كتب: د. علي بن عمر بادحدح28 فبراير, 2012 - 6 ربيع الثانى 1433هـ
الدرس الثالث : تعظيم قدره وبيان إكرامه صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
أما بعد أيها الإخوة الكرام ... سلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
وهذا درسنا الثالث في الشمائل النبوية يُعقد في يوم السبت 13 شعبان من عام 1423هـ وعنوان درسنا اليوم: تعظيم قدره وبيان إكرامه -صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم، وقد كان درسنا الذي مضى في إجمال خصائصه التي أكرمه الله -سبحانه وتعالى- بها واصطفاه من بين الخلق وميزه بها، وذلك فيما ذكره عن نفسه -عليه الصلاة والسلام- فيما صح من أحاديثه التي أوجزنا بعضها في درسنا الماضي.
ودرس اليوم هو بيان هذا التعظيم والإجلال والتوقير والإكرام لسيد الخلق -عليه الصلاة والسلام- فيما جاءت به آيات القرآن الكريم، ذلك أن ما سبق كان وصفا منه عليه الصلاة والسلام لما أكرمه الله به، وهذا الذي نقف عنده تأكيد لذاك، ولكنه من خلال آيات القرآن، وهو حديث قد يطول بنا في أكثر من درس؛ لأن ما ورد في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم في آيات القرآن كثير، ولابد ابتداء أن نعرف الفائدة التي لأجلها نذكر هذه الخصال، وذلك التعظيم والإجلال؛ لأن غايتنا من هذه الشمائل ومعرفتها أمران أساسيان:
الأول: معرفة مقامه وقدره وعظمة مكانته -عليه الصلاة والسلام-.
الثاني: الاجتهاد في الاقتداء به والتأسي بسنته -عليه الصلاة والسلام-.
وذلك التعظيم والإجلال هو الذي يقوي العزم على الاقتداء والامتثال؛ لأنه إذا ظهر لنا ذلك القدر الرفيع، والمكانة العلية, والإكرام والإجلال الرباني لشخص رسول الله -عليه الصلاة والسلام- مع بيان كمال بشريته، فإن ذلك يجعلنا متهيئين أعظم التهيؤ لكي ننطلق بحماسة وقناعة نحو ما نتوجه إليه من الاقتداء والتأسي به -عليه الصلاة والسلام-.
وها نحن نذكر وجوها من تعظيمه وإكرامه في القرآن الكريم، وإنما هي وجوه وغيرها مما قد لا نذكره كثير أيضا.
الوجه الأول: المدح والثناء وذكر محاسنه عليه الصلاة والسلام:
وذلك بيّنٌ في كثير من الآيات التي من الله بها على الخلق جميعا، وعلى أمة الإسلام خصوصا باصطفائه وبعثته ونبوته -عليه الصلاة والسلام- كما قال -جل وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128).
وهذه الآية فيها جملة من محاسنه التي مُدح بها، وذكرها الله -سبحانه وتعالى- في سياق الثناء عليه، عليه الصلاة والسلام، فهو في هذا السياق كما ذكر القاضي عياض -رحمه الله- نقلا عن بعض أهل العلم: أنه بعث فيهم رسولا من أنفسهم يعرفونه ويتحققون مكانه، ويعلمون صدقه وأمانته، فلا يتهمونه بالكذب، وترك النصيحة لهم؛ لكونه منهم، وأنه لم تكن في العرب قبيلة إلا ولها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولادة أو قرابة، وهذا كله مما ذكره الله في سياق المن على البشر بما امتدح به رسوله -عليه الصلاة والسلام- من هذه المحاسن والخلال، والآيات في هذا كثيرة.
ومثلها قول الله -سبحانه وتعالى-: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (آل عمران:164).
فذلك بيان أيضا لمحاسنه التي أثنى الله بها عليه، من كونه يتلو كتاب الله ويبلغه، ويزكي النفوس ويطهرها، ويعلم العقول ويرشدها، وجاء بالسنة وهي الحكمة، والشارحة لكتاب الله -عز وجل- فشفى الصدور، وهدى العقول، وطمأن القلوب، وهذّب الأخلاق بما جاء به من بلاغ وبيان عن الله - عز وجل-وذلك قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة:2). ومثل قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة:151).
فهذه مآثر ومناقب ومحامد ومحاسن يعددها الله -عز وجل- في سياق مدح رسوله والثناء عليه، وبيان منته -سبحانه وتعالى- على خلقه ببعثة المصطفى - عليه الصلاة والسلام-.
ومن ذلك أيضا ما ذكره ابن عباس- رضي الله عنه- حسب ما ورد عنه في تفسير قوله -جل وعلا-: { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (الشعراء:219).
قال: فيها من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبيا، قال السيوطي: أخرجه ابن سعد والبزار وأبو نعيم في الدلائل بسند صحيح، وكذلك ذكره ابن كثير في تفسيره وعزاه إلى البزار وابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية: أنه -عليه الصلاة والسلام -خرج من أصلاب الأنبياء نبيا في إثر نبي حتى خرج وولد واصطفاه الله، وبعثه نبيا.
ومن سياق ذلك أيضا ما هو معلوم فيما امتن الله به على الخلق أجمعين، في قوله -جل وعلا-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107).
ومن اللطائف ما ورد عنه -عليه الصلاة والسلام- فيما هو مروي بسند صحيح عند الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وكذا عند البزار وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم) . وعنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا) يعني: مقدما لأمته يشفع لهم، ولا يكون عذابهم وهو شاهد كما عذبت الأمم السابقة عقوبة لها على ما خالفت من أمر ربها، وعصت من هدي رسلها، فأغرق قوم نوح بمشهده، وخسف بمن خسف، ورجفت الأرض بمن رجفت، وذلك في مشهد الأنبياء، فكان موته قبل حصول كثير مما وقع لأمته من بعده خيرا لهم، كما كانت بعثته خيرا لهم، وقيل لجميع الخلق فهو للمؤمن رحمة بالهداية، ورحمة حتى للمنافقين بالأمان من القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب وعدم تعجيله، فكل بعثته رحمة، وذلك من مآثر محاسنه التي أثنى بها الله - سبحانه وتعالى- عليه، ورفع من شأنه، ومما مدحه به -سبحانه وتعالى-.
الوجه الثاني: العناية الإلهية والرعاية الربانية التي امتن الله بها على رسوله عليه الصلاة والسلام:
وإذا كانت هناك رعاية وإكرام، فلا تكون من الله إلا لمن هو في أعظم المراتب وأرفع المنازل، فلما كان أعظم إكرام وأشمل رعاية، وأجل عطف ورحمة جعلت لرسول الله -عليه الصلاة والسلام- كان ذلك شاهدا على علو قدره ورفعة مكانته.
ومن ذلك ما ورد في سورة الشرح: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ* فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}
فهذه جملة من صور العناية والرعاية الإلهية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليست في سياق المن عليه، ولكنها في سياق الإكرام له، لأن الله -كما قلنا- إذا جعل عنايته ورعايته لأحد من خلقه، فليس ذلك إلا لكرامة هذا المخلوق، فإذا جعلت العناية الكاملة التامة والرعاية الكاملة الوافرة للمصطفى - عليه الصلاة والسلام- فهي لعظيم قدره كما أشرنا، قال في سياق هذه الآيات: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشرح:1).
قال ابن عباس: شرحه بالإسلام، وقال غيره: بنور الرسالة، والمراد بالصدر هنا : القلب، وقيل معناه: ألم نطهر قلبك حتى لا يؤذيك الوسواس.
وقد ورد في خصائصه -عليه الصلاة والسلام- كما هو معلوم- سلامته من وسوسة الشيطان: فقد ورد عنه أنه قال (ما من إنسان إلا وقد وكل به شيطانه من الجن، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: نعم، إلا أن الله أعانني عليه فأسلمَ "وفي رواية فأسلمُ بالضم"، فلا يأمرني إلا بخير).
{وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} (الشرح:2، 3).
قيل: ما سلف من ذنبك قبل النبوة، وقيل: أراد ثقل أيام الجاهلية، وقيل: أراد ثقل ما حمَّله الله -عز وجل- من هذه الرسالة حتى يبلغها، وقيل: عصمناك ولولا ذلك لأثقلت الذنوب ظهرك.
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح:4).
وهذا من أجلِّ ما امتُدح به وأُظهرت به كرامته ومكانته -عليه الصلاة والسلام- وقال أهل العلم في ذلك: رفعنا لك ذكرك أي إذا ذُكر الله ذُكر معه رسوله - صلى الله عليه وسلم- فيما هو أول أركان الإسلام، وأعظم دلائل الإيمان: في الشهادة "شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وقد جعل ذلك كذلك في العبادات، وفيما شرعه الله -عز وجل- من الأذان، وفيما ذكر كذلك من الصلاة على رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في أثناء الصلاة.
قال القاضي عياض في بيان هذا المقام الرفيع، قال: هذا تقرير من الله -جل اسمه- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، دل على عظيم نعمه لديه، وشريف منزلته عنده، وكرامته عليه، بأن شرح قلبه للإيمان والهداية، ووسعه لوعي العلم وحمل الحكمة، ورفع عنه ثقل أمور الجاهلية عليه، وبغّضه لسيرها وما كانت عليه، بظهور دينه على الدين كله، وحط عنه عهدة أعباء الرسالة والنبوة لتبليغه للناس ما نزل إليهم، وتنويهه لعظيم مكانه وجليل رتبته ورفعة ذكره ، وقرانه اسمه مع اسم الله -عز وجل- .
قال قتادة فيما ذكره بعض أهل التفسير: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ومن هذا الذكر أنه قرن طاعتَه بطاعتِه، كما في قوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: من الآية 80). {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (المائدة: من الآية 92).
كما قرن أمر الإيمان به، بالإيمان برسوله، كما في قوله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (النساء: من الآية 136).
وكما هو في سياق كثير من الآيات التي ربط بها ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ذكر الله، ولكن رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - الذي يعظم ربه ويعرف قدر خالقه ومولاه، والذي يريد لأمته أن تفرق بين مقام الألوهية وعظمتها، ومقام العبودية وبشريتها، مع هذا المقام الرفيع الذي جعله الله له، إلا أنه كان يحذر ويعلم الأمة ألا تخلط وألا تقع فيما وقعت فيه أمم سابقة، كما ألّهوا عيسى بن مريم- عليه السلام -، أو كما جعلوه ابناً لله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وقد ورد عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في حديث حذيفة عنه -: (لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ما شاء الله ثم شاء فلان) ولما جاءه الرجل فقال: ما شاء الله وشئت قال: أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله ثم شئت).
فإذا جاء الأمر في سياق الفعل ونسبة العظمة فيما هو مختص بالله وجب التفريق، ووجب هذا التعقيب المتراخي الذي يفرق بين هذا وهذا.
ومنه كذلك الحديث الصحيح الذي ورد عند مسلم وغيره (أن خطيبا خطب عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فقال -عليه الصلاة والسلام-: بئس خطيب القوم أنت قم أو قال: اذهب) قال الخطابي: ذلك كراهة منه جمعه بين الاثنين بحرف الكناية لما قال: ومن يعصهما، لكن لو قال: ومن يعص الله ورسوله لكان ذلك هو المراعي للأدب والتعظيم والإجلال اللازم لله عز وجل مع حفظ أيضا مكان ومقام رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
وهذه هي عظمة ديننا نعرف قدر رسولنا -عليه الصلاة والسلام-، ونوقره ونجله ونعرف فضله، ونذكر ما أكرمه الله -عز وجل- به ، ونتأدب مع الله -سبحانه وتعالى- ونتعلم من رسولنا -عليه الصلاة والسلام- فلا نخلط بين العبودية والألوهية، ولا نخلط بين البشرية والربانية، بل ديننا العظيم وتوحيدنا الخالص يجعل الأمور في نصابها.
ومن كمال هدي رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ورحمته بأمته ورعايته لها تحذيرها مما سبق أن وقعت فيه من سبقها من الأمم من الأخطاء وخاصة في باب التوحيد.
وقد أسلفنا شيئا من ذلك فيما مضى عندما ذكرنا بعض وجوه تكريمه وإقراره وتنبيهه -عليه الصلاة والسلام- بما خصه الله من فضل مع تواضعه وقوله: (لا تفضلوني على يونس بن متَّى) وقوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر).
وغير ذلك مما ورد عنه -عليه الصلاة والسلام-، ومن هذا الاقتران في رفع ذكره قول الله -عز وجل-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: من الآية31).
ومن ذلك وجوه كثيرة في الطاعة، وأيضاً حتى مقابلة المعصية كما قال الله -عز وجل-: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَه} (النساء: من الآية14). وكما هو في آيات كثيرة أوجزنا بعضنها.
الوجه الثالث: اللطف به والإكرام له عليه الصلاة والسلام:
وذلك أن الله -جل وعلا- عندما جاء في سياق التوجيه والإرشاد والبيان لرسول الله -عليه الصلاة والسلام- جاء به على أكمل وجوه اللطف والبر والمودة مع الإكرام لرسول الله - عليه الصلاة والسلام- وذلك من جنس قول الله جل وعلا: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُم} (التوبة: من الآية43).
وتأمل كيف تلطف الله -عز وجل- برسوله، وكيف كان بره به، وكيف كانت مودته له، وإكرامه له يوم قدم عفوه قبل أن يكون ذلك الذي يعد تجوزاً من باب العتاب، لأن بعض أهل العلم قالوا: ليس في هذا عتاب، لأنك إن قلت لرجل: أعزك الله وأصلحك الله ليتك فعلت كذا، فليس يقال في مثل هذا إنه عتاب.
ولذلك سئل أحد الأعراب: عن مكارم الأخلاق فقال: منها الصفح بلا عتب، لأن بعض الناس يقول عفوت عنك، ولكنك فعلت كذا وكذا، نعم سامحتك ولكن قولك كذا وكذا ما كان ينبغي، إذاً ما فائدة هذا الصفح بعد أن تعيد الكرة مرة أخرى، وتذكّر بالذنب، وتفصل في القول، فالله -جل وعلا- أكرم رسوله بذلك، وفيه تعليم للأمة كما سننقل من كلام عياض -رحمه الله- .
وقال عون بن عبد الله في هذه الآية: أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب.
وقال القاضي عياض: في هذا من عظم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب.
وقال أيضا: يجب على المسلم المجاهد نفسه، الرائض بزمام الشريعة خلقه أن يتأدب بأدب القرآن في قوله وفعله ومعاطاته ومحاوراته، فهو أي القرآن عنصر المعارف الحقيقية، وروضة الآداب الدينية والدنيوية، وليتأمل هذه الملاطفة العجيبة في السؤال من رب الأرباب، المنعم على الكل، المستغني عن الجميع، ويستنثر ما فيها من الفوائد، وكيف ابتدأ بالإكرام قبل العتب، وأنس بالعفو قبل بدء الذنب إن كان ثم ذنب.
وهذا تأديب لنا كثيرا ما نجرح الناس ونذكرهم بأخطائهم، ونعيد عليهم سالف أقوالهم، ونكرر ما وقع من غفلتهم، حتى كأننا نمن عليهم بما قد يكون من عفونا إن كان ثم عفو، لذلك لابد من تعلم هذا الأدب العظيم الرباني في حسن هذه المعاملة واللطف.
ومن هذا الباب آيات كثيرة في كتاب الله في حق رسولنا -عليه الصلاة والسلام-، كما في قول الحق -جل وعلا-: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33).
كان عظيما وشاقا على نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- الطاهرة الشفافة أن يظن به الكذب، فأخبره الله - عز وجل- بأنهم لا يكذبونه ولكن إعراضهم لأمر آخر، فقد أقروا بصدقه، واعترفوا بأمانته، وقد ورد في هذه السورة: أن أبا جهل قال للرسول -عليه الصلاة والسلام-: إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله - عز وجل- هذه الآية.
وقال القاضي عياض في هذه الآية منزع لطيف المأخذ من تسليته تعالى لرسوله -عليه الصلاة والسلام - وإلطافه به في القول بأن قرر عنده أنه صادق عندهم وإنهم غير مكذبين له، معترفين بصدقه قولا واعتقادا، وقد كانوا يسمونه قبل النبوة بالأمين، ومن هذا وجوه كثيرة في آيات القرآن الكريم يضيق المقام عن حصرها.
الوجه الرابع: تقديمه وتوقيره عليه الصلاة والسلام:
أما تقديمه فقد قدمه الله -سبحانه وتعالى- على سائر من ذكر من الرسل والأنبياء، كما في قوله -جل وعلا-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (الأحزاب:7).
فقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-على أولي العزم من الرسل، الذين هم خيرة الله -سبحانه وتعالى- من خلقه، وقال -جل وعلا- أيضا: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} (النساء:163).
فكان تقديم رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وهذا مطَّرد في القرآن، إذا ذكر مع غيره من الأنبياء فهو المقدم والمذكور أولاً .
وكذلك في القرآن توقير له، فإنه لم يذكر في النداء باسمه عليه الصلاة والسلام كما ذكر سائر الرسل والأنبياء، ففي القرآن: {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ} (هود: من الآية 48).
وفي القرآن: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (البقرة: من الآية 35).
وفي القرآن نداء: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} (القصص: من الآية30).
وفي القرآن: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} (الصافات: من الآية: 104، 105).
وليس في القرآن: يا محمد، بل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (المائدة: من الآية 67).
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} (المائدة: من الآية 41).
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} (لأنفال: من الآية 64).
وغير ذلك من النداءات التي ذكرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوصف النبوة والرسالة؛ توقيرا وبيانا لمكانه ومقامه -عليه الصلاة والسلام-.
الوجه الخامس: تعظيمه وإجلاله:
ذاك في التوقير والتقديم وهذا في التعظيم والإجلال، ومن ذلك القسم بعمره وبحياته -عليه الصلاة والسلام-، كما في قوله -جل وعلا-: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر:72).
وفي ذلك ما ذكره أهل التفسير، وما ورد أيضا عند السيوطي كما ذكره في الدر المنثور وعزاه قال: إن الله لم يحلف بمثل هذا القسم واليمين إلا في حق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك القسم له، يعني أقسم الله -سبحانه وتعالى- بأقسام، لبيان ما لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المكانة، كما في قوله: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (الضحى:1،2).
ما المقسم به؟ لأي غرض ذلك القسم؟ لخطاب النبي -عليه الصلاة والسلام-، فيما ذب الله به عنه وامتدحه به في قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } (الضحى:3، 4، 5 ).
وهكذا فيما هو من سياق هذه الأنواع من القسم، كقوله: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } (القلم:1، 2، 3).
وغير ذلك من مواطن الأقسام التي كان فيها: إقسام الله بما شاء من خلقه، وبعد ذلك يكون ذكر شيء مما يتصل برسوله -عليه الصلاة والسلام-، وقد ذكر ذلك في وجوه عدة القاضي عياض -رحمه الله،- ومما قاله: القسم له عما أخبر به من حاله، في قوله: {والضحى} قال: وهذا من أعظم درجات المبرة.
الوجه السادس: الشفقة عليه والرحمة به عليه الصلاة والسلام:
وذلك فيما جاء من تخفيف الله -عز وجل- عنه، وفيما جاء مما أكرمه الله -سبحانه وتعالى- به، من التسلية له، والتخفيف عما كان يحمله من العبء والهم لهذا الدين، ولقيامه بأمر الله -سبحانه وتعالى -، وذلك من شدة عظمة تعبده وحمله لأمانة ربه، وتبليغه لدين مولاه - سبحانه وتعالى-.
وفي هذا آيات كثيرة، منها قوله -جل وعلا-: { طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } (طـه:1، 2).
وقد ذكر بعض أهل التفسير: أن النبي -عليه الصلاة والسلام -كان يقوم بها الليل كله، حتى جاء التخفيف من الله -عز وجل- وهذا من شفقته ورحمته به.
وكذلك في قول الله -جل وعلا-: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3).
وباخع نفسك: أي مهلكها ومعاتب لها في أمر ليس من شأنك، أنهم لم يؤمنوا، ولكن لحرصه -عليه الصلاة والسلام- ورغبته في هداية الخلق، يبذل ما يبذل ثم يكون في نفسه حزن وهم على أولئك الذين ذلوا وأعرضوا فلم يستجيبوا للهدى والحق، قال الله -جل وعلا-: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3).
ثم قال من بعد: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (الشعراء:4).
وفي قوله جل وعلا: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الحجر:94، 95، 96).
وأيضا في قول الله -عز وجل-: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأنعام:10).
وكل ذلك فيما يتصل بالشفقة على رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام-، والتخفيف عنه والرحمة به.
الوجه السابع: التأييد والحفظ له:
تأييد الله له وحفظه وعصمته، كما قال الله -عز وجل-: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} (المائدة: من الآية 67).
وفي تفسير هذه الآية: أن النبي -عليه الصلاة والسلام -كان يحرس، وكان له حرس يتناوبون ويحرسونه؛ لأن الخطر كان يحدق بالرسول-عليه الصلاة والسلام- من الأعداء، فلما نزلت هذه الآية لم يعد يحرس، وصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من كان يحرسه من الصحابة؛ لأن الله تكفل بحفظه، فقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} (المائدة: من الآية 67).
وكذلك في مثل هذا الباب، يرد قول الله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (لأنفال:30).
أي يبطل مكرهم وكيدهم، وقد تحقق ذلك في السيرة في مواقف شتى كثيرة كما هو في يوم الهجرة، وفي قصة الرجل الذي أخذ السيف واخترطه، قال: من يمنعني منك يا محمد؟ وفي غيرها من المواطن الكثيرة التي عُصم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وفي ذلك أيضا النصر والتأييد له كما في قول الحق جل وعلا: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: من الآية 40).
تكفل الله بنصره وإن خذله كل الخلق والناس أجمعين، وكذلك قوله عز وجل -وهذا من أعظم هذا الباب وأجله-: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (الكوثر:3).
أي: مبغضك والحاقد عليك هو الأبتر أي: الذي يقطع نسله ولا يدوم ذكره، وهذا مما تكفل الله به لرسوله -عليه الصلاة والسلام-.
الوجه الثامن: كونه الأولى بالأمم من أنبيائهم، وبأمته من آبائهم وأمهاتهم:
وهو أولى بالأمم من أنبيائهم، وأولى بأمته من آبائهم وأمهاتهم كما ورد ذلك في الآيات والأحاديث، في قول الله -عز وجل-: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} (آل عمران: من الآية 67).
وأظهر منه قوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (آل عمران: من الآية 68).
هو أولى به من قومه وأتباعه، وورد ذلك في أحاديث المصطفى -عليه الصلاة والسلام -كما عند البخاري: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة).
وكما ورد أيضا ًعنه لما جاء إلى المدينة، وكان اليهود يصومون عاشوراء، فسأل عن ذلك فقالوا: يوم نجا الله فيه موسى قال: (أنا أولى بموسى منهم).
فهو أولى بالأنبياء من أقوامهم، وكذلك هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجهم وأمهاتهم كما قال الله -عز وجل-: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم} (الأحزاب: من الآية6).
وكما قال -سبحانه وتعالى-: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} (الأحزاب: من الآية53).
وكما قال -عليه الصلاة والسلام-: (ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (الأحزاب: من الآية6). والحديث عند البخاري ومسلم في الصحيحين.
وفي رواية أبي هريرة (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وهي كذلك عند البخاري ومسلم في الصحيحين.
وهذه جملة من هذه الوجوه في تعظيم قدر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولنا عود إلى تمام هذا الباب في آيات جامعة نذكرها الآن، ونعود إليها إن شاء الله.
ما ورد في سورة النجم وفي مطلعها من ذكر حفظ جوارحه وكمال بشريته -عليه الصلاة والسلام- وما ورد في مقدمة سورة الفتح من خصال كثيرة في الثناء والاختصاص والاصطفاء، وما ورد في الإسراء والمعراج -عليه الصلاة والسلام- وذلك مقام آخر نرجع إليه إن شاء الله.
ولعلنا ندرك من هذا ما امتن الله به على رسوله -عليه الصلاة والسلام- وما أكرمه به وما أجله به من هذه الخصال العظيمة.
ساحة النقاش