عمرو أبو الفضل - الإمام السيوطي أحد كبار علماء الإسلام، وكان من أبرز أئمة العلوم الشرعية واللغوية والتاريخية الأفذاذ، موسوعياً في علمه، متعدداً في مصنفاته، فهو فقيه وأصولي ومحدث ومؤرخ ذائع الصيت، أمضى عمره في خدمة الأمة الإسلامية والدفاع عن تاريخها الحضاري.
ويقول الدكتور زكي عثمان- أستاذ الدراسات الإسلامية والدعوة بجامعة الأزهر - ولد عبدالرحمن بن كمال الدين أبي بكر بن محمد بن سابق الدين بن فخر الدين عثمان بن ناظر الدين محمد بن سيف الدين خضر الخضيري، المعروف بـ “جلال الدين الأسيوطي” في سنة 849 هـ، ونشأ في القاهرة يتيماً، فقد مات والده وعمره خمس سنوات، وكان من العلماء الصالحين ذوي المكانة العلمية الرفيعة، وتعهده بعض العلماء من رفاق أبيه بالرعاية والتعليم، وتلقى دروسه الأولى بحفظ القرآن الكريم وأتمه وهو دون الثامنة، وحفظ الأصول مثل العمدة ومنهاج الفقه وألفية ابن مالك، ولازم الكمال بن الهمام الفقيه الحنفي الذي تولى الوصاية عليه، وتأثر به تأثراً كبيراً، خاصة في ابتعاده عن السلاطين وأرباب الدولة، وأراد الاستزادة من العلم، وقام برحلات علمية إلى بلاد الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب وتشاد، وأخذ عن جماعة من كبار علماء عصره الفقه والحديث والتفسير والقراءات والأدب والتاريخ والسير، ودرس الفلسفة والرياضيات منهم البلقيني، والشرف المناوي، والشمس بن الفالاتي، والجلال المحلي، والزين العقبي، والبرهان البقاعي، والشمس السخاوي، وعن محقق الديار المصرية سيف الدين البكتمري، وابن مقبل، والصلاح بن أبي عمر، وبلغ عدد شيوخه إجازة وقراءة وسماعاً نحو مئة وخمسين شيخاً.
وشرع في الاشتغال بالعلم في سنة 876 هـ، وكان أول مؤلفاته شرح الاستعاذة والبسملة، وجلس للتدريس بالمدرسة الشيخونية والإفتاء بجامع ابن طولون، ثم تولى مشيخة الخانقاه البيبرسية، ولما بلغ أربعين سنة اعتزل الناس، وخلا بنفسه في روضة المقياس، على النيل، منزوياً عن أصحابه جميعاً، كأنه لا يعرف أحداً منهم، فألف أكثر كتبه، وكان الأغنياء والأمراء يزورونه ويعرضون عليه الأموال والهدايا فيردها، وطلبه السلطان مراراً فلم يحضر إليه، وأرسل إليه هدايا فردها، وألف بمناسبة اعتزاله رسالة اسماها “المقامة اللؤلؤية”، ورسالة “التنفيس عن ترك الإفتاء والتدريس” بيّن فيها ما وقع له من المتصوفة الذين كادوا يقتلونه لرفضه مسلكهم ونقده تصرفاتهم.
صفاته
عرف الإمام السيوطي بالصلاح والتقوى والخوف من الله تعالى، وذاع صيته لكثرة علمه وفضله وسعة معرفته بعلوم الشريعة والفقه واللغة والرواية، ووفد إليه طلاب العلم من مختلف البقاع لسماعه وتلقي العلم عنه، وعدت له بعض المصادر 48 تلميذاً من النجباء منهم الشمس الداوودي المالكي وعمر بن أحمد الشماع الحلبي ومحمد بن أحمد بن إياس الحنفي ويوسف بن عبدالله الأرميوني.
وأثنى على علمه وخلقه العلماء، قال المؤرخ ابن إياس: “كثير الاطلاع، نادرة في عصره، بقية السلف وعمدة الخلف، وكان في درجة المجتهدين في العلم والعمل”، وقال عنه عبدالقادر بن محمد الشاذلي: “الأستاذ الجليل الكبير، الذي لا تكاد الأعصار تسمح له بنظير، شيخ الإسلام، وارث علوم الأنبياء عليهم السلام، فريد دهره، ووحيد عصره، مميت البدعة، ومحيي السنة، العلامة البحر الفهامة، مفتي الأنام، وحسنة الليالي والأيام، جامع أشتات الفضائل والفنون، وأوحد علماء الدين، إمام المرشدين، وقامع المبتدعة والملحدين، سلطان العلماء، ولسان المتكلمين، إمام المحدثين في وقته وزمانه”.
وخلف الكثير من المصنفات النافعة في الحديث وعلومه والفقه وأصوله وعلوم القرآن والتفسير، والتاريخ والسير والطبقات والتراجم والأنساب بلغت نحو 600 مصنف منها “أبواب السعادة في أسباب الشهادة”، و”الابتهاج في مشكل المنهاج”، و”إتحاف الفرقة برفو الخرقة”، و”إتحاف النبلاء بأخبار الثقلاء”، و”الإتقان في علوم القرآن”، و”إتمام الدراية لقراء النقابة”، و”إتمام النعمة في اختصاص الإسلام بهذه الأمة”، و”الأحاديث الحسان في فضل الطيلسان”، و”الأحاديث المنفية في السلطنة الشريفة”، و”أحاسن الاقتباس في محاسن الاقتباس”.
تاريخ الخلفاء
شغف الإمام السيوطي بالتاريخ والطبقات والسير وبلغت مصنفاته التاريخية أكثر من 55 كتاباً ورسالة، يأتي في مقدمتها “حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة”، و”تاريخ الخلفاء”، و”الشماريخ في علم التاريخ”، و”تاريخ الملك الأشرف قايتباي”، و”الإصابة في معرفة الصحابة”، و”بغية الوعاة في طبقات النحاة”، و”نظم العقيان في أعيان الأعيان”، و”در السحابة فيمن دخل مصر من الصحابة”، وتميزت كتاباته بالدقة والحرص على ذكر المصادر التي أخذ عنها معلوماته، كما جاءت نظرته للتاريخ نظرة علمية أخلاقية حضارية ذات اتجاهات نفسية أخلاقية ومعرفية تعزز من قوة الإنسان على مجابهة أمور الحياة وتعزز الثقة لدى الشباب المسلم بالاعتزاز بتاريخ أمتهم وتعزيز وحدة الأمة الإسلامية من خلال وحدة تاريخها الحضاري المتميز، وكان تركيزه في كتاباته التاريخية منصباً على جانب التراجم، خاصة للعلماء ولمن قدموا نماذج أخلاقية في مسيرتهم التاريخية تفيد الأجيال فائدة جليلة، كما استفاد من موسوعيته العلمية في مضامين العرض التاريخي وفي منهجيته، وعمل على المزج بين مناهج العلوم الشرعية واللغوية ومنهج العرض التاريخي، وبقي الإمام السيوطي - رحمه الله - على زهده وعزلته حتى توفي في يوم الجمعة 19 جمادى الأولى سنة 911 هـ، ودفن بشرقي باب القرافة بالقاهرة.
ساحة النقاش