أحمد محمد - نبي الله زكريا من المقدسيين الذين عاشوا في تلك البقعة المباركة، بعثه الله لإصلاح أهلها، فسار داعياً ومصلحاً يذكر بني إسرائيل بأيام الله ومعجزاته معهم وفضله عليهم، كان نجاراً يعمل بيده ويأكل من كسبه، وعاش تقياً بعيداً عن مقارفة الذنوب والآثام وقت أن كان بنو إسرائيل يجترئون على الله ويكذبون رسله ويقتلونهم، إضافة إلى مجاهرتهم بالمنكرات زاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه، وخاصته وصفوته من خلقه.
أحاطت بزكريا أحوال عسيرة متقلبة، فالأرض المقدسة خاضعة مع غيرها لسلطان الرومان الوثنيين، وبنو إسرائيل حملة التوراة عاثوا في الأرض فسادا، وأبوا أن يحفظوا عهدهم مع الله، وصارت لهم في مضمار الباطل صولات وجولات، من إتيان للمنكرات وانتهاك للحرمات ونبذ لأحكام الله، ترك زكريا فعالهم، ولزم جنب الله، وحدوده وتقواه، فاصطفاه من بينهم لينذرهم ويذكرهم، وجعله نبيا يوحى إليه.
أمره الله أن ينادي في قومه بالتوبة، وبعثه إليهم رسولاً يحذرهم عذابه، ويعلمهم أن إفسادهم في الأرض مدعاة لغضب الجبار، وأن النجاة في اقتفاء أثر أنبيائهم ورسلهم، فمسه الضر من بني إسرائيل الذين آثروا اتباع الهوى.
ذكره الله في عداد الرسل، فقال تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين)، ومن المحقق أنه من بني إسرائيل، ولكن لم يذكر المؤرخون له نسبا متصلاً موثوقاً به، وقيل إنه من سبط يهوذا بن يعقوب، وأورد ابن عساكر لزكريا نسبا بدأه بأبيه يوحنا، وعد بعده أحد عشر أبا، حتى وصل إلى “يهوشافاط” خامس ملوك بيت المقدس من عهد سليمان.
قبيل ميلاد المسيح عيسى كان زكريا من كبار الربانيين الذين لهم شركة في خدمة الهيكل، وكان عمران إمامهم ورئيسهم، والكاهن الأكبر فيهم، وحنة وإيشاع اختان، أما حنة فكانت زوجة عمران، وكانت من العابدات، وكانت لا تحمل، وإيشاع زوجة زكريا، وكانت عاقراً لا تلد.
نذر
استجاب الله لدعاء عمران وحنة، بعد أن لبثت حنة ثلاثين سنة لا يولد لها فحملت، فنذرت أن تهب ولدها لخدمة بيت المقدس، وكانت ترجو أن يكون ذكراً، ويتولى رعايته، ويقوم على شؤونه: (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم).
وحملت بابنتها مريم، وقدمتها إلى بيت المقدس، حتى تعيش وتتربى على التقوى والأخلاق الحميدة، وتنشأ على عبادة الله منذ الصغر ودفعتها إلى العباد والربانيين فيه، تنفيذا لنذرها، وكان هذا من أحكام الشريعة اليهودية.
وتقدم زكريا - زوج خالتها - ليكفلها ويربيها ويقوم على رعايتها، لكن الناس اختلفوا كل ينادي ويطالب بتربية مريم، بعد وفاة أبيها عمران، ويرى نفسه أحق برعايتها من غيره، وفاء لأبيها معلمهم، واقترح أحدهم أن يذهبوا جميعا إلى النهر ويرموا أقلامهم فيه، والقلم الذي يجري عكس التيار، يفوز صاحبه بكفالة مريم.
ذهبت الأقلام جميعها مع التيار إلا قلم زكريا سار خلاف جري الماء، وفاز بكفالة مريم، والقيام على أمرها، وخصص لها مكاناً في المسجد تعيش فيه، ومحراباً للتعبد، وظلت وقتاً طويلاً لا تغادر إلا قليلاً، وزكريا يزورها للاطمئنان عليها، والقيام بأمرها، وكلما دخل عليها المحراب، وجد عندها فاكهة وألوانا مختلفة من الأطعمة لا توجد في ذلك الوقت من السنة، فتعجب وأخذته الدهشة وسألها من أين لها بها، فأخبرته بأنه رزق من عند الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب.
كرامات
شبت مريم في بيئة عبادة وتقوى داخل بيت المقدس، وأكرمها الله بكرامات عديدة، كما قال تعالى: (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب).
كان زكريا قد كبر سنه، ولم يكن لديه ولد ولا ذرية، ولما رأى رزق الله لمريم بأشياء ليست في وقتها، توجه إلى ربه يدعوه أن يرزقه بولد صالح، وإن كانت امرأته عاقرا، وبينما هو في محرابه، تنزلت عليه الملائكة تبشره باستجابة الله، وأنه وهبه غلاما اسمه يحيى، وسيكون نبيا صالحا.
ظل زكريا عليه السلام يدعو ربه حتى جاءت وفاته، ولم ترد روايات صحيحة، لكن روايات كثيرة - ضعيفة - أوردت قتله على يد جنود الملك الذي قتل ابنه يحيى من قبل.
ومما أورده أهل السير إنه مات قتلا، قتله اليهود، وقيل في سبب قتله إنه لما شاع الخبر في بني إسرائيل أن مريم عليها السلام حامل اتهمها بعض الزنادقة بيوسف النجار الذي كان يتعبد معها في المسجد، واتهمها آخرون بزكريا لذلك عزموا على قتله، فأمسكوا به ثم نشروه بالمنشار، وقتل ظلما بأيدي اليهود. وفي قول آخر أنه لما قتل ابنه يحيى بأمر الملك الظالم حاكم فلسطين “هيرودوس”، أرسل هذا الملك في طلب أبيه زكريا فاستخفى عليه السلام منهم، فدخل بستانا ومر بشجرة فانشقت بقدرة الله ودخلها فانطبقت عليه وبقي وسطها، فأتى إبليس اللعين فأخذ هدب ردائه، ثم لقي القوم الذين خرجوا في طلب زكريا، فقال لهم إنه سحر هذه الشجرة فانشقت له فدخلها، وأراهم طرف ردائه فأخذوا الفؤوس وقطعوا الشجرة وشقوها بالمنشار فقتل نبي الله زكريا فيها ومات شهيدا، قال تعالى: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون).
ساحة النقاش