى وأصفى ما يكون.
الوجه السادس: الإكرام في ذكر الإخبار عن نبوته في كل السماوات.
فإنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة: أنه عندما عُرج به إلى السماء كان جبريل يستفتح السماء الأولى والثانية والثالثة، يقول: فكلما استفتح سماء، قالوا: من؟ قال: جبريل، هل معك أحد؟ قال: محمد، أوقد أرسل إليه؟ وفي بعض الروايات: أوقد نُبِّئ؟ أي أنهم يعرفون ذكره وخبره، ونبوته -عليه الصلاة والسلام-، وعندما يقول جبريل: نعم، فيرحبون به، وتفتح له أبواب السماوات -عليه الصلاة والسلام-.
ولاشك أن هذا أمر ظاهر في عظمة التعظيم، وفي كرامة الإكرام لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
الوجه السابع: صعوده ومعراجه إلى السماوات، وفتحها له سماءً سماء.
حتى بلغ المكان الأرفع الذي لم يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وكما ورد أنه كان يسمع صرير الأقلام عند العرش.
الوجه الثامن: الإكرام برؤية الجنان ونعيمها، والوقوف على حقيقة النيران وجحيمها وعذابها. والإخبار بالغيب الذي لم يُكشف إلا له -عليه الصلاة والسلام- من هذه الوجوه:
فإن الجنة والنار مغيبتان، خبرهما نؤمن به، بما ورد في وصف ذلك من آيات القرآن وأحاديث المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، وهو الذي قد أخبرنا بأنه فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكذلك قد بين أهل التفسير أن الذي ورد من الآيات في وصف الجنان، إنما هي مشابهة الأسماء، وأما الحقائق فتختلف، فليس الرمان رماناً كالدنيا، وليس النخيل كذلك، وليست الأنهار كذلك، وقد وردت الصفات في هذا في الآيات وفي الأحاديث، كما هو معلوم وظاهر.
الوجه التاسع: شهادات الرسل والأنبياء في كل سماء مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أراد فليرجع إلى ما كان من الخبر، وذكر التفضيل والتقديم والإجلال والتكريم من الرسل والأنبياء الذين مر بهم رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، في آدم وما كان منه من حديث، وإبراهيم وما كان منه من كلام، وموسى وما كان منه من إجلال، وعيسى -عليهم السلام-، وكل من مر به، والأحاديث في هذا مستفيضة وكثيرة، وألفاظها ليس المقام مقام ذكرها، لكنها كلها شهادات الرسل والأنبياء الكرام العظام من أولي العزم من الرسل، الذين ذكروا إجلالهم وتقديرهم لخصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الوجه العاشر: إظهار المعجزة الخارقة في كل أحداث الإسراء والمعراج.
بدءاً من الانتقال، ومرورا بالرسل والأنبياء، وانتهاءً إلى صعود السماوات، وكل الذي كان في هذه الرحلة، كل شيءٍ أو كل حادثةٍ منها معجزة مستقلة بذاتها خارقةٌ للعادة مما دل على اجتماع عدد كبير من المعجزات، كلها جمعت في هذه الحادثة المعجزة إسراءً ومعراجاً.
الوجه الحادي عشر: وجه الإكرام بالتخفيف والتضعيف.
فخففت الصلاة من خمسين إلى خمس صلوات، وجُعِل أجرها مضاعفا بخمسين صلاة، وهذا معروف من حديث موسى -عليه السلام-: لما أخبره بأن الله قد كلفه بأن تكون الصلاة خمسين، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، فاسأل الله معافاته والتخفيف، وكان ما هو معلوم إلى أن انتهى إلى خمس، وأجرهن بخمسين صلاة، وهذا من الإكرام لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وفيه إكرام لأمته -عليه الصلاة والسلام-.
الوجه الثاني عشر: ذكر كمال عبوديته والإشادة بها.
لأنه وصفه هنا بالعبودية، ونال هذا المقام فدل على أنه كما قال -عليه الصلاة والسلام-: (أما إني أتقاكم لله، وأعبدكم له).
ولو تأملنا وهذا قليل من كثير، وإيجاز من إطناب، لوعينا أن هذا المطلع القرآني في صدر هذه السورة، اشتمل على كثير من الوجوه التكريمية التي تفرقت بعضها، أو غيرها في آيات مختلفة من القرآن الكريم كما مر بنا.
الوقفة الثانية: مع مطلع سورة الفتح:
وهي أيضا آيات جامعة لكثير من وجوه التعظيم والإكرام لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-، ولا بأس أيضا من وقفة تنويرية في التفسير، فإن هذه الآيات وسورة الفتح كثير من آياتها وصدرها نزل في شهر ذي القعدة من العام السادس من الهجرة بعد انصراف النبي -صلى الله عليه وسلم- من صلح الحديبية، ونعرف أن الصلح قضى بأن يرجع النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه دون أن يعتمروا، وتحلل -عليه الصلاة والسلام- وأمر أصحابه فتحللوا بعد تردد، وكان بعض الصحابة رأى بظاهر ما يرى الإنسان أن تلك الشروط في الصلح ربما كان فيها شيء من الضيم أو الغض من مكان أهل الإسلام، كما قال عمر -رضي الله عنه- لما جاء للنبي -عليه الصلاة والسلام-: ألسنا على الحق؟ قال: بلى، أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، فعلام نعط الدنية في ديننا؟ فلما كان ذلك كذلك أكرم الله نبيه -عليه الصلاة والسلام- وأمته من بعده، وأصحابه الذين كانوا معه بهذه السورة، وبما كان فيها حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ورد بذلك الحديث الصحيح عند مسلم في صحيحه: قال: (أعطيت سورة ما أحب لو كان لي بها الدنيا وما فيها) وهي هذه السورة؛ لأنها سورة إكرام وإجلال لرسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
ومطلع هذه السورة: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} (الفتح:1، 2، 3).
وهنا وجوه من التكريم نبدأها بلفتات مهمة:
الوجه الأول: وجه التكريم بالخطاب المباشر للرسول صلى الله عليه وسلم.
على وجه التعظيم مع الإفراد، يعني وجه التكريم هنا النداء بالتعظيم مع الإفراد، فإن هذا الذي خوطب به النبي -صلى الله عليه وسلم- في مطلع هذه السورة لم يكن إلا له وحده، ثم من بعده ذكرت الآيات ما كان مختصا بالصحابة: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} (الفتح: من الآية 4).
فأفرده وقدمه وعظمه في هذا السياق الذي خاطب به النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن وجوه هذا التكريم والتعظيم في سياق ألفاظ القرآن البليغة المعجزة، أنه قدم ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يكون ذكر لما هو له -عليه الصلاة والسلام-، كما قال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} (الفتح:1).
وكما قال: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} (الفتح: من الآية 2) ولم يقل: ليغفر الله لك، فالتقديم أيضاً تنويه بالمقام، وتأكيد بالاختصاص، وتجلية لهذه الوجوه من التعظيم والإكرام لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
الوجه الثاني: الفتح الذي خُص به النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن عظمة هذا الفتح، أنه ليس فتحا ماديا، بل كان فتحا معنويا، وهو أعظم.
ولعلنا سنشير إلى ما سبق أن ذكرناه في الدرس الذي مضى، لأن الفتح هنا كما قال جمهور المفسرين: المقصود به صلح الحديبية، وصلح الحديبية في ظاهره لم يكن فتحا بمعنى الفتح الذي يعرفه الناس، لأن الفتح هو ضد الإغلاق، ومعناه في المعنى المعروف في الجهاد: هو فتح البلاد بمعنى كسر مغاليقها بالانتصار العسكري والتمكن منها، لكن الفتح هنا لم يكن ظاهرا بهذا المعنى في صلح الحديبية ولكنه فتح من نوع آخر، فإنه قد فتح الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بهذه الحادثة، وما بعدها بأن هيأ إقبال القلوب وإرشاد العقول وتقبل النفوس، ودخول كثير من الكافرين والمشركين في دين الله أفواجا، فقد أزيلت الحواجز، وكسرت الموانع، وذابت العداوات، وتلاشت الاختلافات، ورأى الناس من حقائق الإسلام بهذا الصلح ما لم يكن لهم به عهد، رأوه قولا، ورأوه عيانا فيما رأوه من سيرة وهدي النبي -عليه الصلاة والسلام- والصحابة، في عمرة القضاء وغيرها، حتى إننا ندرك ذلك كما أسلفنا القول في السيرة، أنه جاء عليه الصلاة والسلام إلى الحديبية في العام السادس ومعه ألف وأربع مئة، وجاء بعد عامين اثنين في العام الثامن من يوم الفتح ومعه عشرة آلاف نفس، وأسلم في هذه الفترة من غير قتال ومن غير معارك جلة من الصحابة وكبرائهم من أمثال: عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وغيرهما من الصحابة، فكان ذلك من أعظم الفتح الذي منّ الله به على رسوله.
وهو الذي قد أخبرنا كما مر بنا، أن معجزته ليست في الأمور المادية، ولا في الانتصارات العسكرية، وإنما في الحقائق الإيمانية، والمبادئ الأخلاقية، والأحكام التشريعية، التي اشتملت عليها معجزته الكبرى، كما أخبر -عليه الصلاة والسلام- (وإنما كان الذي أوتيته، هذا القرآن لا يغسله الماء) كما قيل له: (تقرأه نائما ويقظان) وكما مر بنا فيما سلف من الأحاديث عن النبي -عليه الصلاة والسلام-.
الوجه الثالث: مغفرة ذنوبه المتقدمة والمتأخرة:
ونلاحظ هنا أن الله -جل وعلا- جعل ذلك تعليلا: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: من الآية 2].
والأمر الأول الذي يُلحظ هنا: أنه كأن بعض الصحابة ربما رأى من صنيع النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يدلهم على قصر نظرهم واجتهادهم القاصر الذي لا يماثلون به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كأنما قد يكون بعضهم رأى أنه اختار غير الأولى، أو أنه وقع منه خلاف لما يحقق المصلحة الأعظم للمسلمين، فجاءت التكرمة والمغفرة من الله لرسوله، حتى لا يخطر خاطر من هذا، ولا يجول شيء منه في نفوس الصحابة أو غيرهم.
والأمر الثاني: هل للنبي -عليه الصلاة والسلام- ذنوب حتى تغفر؟ هذا كما يقول أهل العلم: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فإنه قد يكون عنده ما يراه في مقامه الأرفع، وعبادته الأعظم، وكماله الأظهر، أنه يرى شيئا من هذا كأنما هو ذنب وليس بذنب، وإنما هو يرى الأقل من القليل الذي قد يكون فيه بعض اجتهاد، يكون من هذا الباب.
ثم أيضا: من وجه ثالث يظهر في هذا التقديم: أنه قال: {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح: من الآية 2).
فإن كان تصور يمكن أن يكون واردا في شيء من الذنب سابقا، فكيف يكون في هذه المغفرة التي تأتي لما بعد، وليس ذلك لأحد إلا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وأيضا من جهة أخرى في مسألة المغفرة هذه أنه -عليه الصلاة والسلام- كل ما كان منه من اجتهاد خلاف الأولى قد غفر له، وخص بالمغفرة نصا به، كما في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } (التوبة: من الآية43) وكما جاء في: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (لأنفال: من الآية 67).
ومع ذلك العفو المخصص المذكور في آياته في أحداثها، جاءت هذه المغفرة لتدل على أنه مقام أرفع ومكان أسمى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
{وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} (الفتح: من الآية2) قال أهل التفسير: بأن يجمع لك بين الأمرين، أمر الانتصار المعنوي بإثبات الحجج وإقامة البراهين وإثبات الأدلة وبيان الحق وإظهار الإسلام، ويجمع لك كذلك الملك والحكم والسلطان الذي تقيم به هذا الإسلام والإيمان.
فإننا نعلم أن كثيرا من الرسل استطاعوا أن يقيموا الحجة، وأن يظهروا المعجزة لأنهم رسل من عند الله -عز وجل- لكن لم يكن لهم في حياتهم أن أقاموا هذا الدين في واقع الحياة، وكانوا قد تهيأت لهم أسباب الحكم والملك والسلطان كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فإن عيسى -عليه السلام- كما نعلم إلى أن رُفِع إلى ربه ومولاه، لم يقم دولة ولم يقم مجتمعاً كاملاً حكم فيه بشريعته التي أوحاها الله إليه، وهذه من وجوه إتمام النعمة والتكريم.
وقال: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (الفتح: من الآية2).
وهذا جمع تام مطلق مطرد بصيغة المضارع المستمر بين نوعي الهداية، لأن الهداية تشتمل على نوعين:
هداية بيان وإيضاح: بمعنى الإرشاد، هذا حق وهذا باطل، طريق النجاة من هنا وطريق الخسران من هنا، هذه هداية بيان قد من الله بها على كل الناس لكن ثمة هداية أخرى وهي:
هداية التوفيق والإلهام: من الذي يوفقه الله -عز وجل- فيتبع الحق ويعرض عن الباطل؟ من الذي يلهمه الله -سبحانه وتعالى- بأن يسلك سبيل النجاة، ويترك سبيل الخسران؟ من الذي يقذف الله في قلبه الميل للخير والإحسان، والبعد عن الشر والجحود والنكران؟.
تلك هي نعمة الله الكبرى التي جمعها هنا لرسوله -صلى الله عليه وسلم- والتنوين مع التنكير دليل على وجه من وجوه التعظيم بالاستمرار والدوام وعندما يذكر الله -عزوجل-: {صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (النساء: من الآية68).
الصراط هو الطريق، ولا يتصور الطريق ابتداء إلا أن يكون مستقيما، إلا إن ذُكِر بوصف، ومع ذلك ذكره بالاستقامة لبيان كمال نعمة الله -عز وجل- لرسوله بالهداية التي بهذا الوصف تجتمع فيها كل صفات الكمال المطلق لهذه الهداية.
ثم قال: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} (الفتح:3) وهذا وجهه ظاهر في أنه إشارة إلى ما تم به النصر المؤزر في يوم الفتح الأكبر في فتح مكة.
وكل هذا السياق وارد بصيغة المضارع الدال على الاستمرار.
{ينصرك} ليس في حادثة بعينها ولا في وقعة بعينها، وإنما على وجه الاستمرار ثم النصر في ذاته فيه مقام من العزة والسلطة ومع ذلك قال: {نصراً عزيزاً} وهذا فيه معنى من معاني أن النصر لا ينتقض ولا ينتقص؛ لأنه يمكن أن ينصر الإنسان أو ينتصر الجند أو كذا ثم يهزموا أو ينصروا، ثم لا يمكنوا لكن العزيز -كما نعلم- من أسماء الله ومعناه: الغالب الذي لا يقهر بمعنى أن أمره لا يرد، ولا يرجع فيه أبداً.
الوقفة الثالثة: مع مطلع سورة النجم:
وفيها الإشارات التي تتمم ما ذُكِر في شأن الإسراء والمعراج من الأحاديث، وهنا إشارات من القرآن الكريم.
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:4،3،2،1 ) إلى آخر الآيات التي سنمر بها.
هنا وجوه كثيرة من التكريم ربما في تعدادها أكثر مما سبق أن ذكرناه في الموطنين الآخرين، ولكن مقام الإيجاز يقتضينا أن نختصر.
الوجه الأول: التكريم بالإقسام على تبرئته وكماله -عليه الصلاة والسلام:
فإن الله -جل وعلا- أقسم بالنجم على نفي كل ما يقال عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من وجوه النقص والافتراء والادعاء من أعداء الله -عز وجل-.
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (النجم:2،1).
الوجه الثاني: التزكية المطلقة لجوارحه كلها عليه الصلاة والسلام:
خاصة فيما يتصل بالوحي والنبوة والرسالة.
أولاً: زكى نطقه وقوله فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (النجم:3) فكل نطقه كما قال الله -عز وجل-: {وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: من الآية4).
ثانيا: زكى فؤاده وعقله وإدراكه فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم:11).
ثالثا: زكى بصره عندما قال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (النجم:17).
فكل حواسه -عليه الصلاة والسلام- قد ذكرت في هذه الآيات على سبيل النفي القاطع المخبر به من الله -عز وجل-، فكل ما يعتري الناس من وجوه النقص في هذه الحواس ليس وارداً في حق النبي -عليه الصلاة والسلام- بشخصه وذاته، وفي مجال تبليغ رسالة الله ونبوته -عليه الصلاة والسلام- بشكل ووجه أخص.
الوجه الثالث: في شأن أن كل قوله وحي عليه الصلاة والسلام:
ورد في ذلك الحديث بسند صحيح عند أحمد في مسنده من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنت أكتب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنهتني قريشاً وقالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر يرضى ويغضب فأمسكتُ، فلما رآني الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما لك؟) قلت: كذا وكذا وكذا قال: (اكتب فوالله لا يخرج من بينهما إلا حقاً).
فكان نطقه وحي حتى في غضبه -عليه الصلاة والسلام- وفي سائر أحواله لهذه التزكية المطلقة.
ثم سياق الآيات عندما نقف عنده من حيث الناحية البلاغية.
{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} عندما نتأمل هذا السياق القرآني نجد أنه جعل اللفظ ذاته هو الوحي بعينه.
{إن هو} أي: إن كان نطقه إلا وحي يوحى، ونحن نعرف أن هذا الاستثناء مع الشرط يدل على الحصر، كأن قوله هو الوحي، وهذا لا شك أنه من التأكيد، وأيضاً التعظيم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
الوجه الرابع: الاختصاص في بيان تعليم الله سبحانه وتعالى له:
وذلك في قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم:،6،5،7].
وهذا وجه -وإن كان الاشتراك فيه من حيث نزول جبريل بالوحي على سائر الرسل والأنبياء- إلا أن الاختصاص كان لمزية من مزيد المرافقة والتعليم والتسديد في حق نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
الوجه الخامس: المكان الأرفع الذي بلغه النبي عليه الصلاة والسلام:
وذلك في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } (النجم:،8،9).
وهو وجه المكان الأرفع الذي بلغه النبي -عليه الصلاة والسلام- ولم يبلغه أحد من الخلق أبداً كما قال: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9].
هذا من مقام التكريم الذي أشرنا إليه أنه رفع إلى ذلك المقام حتى يوحي الله -سبحانه وتعالى- له وحيه ويبلغه أمره، ويفرض عليه الصلاة التي ذكرنا أمرها.
الوجه السادس:
الذي يمكن أن نجمله في أمرين معاً: ما كان مما أشرنا إليه في الكلام عن هذه المنزلة:
{عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} (النجم:،15،14،16) وهو أسلوب يدل على التعظيم.
الوجه السابع:
الإجمال الذي قال فيه الله -عز وجل-: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (النجم:18).
فليست آية بل آيات وهي من ربه على سبيل الإكرام واللطف والإجلال.
ثم الوصف بأنها (الكبرى) للتدليل على هذا التعظيم.
وكان غرضنا من تتمة هذا المقام هو إنهاء الحديث مع الإيجاز للتمهيد للحديث عن الشمائل بذاتها، وإن كانت هذه الموضوعات من الشمائل باعتبار ما ذكرناه من أن معرفة صاحب الشمائل ومكانته وعظمته هي التي تدعو وتهيئ النفوس لمزيد من معرفة عظمة وأهمية الاقتداء والتأسي به، والتحلي بشمائله وأخلاقه -عليه الصلاة والسلام-.
ومن جهة أخرى هي التي تبين أن هذا الاقتداء هو الأكمل والأرفع لأنه مختص بمن كمل أعظم كمال من بين سائر الخلق أجمعين -عليه الصلاة والسلام-.
ساحة النقاش