مفارقات بين أصحاب الدعوة والدعاوى
مفارقات بين أصحاب الدعوة والدعاوىكتب: أ.د. صلاح الدين سلطان19 مارس, 2013 - 7 جمادى الأولى 1434هـ
أصحاب الدعوة قوم يبحثون عن أرض صحراء يزرعونها، وأصحاب الدعاوى يبحثون عن أرض خضراء يأكلونها، أصحاب الدعوة قوم فُطروا على حب الله تعالى كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (البقرة: 165) وجلبوا على حب الخير للناس لقوله صلى الله عليه وسلم (خير الناس أنفعهم للناس) (من حديث جابر بن عبدالله، حسنه الألباني)، وأصحاب الدعاوى قست قلوبهم من شدة الغفلة عن ذكر الله لقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 22) وامتلأت قلوبهم حقدًا على الناس كما قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} (آل عمران: 122).
أصحاب الدعوة يبحثون عن طرائق يفتحون بها الأبواب للتوبة والأوبة إلى الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي) (رواه مسلم من حديث جابر بن عبدالله)، وأصحاب الدعاوى قوم يبحثون عن تهم كاذبة يلصقونها بعباد الله عز وجل يلطخون بها سيرة الشرفاء وينالون بها من أعراض الأطهار كما فعل عبدالله بن أبي بن سلول كبير المنافقين مع عائشة رضي الله عنها، حيث أخذ بداية قصة حقيقية وهي أنها تخلفت عن الركب في الغزوة، وكانت تبحث عن عقدها فرآها الصحابي الطاهر الجليل صفوان بن المعطل السلمي فساعدها على اللحاق بالركب، لكن رأس المنافقين ومن معه هو الذي حوَّر القصة إلى علاقة آثمة، وتولى إذاعتها قوم يرددون ما يقوله المنافقون الأدعياء الكاذبون فانتشر الخبر في كل مكان بدون فيس بوك أو تويتر أو إنترنت أو فضائيات وصار الهمس كله عن عائشة وعلاقتها الآثمة، وعن بيت النبوة وما فيه من خلل، وصار الصالحون حيارى بين مردد لما يقال أو متردد ومن يلوغ في أعراض الأطهار الأبرار من الصحابة وآل بيته الطاهرات العفيفات، ووصل الأمر بالنبي صلى الله عليه وسلم أن ذهب يستفهم من السيدة عائشة: إن كنت قد قارفت إثمًا فأخبريني لعلي أستغفر الله لك، فقالت: فبكيت حتى ظننت أن كبدي سينفلق، وهنا لم تجد حيلة عند البشر جميعًا إلا باب السماء، والتضرع لرب العزة، والتبتل بالليل والنهار، وخرجت إلى بيت أهلها، ولنا أن نتصور الأيام والليالي التي لا يشبه نهارها إلا ليلها، فوجاهة أبي بكر وصحبته للنبي صلى الله عليه وسلم تعرضت لدعاوى عريضة في العرض لا المال، والشاعر يقول:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه == لا بارك الله بعد العرض بالمال
المال إن أودى أحتال فأجمعه == ولست للعرض إن أودى بمحتال
وطالت الدعاوى أيامًا طويلة والجولة الإعلامية كلها للمنافقين، وأصحاب الدعوة في وضع لا يحسدون عليه، لكن دعوات السحر، وأنّات الفجر، وآهات المتبتلين، ودعوات المقربين أحالت الليل البهيم إلى نهار ذي نسيم عليل، وجاءت البراءة من السماء بآيات تتلى إلى يوم القيامة لأصحاب الدعوة الأنقياء الأتقياء بيت النبوة وصاحبه في الغار، ورفيقه في النوائب، وساعده في المصائب، سيدنا أبو بكر الصديق، وقالت عائشة: لشأني عند نفسي أقل من أن ينزل الله في قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة، لكن القرآن نزل، وصار حجة قاطعة على كفر من يتهم بيت النبوة وصاحبه أبا بكر بسوء إلى يوم القيامة، ولم يصدر بيان من بيت النبوة يبين قبل نزول الوحي مدى الكذب والافتراء ونذالة وخسة الادعاء، بل كان الشغل الشاغل هو الدعوة وكسب الأنصار والحواريين لدعوة الله تعالى يقينا من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ. أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج: 38-39) أفبعد هذا يجزع أصحاب الدعوة من أصحاب الادعاء؟! أيظن أصحاب الدعوة إلى الله وهم يحملون قلبًا مفعمًا بحب الله تعالى أن الله تاركهم لأعدائهم ينهشون في لحومهم وأعراضهم؟! ألم يقل الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر:36)، ألم يُتّهم سيدنا يوسف ظلمًا وعدوانًا بالاعتداء على امرأة العزيز؟ وقد عرف القصر من داخله أن المرأة هي المتهَمة، ومع ذلك غلب أصحاب الادعاء على أصحاب الدعوة فكان القرار: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} (يوسف: 35) ولم يتكوَّم سيدنا يوسف حول مظلمته ويقاطع من حوله، لأنهم أبناء مجتمع ليس فيه من خير فقد قرروا إدخال العفيف النظيف الشريف السجن، وبقي الظالم حرًا طليقا يفعل ما يشاء ويفخر بسلطانه وصولجانه، ويباهي بماله وهيلمانه، ونسي قوله تعالى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} (المطففين: 4-5) وقوله تعالى عن استغاثة أصحاب الادعاء والفسوق والعصيان والظلم والطغيان: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ. يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ. مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (الحاقة: 25-29) لكن استغاثته المتأخرة إلى الدار الآخرة لم تغن عنه شيئًا بل يأتيه الجواب: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} (الحاقة: 30-32).
على كلٍ عاش صاحب الدعوة سيدنا يوسف يحسن إلى من حوله حتى شهد له صاحباه في السجن: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 78)، وعندما طلبا تفسير رؤياهم أجابهم، ولما تذرع بخيط من الأرض أن يتوسط لحل مشكلته ورفع الظلم عن نفسه من خلال أحد الصاحبين قدر الله أن يقطع كل العلائق ليتأثر ربنا بالنصر الكامل من عنده كله {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} (يوسف: 42)، وقدر الله أن يرى الملك الرؤيا وينشغل المجتمع كله بأحلام الملوك والأمراء لا بمواجع وآلام ومعناة الغلابة والفقراء، فتذكر الصاحب فذهب إليه فبادر صاحب الدعوة بالإحسان لأصحاب الادعاء، فقدم لهم حلًا عمليًا لخمسة عشر عامًا لمشكلة قادمة، ولم يقل لا أقدم كلمة من الحلول لمشاكل بلدي حتى يرجع أصحاب الدعاوى عن غيهم؛ لأنه يعامل ربه الذي يحسن لمن أساء ويرزق الظالمين والفاسقين ويستر عليهم؛ لعلهم يرجعون فإن تمادوا قصم ظهورهم وأذهب سلطانهم وردهم أذلاء بين من استطالوا عليهم، لكن صاحب الدعوة يقدم الخير لبلده رغم ظلم بعض قادتها أو نخبها كما قال الشاعر:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة == وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام
وتبوأ يوسف مكانة كبيرة وكان يستطيع صاحب الدعوة أن ينتقم من أصحاب الحيل والمكر والادعاء، لكنه صبر وغفر رغم أنهم بعد عقود من الزمان ظلوا على غيهم وقالوا عن يوسف كذبًا: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} (يوسف: 77) فما زاده ذلك إلا حلما كصاحب دعوة يواجه أصحاب الادعاء بالإحسان، وانتهى الأمر أن صار الأدعياء بالباطل يأتون متوسلين من صاحب الدعوة قائلين: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} (يوسف: 88) فتصدق وضاعف العطاء، وصبر وغفر واتقى الله فيهم، وصار صاحب الملك، {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا} (يوسف: 100)، ولم ينسَ فضل الله في هذا الموقف المهيب: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101).
حقًا ما أحوجنا في المحاكمات من أصحاب السلطة والادعاء لأصحاب الدعوة أن نتذكر قصة سيدنا يوسف وعائشة، وكذا في غمرة الانتخابات أن عيار الادعاءات سيتضاعف فهل ننساق فنكون مثلهم أدعياء أم نبقى دومًا أصحاب دعوة إلى الله لا توقفنا الدعاوى ونعمل وأخيرًا نثق أن الله تعالى يأبى عدله إلا أن ينتقم من أصحاب الدعاوى الفاسدة مهما علوا، ويمكِّن لأصحاب الدعوة الصالحة مع الصبر الجميل والنفس الطويل قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24) فاصبروا واعملوا والخير قادم بإذن الله تعالى
ساحة النقاش