عمرو أبوالفضل

التوبة أهم منازل العبودية، وحاجة العبد إلى التوبة ماسة وملحة للتكفير عن الذنوب الكثيرة وطلبا لمغفرة التفريط في حقوق الله تعالى، حيث أوضح عدد من علماء الدين أن التوبة تصقل القلوب، وتنقيها من مفاسد الذنوب، والتائب يبغض المعصية ويقبل على الطاعة، ويتملكه الندم والحسرة والخوف والوجل من الله تعالى والإسلام يفتح باب الرجاء وطلب العفو والغفران مهما كانت المعصية.

حول ربط الشريعة بين ارتكاب المعاصي والتعرض للمهالك، أوضح فضيلة الشيخ منصور الرفاعي وكيل وزارة الأوقاف المصرية لشؤون الدعوة الأسبق، أن الإسلام بين أن المعاصي والذنوب سبب كل شقاء وتعاسة وهلاك الديار وتدمير وإزالة المجتمعات، ولم تهلك أمة إلا بذنب، وما نجا من نجا وفاز من فاز إلا بتوبة وطاعة، والله تعالى لم يوصد أمام عباده أبواب الأمل، ودعاهم إلى عدم اليأس من روحه والقنوط من رحمته سبحانه، وفتح لعباده بلطفه أبواب التوبة، وجعلها الملاذ والملجأ للنادمين غير المصرين على الخطيئة وارتكاب الذنوب ليكفر الله عنهم سيئاتهم، ويرفع درجاتهم.

من السنة

 

وبخصوص ما ورد في السنة، قال الرفاعي إن الرسول صلى الله عليه وسلم صور هذه المعاني في الحديث النبوي الشريف الذي تحدث عن قصة الرجل الذي أسرف على نفسه ثم تاب وأناب فقبل الله توبته، والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة، فقال: لا، فقتله فأكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل، فقال: إنه قتل مئة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق الى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع الى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه الى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى الى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة. قال قتادة: فقال الحسن: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره”.

 

الرغبة في التوبة

وأضاف أن الحديث الشريف تحدث عن قصة رجل أسرف على نفسه بارتكاب الكبائر والذنوب والموبقات حتى قتل مائة نفس، وهو لا شك ذنب عظيم فلا يوجد بعد الشرك أعظم من قتل النفس بغير حق، وأشار الى أن القصة أكدت ان الرجل بالرغم من الذنوب التي ارتكبها الا ان في قلبه بقية من خير ورغبة في التوبة وطلب عفو الله ومغفرته.ويوضح أن الحديث يؤكد أن الرجل خرج من بيته باحثا عن عالم يفتيه، ويفتح له أبواب الرجاء والتوبة، وبلغ به الحرص على التوبة وتحري المغفرة أن لا يتخير أي عالم، بل كان سؤاله عن أعلم أهل الأرض ليكون على يقين من موقفه وتوبته. ويضيف أن الناس دلوه على احد الرهبان المشهود لهم بكثرة العبادة وقلة العلم، فقص عليه أفعاله، فوقع في نفس الراهب عظم الذنب، فاخبره أنه لا توبة من موبقاته لشناعتها وأوصد في وجهه باب المغفرة ورحمة الله تعالى، فغضب وقتل الراهب وأتم المئة قتيل.

طلب العفو

ويقول الدكتور محمود الضبع أستاذ الدراسات الاسلامية بجامعة قناة السويس إن القصة النبوية تكشف عن عمق رغبة الرجل في التوبة وصدقه في طلب العفو، لذلك لم يركن أو يستسلم لليأس، فهو لم يقتنع بما قاله الراهب، وذهب يبحث مرة اخرى في الأرجاء عن أعلم أهل الأرض، وفي محاولته الثانية أخبر عن رجل تجتمع فيه صفات العلماء بالاضافة إلى الحكمة وملكة التبصر بأحوال الناس وبالنفوس والقدرة على التوجيه والتربية.

وبين أن العالم تعجب واستنكر أن يكون هناك ما يحول بين الرجل العاصي والتوبة، مبينا أن الأصل في الإنسان طلب المغفرة والعودة لحظيرة الايمان والرجاء في رحمة الله بلا تفكير أوسؤال لأن باب التوبة مفتوح والله سبحانه رحمته وسعت كل شيء، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولم يكتف بإجابته عن السؤال وانما أرشده الى طريق التوبة.

وقال ان الرجل العالم حثه على تغيير منهج حياته وطريقة عيشه وكل ما يربطه بحياته الماضية، وأوصاه بضرورة مفارقة الارض والبيئة التي عاش فيها وارتبط فيها بأحداث تذكره بالمعصية وتدفعه لاقترافها. كما نصحه بترك رفقة السوء التي تعينه على الفساد، وتزين له الشر، وأن يهاجر الى أرض أخرى فيها أقوام صالحون يعبدون الله تعالى.

النصيحة

ويضيف ان الرجل العاصي لم يتردد في تنفيذ النصيحة رغبة في التوبة الصادقة، مبينا انه خرج مسرعا قاصدا المكان الجديد الذي يبدأ فيه حياته الطاهرة ولكنه في منتصف الطريق حضره أجله، ولشدة رغبته في التوبة وجه صدره جهة الأرض الطيبة وهو في النزع الأخير، واختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، كل منهم يريد أن يقبض روحه، ودار الجدل فملائكة العذاب يحتكمون لسيرته الاولى وقتله مئة نفس وعدم فعله للخير وملائكة الرحمة يدافعون عنه وتظهر رغبته في التوبة وسعيه الحثيث عليها.

ويقول إن الله تعالى أرسل للفريقين ملكا في صورة إنسان، وأخبرهم بأن عليهم أن يقيسوا ما بين الأرضين، الأرض التي جاء منها، والأرض التي هاجر إليها، مشيرا الى أن كتب الحديث والسيرة ذكرت أن الله عز وجل أمر أرض الخير والصلاح أن تتقارب، وأرض الشر والفساد أن تتباعد، فوجدوا الرجل أقرب الى أرض الصالحين، فتولت أمره ملائكة الرحمة، وغفر الله له ذنوبه كلها.

دروس وعبر

وحول ما جاء في الحديث الشريف، فأشار أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة قناة السويس إلى الكثير من العبر النافعة والدروس والعظات الجليلة التي يمكن استخلاصها لتنفعنا في حياتنا وسلوكياتنا، وقال إن القصة تعلمنا أن أبواب الأمل مفتوحة لكل عاص، وأن رحمة الله وسعت الظالمين والفاسدين والباغين ومغفرته تسع لقبول توبة التائبين، مهما عظمت ذنوبهم وكبرت خطاياهم، ويقول الله تعالى:” قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم “ 53 الزمر.

وأوضح أن الإسلام حرص على تربية أبنائه على بغض المعصية والإقبال على الطاعة وعدم الظن في الله ظن السوء أو القنوط من رحمته سبحانه، مصداقا لقوله تعالى:” ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون “ 87 يوسف. وقال إن الشريعة الغراء شددت على ضرورة صدق النية في طلب التوبة والإخلاص في السعي لنيلها، وطرق كل الابواب لتحقيقها والاقتراب من كافة الدروب المؤدية إليها والمعينة عليها، مضيفا أن الحديث كشف للعباد عن أهمية استعظام الذنوب وعدم استصغارها والخوف والوجل من الخالق عند ارتكابها حتى لا تألف النفس المعصية.

وقال إن الدرس العظيم هو بيان تأثير البيئة وما فيها من رفاق ومغريات على سلوك الانسان وأخلاقه، وبين أن القصة أظهرت ضرورة الاستقامة وهجر المعاصي ومقدماتها والمغريات لان هذا يعين على التوبة، وأهمية صحبة أهل التقوى والصلاح والخير الذين يعينونه على الطاعة ويذكرونه إذا حاد عن جادة الصواب.

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 68 مشاهدة
نشرت فى 22 ديسمبر 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,277,033