الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدين أما بعد: يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ” سورة التوبة، الآية (36).
يقول الإمام ابن كثير- رحمه الله- في كتابه تفسير القرآن العظيم: (قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب أخبرنا محمد بن سيرين عن أبي بكرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم – خطب في حجته فقال: “ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان”) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/465-466.
لقد انقضى عام هجري، ككل شيء في هذه الدنيا ينقضي ويزول، كل جمع إلى شتات، وكل حي إلى ممات، وكل شيء في هذه الدنيا إلى زوال، “كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” سورة القصص، الآية (88)، وكما قال الشاعر:
كلُّ حـــــــــيٍّ سيموت ليس في الدنيا ثبوت
حركاتٌ سوف تَفْنَـى ثم يتلوهـــا خُفـــــوت
ليس للإنسـان فيهـــا غيـر تقوى الله قـوت
فما أحوجنا في مستهلِّ كل عام هجري، وحين تطوي عجلة الزمن عاماً كاملاً من حياتنا، تقتطعه من أعمارنا، وتقرِّب به آجالنا، ما أحوجنا لأن نقف قليلاً على مفترق الطرق! لنحاسب أنفسنا على الماضي، ولنستعرض ما قدّمناه، فنستدرك ما فات، ونتوب من العثرات، ونحمد الله عز وجل على ما وفقنا إليه من صالح الأعمال، ثم نعقد العزم على أن نواجه العام الجديد، بقلوب مؤمنة، ونيَّات صادقة، ورغبة أكيدة في فعل الخير، واتباع الحقِّ، وطاعة الله وتقواه.
إنّنا في هذه الوقفة ونحن نودع عاماً، ونستقبل عاماً جديداً يجب أن نتدارك ما فاتنا، وأن يُحَاسِب الواحد فينا نفسه قبل أن يُحَاسَب، كما قال سبحانه: “وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا” اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً” (سورة الإسراء)، الآيتان (13-14)، وقوله عزَّ وجلَّ: “وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ” سورة الأنبياء، الآية (47)، حيث إنّنا سَنُسْأَل يوم القيامة عن كل شيء، لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: “لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به” (أخرجه الترمذي).
أحداث وقعت في شهر المحرم
ونحن هنا نذكر بعض الأحداث المهمة التي وقعت في شهر المحرم ومنها:
6/محرم / 27هـ تجهيز جيش المسلمين لفتح أفريقيا.
10/محرم / 61هـ يوم عاشوراء واستشهاد الحسين بن علي –رضي الله عنهم أجمعين-.
11/محرم / 20هـ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يوجد ديوان الجند.
13/محرم / 7هـ غزوة خيبر وقد فتح المسلمون حصون خيبر حصناً حصناً.
14/محرم / 7هـ قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة.
19/محرم / 16هـ وفاة مارية القبطية – رضي الله عنها-وهي أم إبراهيم بن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-.
27/محرم / 676هـ وفاة السلطان الظاهر بيبرس.
28/محرم / 430هـ وفاة الحافظ أبي نعيم الأصبهاني صاحب كتاب حلية الأولياء الذي طبع في تسعة مجلدات، وله كتاب معجم الصحابة، كما له كتاب في الطب النبوي .
30/محرم / 686هـ وفاة الإمام القسطلاني شيخ دار الحديث، صاحب كتاب إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري.
ويوم عاشوراء هو اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فكان اليهود يصومونه شكراً لله على هذه النعمة العظيمة، فالله سبحانه وتعالى أنجى عباده المؤمنين، وأهلك القوم المجرمين، أنجى موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه، فهذه نعمة عظيمة كما جاء في الحديث الشريف: (عن ابن عباس- رضي الله عنهما - أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة، فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: “ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟” فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وَغَرَّقَ فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “فنحن أحقُّ وأولى بموسى منكم”، فصامه رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وأمر بصيامه “) (أخرجه مسلم)، وقوله- صلى الله عليه وسلم-: “نحن أولى بموسى منكم”، لماذا؟ لأن النبي والذين معه أولى الناس بالأنبياء السابقين: “إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ” سورة آل عمران الآية (68).
فضل شهر المحرم
عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم) (أخرجه مسلم).
وعن أبي قتادة الأنصاري- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: (صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) (أخرجه مسلم). ومما يدل على فضل صيامه ما روى عن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: (ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتحرى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان) (أخرجه الشيخان).
مراتب صومه
قال الإمام ابن القيم في كتابه (زاد المعاد في هدى خير العباد): (فمراتب صومه ثلاثة، أكملها: أن يُصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك: أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم) (زاد المعاد في هدى خير العباد للإمام ابن القيم 1/349).
فهناك من يصوم التاسع والعاشر لما ورد عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: حين صام رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى! فقال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-: “فإذا كان العام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التاسع”، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- (أخرجه مسلم)، والمراد: أنه عزم على صوم التاسع مع العاشر، وفي الحديث أيضاً: (خالفوا اليهود، وصوموا التاسع والعاشر). (أخرجه أحمد)وهناك من يصوم العاشر والحادي عشر لما ورد عن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: قال رسول اللّه- صلى الله عليه وسلم-: (صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يومًا أو بعده يوماً). (مجمع الزوائد 3/188)
إن لربنا في دهرنا نفحات، تأتينا نفحة بعد نفحة، تذكرنا كلما نسينا، وتنبهنا كلما غفلنا، فهي مواسم للخيرات والطاعات، يتزود منها المسلمون بما يعينهم على طاعة الله سبحانه وتعالى: “وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ”. سورة البقرة الآية (197).
الدكتور يوسف جمعة سلامة
خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك
ساحة النقاش