لطالما أدهشتني وأمتعتني الطريقة التي ينجز بها المبدعون أعمالهم ويمارسوا ما يعتبرنوه أفضل شيء في حياتهم. في هذا المقال الذي ستقرأونه الآن مقارنة ومقاربة بين شخصين مبدعين في مجالي عملهما. الأول هو جيرو Jiro الياباني الجنسية والذي يعتبر أفضل مقدم لأطباق السوشي ليس في اليابان فقط وإنما في العالم أجمع. لقد شاهدت الفيلم الوثائقي (Jiro Dreams of Sushi) الذي يصور حياته اليومية في المطعم والطريقة التي يقوم بها بإعداد أطباق السوشي المتعددة ابتداءا من شراء السمك وانتهاء بتقديمه لمرتادي مطعمه، وهو واحد من الأفلام المميزة الذي يجعلك تقف باحترام لهذا الشخص بالإضافة إلى أنه سيجعلك تحس برغبة جامحة بالحصول على طبق سوشي فوراً (كما حصل معي أنا) وأنا أنصح بمشاهدته لأي شخص يطمح في الوصول إلى التميز والتفوق في عمله. أما الشخص الثاني الذي سأتكلم عنه هو جيري ساينفيلد Jerry Seinfeld رجل الكوميديا الارتجالية الأمريكي والذي يعد واحد من أفضل الفنانين في مجاله وخصوصا تلك الكوميديا التي تتعلق بحياتنا اليومية وروتينها. بدأ جيري عمله بالكوميديا في عام 1975 ولديه العديد من العروض الفنية بالإضافة إلى مسلسل تلفزيوني شهير يحمل اسمه Seinfeld والذي يعد واحد من أنجح وأفضل المسلسلات الكوميدية في التاريخ. إليكم الآن 5 نصائح مهمة تم ملاحظتها للطريقة التي يمارس بها هذين المبدعين عملهما.
لاتتوقف أبداً عن التدريب
يقوم جيرو بتحضير السوشي منذ أكثر من 70 عاماً، أما ساينفيلد فهو يعمل في مجال الكوميديا الارتجالية منذ أكثر من 35 عاماً. وعلى الرغم من أن كلاهما يعدان الأفضل في مجال عملهما، ولكن عندما تستمع لحديثهما ستشعر مباشرة أنهما غير راضيين عن أدائهما أبداً. فهما يتدربان بشكل دائم ويشحذان أدائهما بغية تحسينه وتطويره.
وحسب وصف جيرو: “كل ما أود فعله هو تقديم سوشي أفضل. أقوم بعمل الشيء نفسه مرارً وتكراراً، لتحسينه شيئاً فشيئاً. هناك دائما حاجة لانجاز المزيد. سأواصل التسلق للوصول إلى القمة ولكن لا أحد يعرف أين تقبع هذه القمة”.
أما ساينفيلد فيشرح الأمر كالتالي:
“إذا لم أقم بعمل استعراض لمدة اسبوعين متواصلين، أشعر بتباطؤ أدائي. لقد قرأت مرة مقالة مفادها أنه عندما تقوم بممارسة رياضة ما بشكل متواصل ومستمر، سيصبح لديك قدرة عقلية كبيرة وتصبح الخلايا العصبية الناقلة كخط انترنت برودباند سريع حيث تنقل وتعالج البيانات والمعلومات الخاصة بممارسة رياضتك بشكل كبير وسريع جداً. وحال توقفك عن التدرب سيبدأ هذا الممر الناقل بالانكماش. بمجرد قراءتي لهذا المقال تغيرت حياتي كلياً. حيث كنت اتساءل ضمنياً في السابق: لماذا علي أن أقوم بكل هذه التدريبات والوقوف على المسرح بشكل متواصل؟ ألا أعرف كيف سأقوم بإلقاء هذه النكات؟ الجواب هو لا. يجب عليك مداومة التدريب. فالخط السريع سيبدأ بالتباطؤ في اللحظة التي تتوقف فيها عن التمرن”.
الاهتمام بأدق التفاصيل
لايوجد تفصيل دقيق بدون أهمية. فمثلا، يقوم جيرو بتقديم طبق السوشي للزبائن الذين يستخدمون يمناهم بطريقة مختلفة عن الزبائن الذين يستخدمون يدهم اليسرى، وعندما كان احد المتدربين يحضر طبق عجينة البيض أجبره على إعادة تحضيره 200 مرة قبل أن يعتبره مقبولا للتقديم في المطعم. أما بالنسبة لساينفيلد فهو يعيد صياغة الجزء الأخير من نكتته والذي يسمى punchline (وهو الجزء المضحك من النكتة) لسنوات وسنوات حتى يحصل على ضالته المنشودة. وحسب قوله على موقعه الخاص:” احتضن نكتة معينة لسنوات، حيث أقوم خلال هذه الفترة بتعديلها وتقصيرها واعادة صياغتها بشكل متواصل للحصول على مبتغاي ، وهذا الأمر بالنسبة لي يشبه فن الخط اليدوي أو قتال الساموراي”.
وهم يشبهون في هذه الناحية طريقة ستيف جوبز وجوناثان أيف المميزة في تصميم منتجات أبل، حيث أن هوسهما بأدق التفاصيل في تصنيع المنتج ليس جزءا فقط من قواعد التصميم الخاصة بهما، بل هي الجزء الرئيسي في أساس الشركة”.
واظب على تحسين عملك
قام مايكل أنجلو مرة بوصف عملية النحت كالتالي:
في كل قطعة رخام أراها، أشاهد بداخلها قطعة فنية رائعة الشكل وكأنها ماثلة أمامي بكل وضوح. كل ماعلي عمله الآن هو نحت الطبقات الخشنة التي تحبس هذه التحفة الخلابة واظهارها للأعين الأخرى لتراها كما أراها أنا”.
ويبدو أن كل من جيرو وساينفيلد يطبقان نفس الحس الفني في عملهما، فهما دائما مايقومان بإزالة الشوائب من قطعهم الفنية لابقاء الجوهر الأساسي منها فقط.
عندما تشاهد جيرو يقوم بتحضير قطعة سوشي فأنت لن تشاهد شخصاُ يضع قطعة سمك على كومة من الأرز وإنما ستشاهد خلاصة عقود من الزمن من التجربة والخطأ، والتعرف على ماسيحسن المذاق، أو الشكل، أو حتى الشعور الأمثل عند تقديم الطبق وترك كل شيء آخر جانباً.
وينطبق نفس الشيء على طريقة ساينفيلد في تحسينه لالقاء نكتة معينة:
إذا أحببت نكتة معينة ولكني شعرت أن هناك عيب ما فيها، فإنني سأنتظر، وقد يستغرق الانتظار 3 سنوات من التديرب حتى أصل لأفضل طريقة لإلقائها دون أن تفقد أي شيء من جماليتها أو طرافتها.
حافظ على نظافة واناقة مكان عملك
يقع مطعم جيرو تحت الأرض بالقرب من محطة مترو، وهو يتسع لعشرة أشخاص فقط ، ومع ذلك يتم حجز الطاولة قبل شهر كامل من موعد الوجبة ويبدأ السعر من حوالي 350 $ حسب نوع السمك المتوفر وموسم الصيد، ويتم تقديم السوشي على طبق بسيط ذي لون أسود. أما ساينفيلد، فهو يعمل من شقته النظيفة الكائنة في غرب نيويورك ذات الطابع العصري والجو الحميمي.
كلا الخبيرين يعملان ضمن مساحتهما الخاصة بعيدا عن الضوضاء والازعاج وبتركيز كامل على عملهما الذي بين يديهما. يقوم جيرو بتحضير كل طبق وينظف المكان مباشرة بمجرد انتهاؤه. وعلى نحو مماثل، لدى ساينفيلد توجه محدد لطريقة كتابته النكتة، فهو يجلس على مكتبه ويستعمل دفتر ملاحظات وقلم حبر من نوع Bic ويبدأ بالكتابة بدون أي ضجيج من الشارع. ومصير أوراق الدفتر سيكون إما سلة المهملات أو الملف الرئيسي الذي يحوي كل استعراضات ساينفيلد مكتوبة بخط يده.
كن شغوفاً وعاطفياً اتجاه عملك
من الصعب تخيل شخص ما يكرس حياته بالكامل من أجل مهنة واحدة فقط دون أن يكون شغوفاً وواقعاً في حب مايفعله. وهذا واضح تماماً في حالة كل من جيرو وساينفيلد.
فبالنسبة لساينفيلد التي تقدر ثروته بحوالي 800 مليون دولار، فجولاته الاستعراضية التي يقوم بها ليس الهدف منها المال وإنما التركيز على أداء شيء واحد بشكل مستمر ، وهي رغبة إبداعية داخلية لايستطيع التوقف عن ممارستها. وكما يقول:” أنا أحب المال، ولكن عملي لم يكن أبدا الهدف منه كسب المال”.
وبشكل مشابه، كان جواب جيرو عندما سئل عن التقاعد :”لم أكره في يوم من الأيام عملي. أنا مغرم بعملي تماماً وأعطيته عمري بالكامل. وعلى الرغم من أن عمري 85 عاماً، لكنني لا أشعر أبداً برغبة في التقاعد. هذا هو ما أشعر به”.
وهذا الأمر لاينطبق على جيرو أو ساينفيلد فقط وإنما على أي مبدع في مجال عمله .فكلما دققت النظر أكثر على الأفراد الناجحين بمجالهم ووصلوا إلى قمة عطائهم، للاحظت وجود نمط واضح ومشترك بينهم جميعاً.
ساحة النقاش