الدرس الثاني : اصطفاؤه واختصاصه صلى الله عليه وسلم
كتب: د. علي بن عمر بادحدح19 فبراير, 2012 - 27 ربيع الأول 1433هـ
المدخل الأول : في الاصطفاء والاختصاص:
سبق لنا في الدرس الذي مضى أن ذكرنا مقدمات في معنى الشمائل وفوائدها ومضمونها، وغير ذلك من ذكر بعض كتبها، وثمة حاجة إلى هذه المداخل التي تعتبر عند العلماء من المقدمات والممهدات المدرجة ضمن ما يتصل بعلم شمائل النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا المدخل الأول في اصطفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- واختصاصه بأمور وخصائص عن بقية الأنبياء، والاصطفاء والاختصاص مهم بالنسبة للشمائل وجزء منها؛ لأنه إظهار للفضل والعظمة والمزية التي اختص بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا ذكرنا بعد ذلك أخلاقه وشمائله عرفنا أنها ترجع إلى أصل عظيم، وأن هناك ما هو كالتعليل لها، والبيان لأهمية ما سبقها في هذا الاصطفاء الرباني لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- ، وما اقتضته حكمة الله -جل وعلا- بجعله خاتما للرسل والأنبياء، وما اقتضاه ذلك من كمال صفاته وخلاله، وهذا الاصطفاء مذكور في نصوص كثيرة، وأحاديث عديدة نقف مع بعضها؛ لنرى هذه الوجوه العظيمة من اصطفائه -صلى الله عليه وسلم-.
ومن ذلك: حديث واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) رواه مسلم.
الاصطفاء: هو الانتقاء المبني على التفضيل، وانتقاء ما هو أكمل وأفضل.
وهنا أخبر -عليه الصلاة والسلام- أن الحق -جل وعلا- اصطفى من بني إسماعيل أي: من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، الذي يرجع إليه نسب نبينا - صلى الله عليه وسلم-، اصطفى كنانة وهي بطن كبير من بطون العرب، ثم قال واصطفى من كنانة قريشا، وكان اصطفاء بني هاشم من قريش، ثم كان اصطفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم.
في بعض روايات هذا الحديث: (فأنا خيار من خيار من خيار).
وهذا لاشك أنه بيان لعظمة هذا الاصطفاء، ونحن نعلم أن الإنسان ينتقي الأفضل، ثم إذا وجد فرصة أو كانت عنده قدرة جعل لهذا الأفضل أيضا بحثا يختار منه أفضل منه، فيكون حينئذ الاختيار في آخر الأمر، هو الخلاصة التي تجمع المحاسن كلها، ويكون قد اجتمع فيها من وجوه الكمال وصفات الجلال ومناحي الفضل ما لا يكون في غيرها، بل يكون قد اجتمع فيها ما تفرق في سائرها.
وهذا أيضا يدل عليه الحديث الآخر من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه-: عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى بعثت من القرن الذي كنت منه) رواه البخاري في صحيحه.
وهذا يدل على أن نسب النبي - صلى الله عليه وسلم- ومن تحدر منه الرجال والبطون والقبائل كان فيه وجه من وجوه الاصطفاء بالمقارنة؛ لأن البعض قد يقول: كيف يكون اصطفاء، وربما كان في هذه القبيلة من ليسوا مسلمين، وليسوا ذوي خلق فاضل؟.
نقول: المقصود بالاصطفاء هو المقارنة، فإن كان عندك على سبيل المثال كمية من الطعام ليس عندك غيرها، فأنت تختار منها أجودها أو أفضل أنواعها الموجودة، وقد يكون هذا كله من النوع المتوسط أو الرديء فتختار أحسن الموجود، لا يعني ذلك أن كل ما فيه يكون حسنا، لكنه بالمقارنة بغيره يكون حسنا ، وهكذا أخبر - عليه الصلاة والسلام- أنه في كل تلك المراحل كان اختياره قرنا فقرنا، حتى تم اختياره في القرن الذي خرج فيه -صلى الله عليه وسلم-.
وربما يتضح المعنى أكثر في الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (مثلي ومثل الأنبياء "أي: من قبلي" كمثل قصر أحسن بنيانه، ترك منه موضع لبنة "أي: موضع لبنة هي جزء البناء الذي يقام به البناء مثل الطوب أو البلوك الذي نعرفه الآن" فطاف به النظار "أي الزوار الناظرون" يتعجبون من حسن بنيانه، إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون سواها، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
هذا الحديث بيّن المزية في الاصطفاء الذي يعد كمالا لذلك الكمال الذي كان عليه الرسل والأنبياء، فالأنبياء صفوة خلق الله - عز وجل- كما أخبر -سبحانه وتعالى- بقوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} (الحج: من الآية 75) ، كما بين الحق - جل وعلا- فقال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: من الآية 124).
وهم صفوة الخلق فإذا كمل كمالهم وزاد فضلهم، وعظم كمال النعمة بهم وختموا بخاتمهم، فلاشك أنه يكون قد حاز في معنى الاصطفاء الذي كان في الرسل والأنبياء الرتبة العليا والمكانة العظمى.
وهذا المثل الذي يضربه - عليه الصلاة والسلام- بيّن أنه هو كمال الكمال، فهذا بناء كامل حسن، لكن فيه نقص، فكان وجوده وبعثه ونبوته - عليه الصلاة والسلام- هو إكمال ذلك الكمال، فكان هذا بيانا واضحا وشافيا لهذا الاصطفاء لرسولنا - عليه الصلاة والسلام-.
وحديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - يزيدنا في هذه المعاني، وهو عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمجندل في طينته، وسأحدثكم بأول أمري، دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني، وقد خرج لها نور أضاء لها منه قصور الشام).
هذا الحديث أوله تقرير لأمر مما نؤمن به من القضاء والقدر، فنحن نؤمن بأن الله - سبحانه وتعالى - خلق الخلق، وكان أول ما خلق: القلم، فأمره بالكتابة، فكتب كل ما هو كائن إلى قيام الساعة، ومن إيماننا بالقضاء والقدر، أن الله علم ما هو كائن، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأنه كتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل خلق الخلق أجمعين، بل قبل خلق السماوات والأرضين، وهذا مما كتبه الله - عز وجل- أي: أنه سيكون في خلقه وعباده في زمان وأوان ومكان بعينه خاتم أنبيائه ورسله - صلى الله عليه وسلم- محمد بن عبد الله.
ولذلك هذا مكتوب عند الله في الأزل قبل خلق الخلق، وآدم مجندل في طينته أي: قبل خلق آدم - عليه السلام-.
ثم قال: (أخبركم بأول أمري دعوة إبراهيم عليه السلام). والمقصود بذلك دعوة إبراهيم التي ذكرها الله - عز وجل- لنا في القرآن: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } (البقرة: من الآية129).
فهذه الدعوة التي دعا بها إبراهيم تحققت في نبينا -صلى الله عليه وسلم -وبشرى أخيه عيسى - عليه السلام - عندما قال كما جاء في القرآن: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: من الآية6).
ورؤيا أمي، وأثبت ذلك - عليه الصلاة والسلام- حيث قال: أن أمه رأت وهي حامل به كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وهذا هو الحدث الثابت في شأن ما رأت أم النبي - عليه الصلاة والسلام- في شأن ولادته.
ورويت هناك روايات أخرى في شأن ما احتف بمولده من أن بحيرة ساوى غاض ماؤها، أو أن إيوان كسرى كسرت منه أربع عشرة شرفة، أو أن نار المجوس أطفئت، وكل ذلك قد ورد بروايات لا تثبت، بل قد قال ابن كثير: هذا حديث لا يثبت، وليس له أصل مروي بسند وقفتُ عليه.
هذا أيضا بيان بأن النبي - عليه الصلاة والسلام -كان في قدر الله له اصطفاء، وقد ذكره النبيون من قبل، وأوصوا أقوامهم إذا ظهر في زمانهم أن يؤمنوا به، وأن يصدقوه، وأن ينصروه ويؤازروه، وقد نطقت بذلك آيات القرآن الكريم: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} (الأحزاب: الآية7).
وأيضا فيما بينه الله - سبحانه وتعالى - في أخذ الميثاق على النبيين ليؤمنن برسول الله -عليه الصلاة والسلام، وليصدقنه.
بل قد وردت صفات أصحابه رضوان الله عليهم في بعض ما ورد في التوراة وفي الإنجيل، كما ذكرت آيات القرآن عن هذا المعنى، وذلك أيضا تنويه بمقامه وقدره، وبيان لعظمة مكانه واصطفاء الله - سبحانه وتعالى - له.
وثمة أيضا حديث يضاف إلى هذا الباب، وذكره بعض العلماء، فيه كما ذكره البغوي في "الأنوار في شمائل النبي المختار" وإن كان ظاهره قد لا يرى أنه من هذا الباب، لكن فيه حكمة لطيفة في إلحاقه بهذا الباب، وهو حديث جابر -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني بتمام محاسن الأخلاق وكمال محاسن الأفعال).
والحديث مروي بألفاظ شتى، وطرق عديدة في مجملها صحيحة، وفي بعض أسانيدها أسانيد حسنة فقد أخرجه البغوي في شرح السنة، وكذلك أخرجه الإمام أحمد، ومالك في موطئه، والحاكم في مستدركه وصححه، وقال: إنه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وله ألفاظ كثيرة منها اللفظ المشهور: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
والوجه الذي ألحق به هذا الحديث في أبواب الاصطفاء والاختصاص، هو أنه على سبيل التكميل والتتميم، فكأنه -عليه الصلاة والسلام- اصطفاه الله واختاره وجعله في هذا الزمان خاتم الأنبياء والمرسلين؛ ليكون متمما لمكارم الأخلاق.
كما كان في ذلك المثل متمما للبناء، فهذا تتميم جعله الله - عز وجل - لرسوله فكأن حكمته -جل وعلا- اقتضت أن يكون في الرسالات والنبوات كمال يناسب زمانها ومكانها، ولكن الكمال الذي أراده الله -عز وجل- بما يبقى أثره ونفعه، ودوامه وصلاحه إلى قيام الساعة جاء في رسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك عندما يقول: (لأتمم مكارم الأخلاق) أو محاسن الأخلاق فكأن هناك أمرا اقتضت حكمة الله أن يكون كماله على يد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وفي بعثته ونبوته، وهذه كلها من وجوه الاصطفاء والاختصاص لرسولنا صلى الله عليه وسلم.
ولكي يتضح الأمر أيضا نذكر جملة أخرى من الأحاديث فيما يتصل بهذا المعنى، ومنها حديث مهم بعض ألفاظه مشهورة يتداولها كثير من الناس وهو مروي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر ،وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة).
هذه خصيصة فيها مزية، ووجه من وجوه الاصطفاء؛ لأن كل شيء اختص به النبي - عليه الصلاة والسلام- دليل على أنه اصطفي لهذا الأمر وخُص به.
هذا الحديث يقول: (ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي ما على مثله آمن البشر). يعني أعطي من الآيات ما على مثله آمن البشر أعطاهم الله - عز وجل- معجزات وآيات كانت من الأسباب التي أعانت على إيمان الناس، ويسرت لمن شاء الله له الهداية الإيمان، لكن هذه المعجزات للرسل والأنبياء - عليهم السلام - كانت مؤقتة بزمانها، ومنتهية بما جرى على يد ذلك الرسول في وقته، وثبتت أو نفعت من رآها بعينه ومن عايشها في زمانه، وبعد ذلك لم يكن لها الأثر إلا ما يؤمن به المؤمنون من وقوعها، ومن إثباتها لنبوة الأنبياء.
ومن حكمة الله كما نعلم أن هذه المعجزات كانت تتناسب مع ما كان مشتهرا في بيئات الرسل والأنبياء.
على سبيل المثال: موسى -عليه السلام- كان مشتهراً في بيئته وقومه تعاطي السحر، كما نعرف في قصة سحرة فرعون وغيرهم، فجاءت بعض معجزاته أو أشهر معجزاته ليست سحرا، ولكنها من جنس ذلك النوع الذي يشابهه، ولكن أهل الصنعة يعرفون أنه ليس من هذا القبيل، بل هو أمر يخرج عنه، ولا يطيقه أرباب تلك الصنعة مطلقا.
فجاءهم بعصا تنقلب إلى حية تسعى، لكن ليست من جنس سحرهم الذي هو خيال وأوهام، ولذلك لما ألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، علموا أن هذا ليس من جنس سحرهم، وأدركوا أنها معجزة خارقة، لا يمكن أن يأتي بها بشر؛ لأنه لو كان بإمكان أحد أن يصنع ذلك لكانوا هم أولى الناس به، فهم أعلم الناس بالسحر، وأقدرهم عليه، وأكثرهم ممارسة له، وأعرفهم بجميع جوانبه وصوره فلما رأوا ذلك عرفوا أنه خارج عنهم.
وفي زمن عيسى - عليه السلام - كان اشتهار قومه بالطب وعلاج الأمراض فجاءت معجزته خارقة لهذا، ومن جنسه إلى حد ما، فكان يبرئ الأكمه والأبرص، بل وأحيا الموتى بإذن الله - عز وجل- فعلموا كذلك أن هذه معجزة لكنها انتهت في زمانها، فليس عندنا اليوم شيء يدل عليها.
قال - عليه الصلاة والسلام - فيما اختص به: (وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي). أي: معجزته الكبرى ليست معجزة حسية موقوتة بزمانها وبفئة من الناس عاصروها وشهدوها، بل كان هو الوحي والقرآن الذي تكفل الله بحفظه إلى قيام الساعة.
القرآن المعجز في كل جانب من جوانبه، معجز بألفاظه ومعانيه، وبيانه وبلاغته، ومعجز في أحكامه وتشريعاته، ومعجز في خطابه للعقل وإيقاظه للروح، ومعجز في حقائق العلم التي تضمنتها آيات القرآن إشارة واضحة جلية أو عامة مجملة، ثم صدقتها من بعد قرون تلك الحقائق العلمية .
كما أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام- في وصف القرآن أنه معجزة خالدة إلى يوم القيامة. ما تزال تُكتشف كثير من وجوه الإعجاز العلمي، يُكتشف كثير من المعاني والتفاسير التي لم يكن يعرفها قوم سبقوا، والقرآن كما أخبر- عليه الصلاة والسلام- لا يبلى على كثرة الرد، وهو المعجزة الخالدة لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومع ذلك هو أيضاً من جنس ما اشتهر به العرب في زمان النبي -عليه الصلاة والسلام- حيث كانوا مشهورين بالفصاحة والبلاغة، والتمكن من الأدب والشعر والنثر، فجاءهم القرآن بأمر وببيان أعظم، وأعجزهم فيه أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، ثم ولو بسورة مثله فعجزوا عن ذلك.
ولابد أيضاً نعرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي أيضا معجزات حسية منها: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (القمر:1).
لكن المعجزة الكبرى التي بقاؤها إلى قيام الساعة هي معجزة القرآن التي جعلت خصيصة للنبي - عليه الصلاة والسلام - تتناسب مع كونه خاتم الأنبياء والمرسلين، ومع حكمة الله الذي أراد أن تكون هذه الديانة والرسالة خاتمة الرسالات، وأيضاً أن يكون المصطفى لها هو خير خلقه، وخاتم رسله - عليه الصلاة والسلام -.
ومن هنا أيضا نذكر الاختصاص الذي اختص به على الرسل والأنبياء من قبله، فإذا كان له خصائص تميزه عن غيره من الرسل فلا شك أنه اصطفاء من اصطفاء، فهو في الرتبة العليا في ذلك.
وفي هذا الحديث المشهور من رواية جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) والحديث في الصحيحين وغيرهما.
فهذه خصائص تدل على عظمة منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم- وتميزه في هذه المعاني عن كثير من الرسل والأنبياء من قبل، وإن كان - عليه الصلاة والسلام - من تواضعه، ومن إجلاله وتقديره، واحترامه للرسل والأنبياء من قبله، ولحسن أدبه كان يقول: (لا تفضلوني على يونس بن متَّى). وإن كان هو - عليه الصلاة والسلام- أفضل .وكان يقول: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر). ولكنه كان يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم).
فكان - عليه الصلاة والسلام - يقر ويثبت ما أثبته الله - عز وجل - له من الخصائص، لكنه على سمت التواضع والإقرار بفضل الله، وذكر فضائل الرسل والأنبياء ،كما ذكر ذلك في أحاديثه الكثيرة - عليه الصلاة والسلام-.
ولعل هذه المعاني المذكورة واضحة في نصره بالرعب مسيرة شهر أي: أن أعداءه يلقي الله في قلوبهم الرعب قبل أن يتحرك إليهم بمسيرة شهر.
وأيضاً أن الأرض جعلت له مسجداً وطهوراً. خصيصة لأمته جعلت له -عليه الصلاة والسلام- فليس بالضرورة أن يصلي الإنسان في المسجد، أو في مكان خاص، كما هو حال من كان من قبل إما في معابد بعينها، أو كنائس أو أحوال معينة، لكن هنا جعلت الأرض كلها مسجداً وطهوراً للمسلم؛ ليصلي ويذكر الله - سبحانه وتعالى - ويعبده.
وأخبر أيضاً بحل الغنائم. وكان فيمن كان قبله كما أخبر - عليه الصلاة والسلام- في أحاديث أخرى صحيحة أن علامة قبول الله عز وجل لجهاد السابقين من الأمم السابقة أن يجمعوا ما حازوه من الغنائم، ويجعلوه في مكان واحد، فإذا قبل الله منهم عملهم وأثبت لهم إخلاصهم، نزلت صاعقة من السماء فأحرقت تلك الغنائم، لكن الله -عز وجل- أحلها لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على التفصيل المعروف.
وأعطي الشفاعة العظمى التي اختص بها - عليه الصلاة والسلام- وسيأتينا حديث عنها: عندما يفزع الخلق في يوم الحشر إلى الرسل والأنبياء واحداً فواحداً حتى ينتهون إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- فيسجد بين يدي الله -عز وجل- ويحمده بمحامد لم يحمده غيره، ولم يحمده هو بها من قبل، ثم يعطى فيقال له: ارفع رأسك وسل تعط ، واشفع تشفع، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: (أنا لها أنا لها) فيشفع في أهل المحشر حتى يقضي الله بينهم.
وعموم رسالته هذه مزية كبرى وخصيصة عظمى، وكل رسول كان لفئة أو لقوم أو لأهل بلد بعينها. والرسالة النبوية المحمدية لكل الخلق أجمعين في سائر أرض الله كلها إلى آخر الزمان وقيام الساعة، ولاشك أنه لا يصطفي لذلك ويختار إلا أشرف وأفضل وأعظم الخلق، ممن اختاره الله -عز وجل- لهذه المهمة العظيمة.
ولعلنا نختم هذه الوجوه التي ذكرناها بحديث أيضاً من الأحاديث التي تبين أنه أوتي جوامع الكلم ، واختص بها - عليه الصلاة والسلام-.
نختم بحديث جامع فيه بعض هذه الخصال التي تكمل لنا هذه الصورة في اصطفائه واختصاصه -عليه الصلاة والسلام-.
هذا الحديث أيضا مروي عن عياض بن حمار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر فيه في كلام طويل نذكر بعضه يقول -عليه الصلاة والسلام-: (إن الله -عز وجل- أمرني أن أعلمكم مما جهلتم مما علمني يومي هذا فقال: إن كل مال نحلته عبادي فهو لهم حلال."أي: أعطيتهم أن الأصل في الأشياء الحل" ثم قال: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. "والحنفاء الحنف أصله الميل، فلماذا سمي إبراهيم حنيفا، وسمي أهل الإسلام حنفاء؟ لأنهم مالوا عن الشرك الذي غلب على الناس إلى التوحيد الذي اختاره الله لهم وتعبدوه به، وأخلصوا دينهم له -سبحانه وتعالى-". فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. "يعني أخرجتهم وفتنتهم، وأبعدتهم عن دينهم، وأدخلتهم في ضروب من ألوان الشرك والكفر بالله والعياذ بالله -عز وجل-" وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله -عز وجل- "وهو موضع الشاهد" نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب) رواه مسلم.
أي في وقت زمان بعثة النبي - عليه الصلاة والسلام - كان الناس والخليقة على أسوأ الأحوال وشرها إلا بقايا من أهل الكتاب، عربهم وعجمهم كانوا في انحراف وشرك وفسق، وبعد عن كل ما يقربهم إلى الله -عز وجل- من معرفته أو توحيده أو إخلاص العبادة له، أو الاستقامة على الفضائل والخصال الحميدة، مقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا أهل الكتاب.
وهذا دلالته أنه -عز وجل- لما أرادت حكمته أن يرحم البشرية، وأن يهديها، وأن يخرجها من الظلمات إلى النور بعث فيهم في ذلك الزمان خير خلقه وخاتم رسله - عليه الصلاة والسلام-.
قال - عليه الصلاة والسلام - فيما قال في هذا الحديث :(إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) أي في دعوته إلى توحيد الله، وما يعانيه، وتكون دعوته أيضا ابتلاء للناس ممن يؤمن به، و من يعرض عنه. (وقد أنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه في المنام واليقظة). وهذا شاهد من شواهد موضوعنا لا يغسله الماء يعني: لا يعتمد في حفظه على الكتابة بحيث إذا زالت زال، بل هو محفوظ في الصدور، وقد أراد الله -عز وجل- أيضا حفظه في السطور.
لكن من مزيته كما ورد في بعض الآثار في وصف أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - أناجيلهم في صدورهم، وهذه مزية لأهل الإسلام، فهم يحفظون القرآن، لكن لو ذهبت إلى النصارى، بل إلى أكبر علمائهم وأشهر قساوستهم تجدهم لا يحفظون شيئا من كتبهم.
ونحن - بحمد الله - صغار أبناء المسلمين يحفظون القرآن عن ظهر قلب لماذا؟ لأنه ورد ما يدل على سهولة حفظ القرآن كما جاء في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر:17).
بل قد قال بعض الشراح في قوله: "تقرؤه في المنام واليقظة" أي: أنه ميسر سهل في كل الأحوال، تستطيع أن تقرأه، وأن تحفظه.
وأخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - بعد ذلك ببعض أحوال أهل الجنة وبعض أحوال أهل النار في هذا الحديث.
جملة القول في هذا المدخل بيان عظمة مكانة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفعة منزلته عند ربه واختصاصه من بين رسل الله - عز وجل- وأنبيائه، والاصطفاء الذي اختاره الله - عز وجل- به ليكون هو الصفوة من الصفوة من الصفوة كما أخبر - عليه الصلاة والسلام-.
فإذا استقر ذلك وعرف، كان للنبي - عليه الصلاة والسلام - في مقام أهل الإيمان والإسلام على وجه الخصوص تعظيم ومكانة وقدر عظيم، وبالتالي يكون لما يتصف به من الشمائل والخصال ارتباط بهذا وطيد، وتأكيد على أنه ثمرة من ثماره وأنه أمر بدهي لمن تم اصطفاؤه واختياره، وهذا مما أكرمنا الله به أن نكون من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن أتباعه.
ولكن الشرف بالانتساب لا يكون بالادعاء، وإنما يكون بصدق الانتماء وبتحرير الولاء، وبالعمل بذلك، والدعاء له حتى نكون أهلا، وننال ذلك الشرف الذي من عظمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن مختصا به، بل كان منه أثر لأمته أيضا، كما قد يرد معنا في بعض خصائص أمة الإسلام.
ومن لطيف ما أختم به كلام للشاطبي - رحمه الله - ذكره في الموافقات، وهو كلام نفيس يقول: (ما من نبي أوتي من المعجزات إلا كان من جنسها آثار هي التي تكون كالكرامات في أصحابه وفي أمته).
ولذلك نرى الاختصاص في هذا الجانب أيضا مرتبط بما كان للنبي - عليه الصلاة والسلام - من هذه المعجزات.
ساحة النقاش