عمرو أبو الفضل (القاهرة) - أبو دلف، واحد من أعظم رحالة القرن الرابع الهجري، وكان شاعرا وأديبا، أمضى عمره في التجوال بين دول العالم، وترك ثروة معرفية هائلة في مجال الجغرافيا اكتسبها من مشاهداته وتجاربه الميدانية وسماعة للخبراء في الأقطار التي زارها.
«عجائب البلدان»
يقول الدكتور أحمد فؤاد باشا- المفكر الإسلامي المعروف- ولد أبو دلف مسعر بن مهلهل الخزرجي الينبوعي، بمدينة ينبع القريبة من المدينة المنورة، ولم تذكر المصادر التاريخية سنة مولده، أو تفاصيل نشأته ولكن ذكرت انه عمل في بلاط السامانيين ببخارى ما بين سنة 301-331 هـ، وذكر الزركلى انه كان يتردد على الصاحب بن عباد فيرتزق منه ويتزود كتبه وفي أسفاره رآه ابن النديم، حوالى سنة 377 هـ وعرفه بالجوالة. واختاره الأمير نصر الثاني بن أحمد الساماني سنة 331 هـ، لمصاحبة بعثة صينية.
وفي عودته إلى وطنه لعلمه وحكمته، زار الهند وتركستان والتبت، واستغل الفرصة وجمع مادة كتابه “عجائب البلدان”، ودخل بعد ذلك في خدمة الوزير البويهي الصاحب الطالقاني وقدم له قصيدة طويلة في حيل بني ساسان من الصعاليك العيارين المستهترين والشطار المحتالين الذين كانوا يطوفون الأقاليم ويتفننون في اختراع الحيل للحصول على المال وأساليب حياتهم. وقام برحلة ثانية طاف فيها ببلاد فارس وأذربيجان وأرمينيا.
علم الخرائط
عكف أبودلف على دراسة المعلومات الجغرافية التي تتعلق بالحدود والمدن والمواصلات والمحاصيل الزراعية والتجارية والصناعية بدقة وإمعان، وصحح معظم الأخطاء التي وقع فيها من سبقه من العلماء، وتمكن من استخلاص حقائق جديدة لم يسبقه اليها أحد ساهمت في تقدم علم الخرائط. وامتدحه الثعالبى ووصفه بانه: “من كبار الأدباء والشعراء الملهمين وله مكانة تاريخية”.
ولم تصل إلينا التفاصيل الكاملة لرحلته الأولى، وعرضها ياقوت الحموي في معجم البلدان وابن النديم في الفهرست. فذكر ياقوت: “قرأت في كتاب عتيق ما صورته كتب أبو دلف مسعر بن مهلهل في ذكر ما شاهده ورآه في بلاط الترك والصين والهند قال: إني لما رأيتكم يا سيدي أطال الله بقاءك شغوفين بالتصنيف مولعين بالتأليف أحببت أن لا أخلي دستوركم وقانون حكمتكم من فائدة وقعت إلي مشاهدتها وأعجوبة رمت بي الأيام إليها ليروق معنى ما تعلمناه السمع ويصبو إلى استيفاء قراءته القلب وبدأت بعد حمد الله والثناء على أنبيائه بذكر المسالك المشرقية واختلاف السياسة فيها وتباين ملكها وافتراق أحوالها وبيوت عبادتها وكبرياء ملوكها وسلوك قومها. ولما نأي بي وطني وحل بي السير إلى خراسان ضاربا في الأرض أبصرت ملكها والمرسوم بإمارتها نصر بن أحمد الساماني عظيم الشأن كبير السلطان، يستصغر في جنبه أهل الطول وتخف عنده موازين ذوي القدرة والحول، ووجدت عنده رسل قالين بن الشخير ملك الصين راغبين في معاهدته طامعين في مخالطته يخطبن إليه ابنته فأبى ذلك واستنكره.
رحلة الصين والهند
نجح القزوينى وابن النديم وياقوت في نقل وصف أبى دلف لرحلته في الصين والهند، وأشادوا بدقته وقدرته على الملاحظة وتسجيل المشاهدات والمواقف والأحداث التي تعرض لها والأشخاص الذين صادفهم في أسفاره، وقد وصف أبو دلف طريقه إلى الصين قائلا: “فسلكنا بلد الأتراك فأول قبيلة وصلنا إليها بعد أن جاوزنا خراسان وما وراء النهر من مدن الإسلام قبيلة في بلد يعرف بالخركاه، فقطعناها في شهر، نتغذى بالبر والشعير، ثم خرجنا إلى قبيلة تعرف بالطخطاخ، وتغذينا بالشعير والدخن وأصناف من اللحوم والبقول الصحراوية فسرنا فيها عشرين يوما في أمن ودعة، يسمع أهلها لملك الصين ويطيعونه ويؤدون الإتاوة إلى الخركاه لقربهم إلى الإسلام ودخولهم فيه وهم يتفقون معهم في أكثر الأوقات على غزو من بعد عنهم من المشركين ثم وصلنا إلى قبيلة تعرف بالبجا فتغذينا فيهم بالدخن والحمص والعدس وسرنا فيهم شهرا في أمن ودعة، وهم مشركون يؤدون الاتاوة إلى الطخطاخ ويسجدون لملكهم ويعظمون البقر ولا تكون عندهم ولا يملكونها تعظيماً لها، وهو كثير التين والعنب والزعرور الأسود وفيه ضرب من الشجر لا تأكله النار ولهم أصنام من ذلك الخشب ثم خرجنا إلى قبيلة تعرف بالبجناك طوال اللحى أولو أسبلة همج يغير بعضهم على بعض ويفترس الواحد المرأة على ظهر الطريق ويأكلون الدخن فقط فسرنا فيهم اثني عشر يوما وأخبرنا أن بلادهم مما يلي الشمال وبلاد الصقالبة ولا يؤدون الخراج إلى أحد، ثم سرنا إلى قبيلة تعرف بالحبكل يأكلون الشعير والجلبان ولحوم الغنم فقط ولا يذبحون الإبل ولا يقتنون البقر ولا تكون في بلدهم ولباسهم الصوف والفراء ولا يلبسون غيرهما، وفيهم نصارى قليلون وهم صباح الوجوه يتزوج الرجل منهم بابنته وأخته وسائر محارمه وليسوا مجوسا ولكن هذا مذهبهم في النكاح يعبدون سهيلا وزحل والجوزاء وبنات نعش والجدي ويسمون الشعري اليمانيه رب الأرباب وفيهم دعة ولا يرون الشر وجميع من حولهم من قبائل الترك يخطفهم ويطمع فيهم”.
احترام العلماء
كتب في رسالته الثانية وصفا وافيا لأرمينيا وفارس والري وطبرستان وأفغانستان وبعض أنحاء جنوبي روسيا، وغيرها من المدن والبلدان التي دخلها وعرض للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية بها، ورصد دور العلم والمكتبات والمحافل والآثار والمعابد، وتضمنت قصائده إشارات الى الرحلات والأسفار الطويلة التي قام بها.
ونال أبو دلف احترام وتقدير العلماء والباحثين والمؤرخين بالعالم، وترجمت رحلاته الى اللغات الأوروبية، وكتب وستنفلد وسارتون وماركات وغيره من المستشرقين دراسات وافية عنه وأشادوا بجهوده في علم تقويم البلدان والقبائل والعمران وصار نتاجه من أبرز المعلومات التي اعتمد عليها الباحثون الأولون، ولم تذكر المصادر سنة وفاته-رحمه الله.
ساحة النقاش