عمرو أبو الفضل
ابن خلكان أحد الفقهاء الأعلام ومن سادات العلماء، وكان أول من جدد في أيامه قضاء المذاهب، فاشتغلوا بالأحكام بعد ما كانوا نوابا له، ومؤرخا كبيرا اعتبر أفضل من كتب في باب التراجم والسير.
ويقول الدكتور منتصر مجاهد- أستاذ الدراسات الاسلامية بجامعة قناة السويس- ولد أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان البرمكي، وكنيته أبو العباس، في أربيل على شاطئ دجلة الشرقي سنة 608 هـ/1211م، وينتهي نسبه الى جعفر بن خالد بن برمك البرمكي، ونشأ يتيما، فقد مات أبوه الذي كان يعمل مدرسا في المدرسة المظفرية، وتعهده بالرعاية صديق والده مظفر الدين كوكبوري صاحب أربيل الذي وجهه إلى طلب العلم على أيدي شيوخ بلده، والأخذ عن العلماء الثقات، وكان شديد الولع بالتاريخ، فصار يقتني الكتب ويستعير بعضها، ويلتهم كل ما تقع عليه يده منها، يتتبع سير الرجال والعظماء من الشعراء والأدباء والملوك والقادة، وكان يسهر الليالي الطوال في قراءة حياة كل منهم، والتأمل العميق فيها.
إلى مصر
ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره شد رحاله إلى الموصل، ولازم الفقيه كمال الدين بن يونس، بعدها سافر إلى حلب وأمضى فيها عامين تلقى فيهما الفقه والحديث وعلوم اللغة على أيدي كبار علمائها منهم القاضي عز الدين بن شداد، وأبو البقاء يعيش بن علي النحوي، ورحل إلى دمشق، وتلقى على الشيخ ابن الصـلاح الكوردي الشهرزوري التفسير والحديث والفقه، ثم عاد إلى حلب، ومنها رحل الى مصر سنة 636هـ/1239م، وحط رحاله في الإسكندرية ما يقارب نصف عام، ومنها إلى القاهرة، واتصل هناك بالشاعر البهاء زهير، وقويت الصداقة بينهما، إلى درجة أن البهاء أجاز له رواية ديوانه، وأقام علاقة طيبة وثيقة مع العلامة ابن مطروح وقاضي القضاة بدر الدين السنجاري، الذى زكاه للتعيين في نيابة القضاء سنة 651هـ/1250م والتدريس في مدارس ومعاهد القاهرة.
وذاع صيته ووفد إليه طلبة العلم من كل مكان، ولورعه وزهده وخلقه وعلمه ولاه الظاهر بيبرس مهمة قاضي القضاة في الشام في عام 659هـ/1258م، وعين ناظرا على الأوقاف والجامع الأموي والبيمارستان، واظهر كفاية وحسن ادارة، وتردد اسمه بين الرعية، وأقام مجلس علمه بالمدرسة العادلية، ودرس في مدارس الناصرية، والعذراوية، والفلكية، والركنية، والإقبالية، والبهنستي، كما تمكن من توثيق علاقاته بوجهاء وكبار المسؤولين وأعيان المجتمع.
شظف العيش
وأمضى عشرة أعوام في مناصبه وعزله السلطان الظاهر بيبرس، بعد أن كاد له حساده من المنافسين، وعاد إلى القاهرة غير انه عانى لمدة سبعة أعوام من شظف العيش والعوز، حتى انصفه السلطان سعيد بن الظاهر بيبرس، واعاده الى مناصبه السابقة في إدارة شؤون القضاء في دمشق وأعمالها من العريش إلى السلمية، واستقبله العلماء والأدباء والعامة بحفاوة بالغة، واستمر في منصبه ثلاثة أعوام عزل بعدها عن قضاء دمشق، ثم أعاده المنصور قلاوون في سنة 689هـ، إلى منصبه مضيفا إليه منطقة حلب، وجلس للتدريس في المدارس التابعة لقاضي القضاة، ولم يكمل الشهرين في منصبه حتى عزل من جديد، وتفرغ في أعوامه الأخيرة للتدريس في المدارس الأمينية ثم النجيبية، والتصنيف.
واثنى عليه العلماء، وقال عنه ابن كثير: “ابن خلكان قاضي القضاة أحد الأئمة الفضلاء والسادة العلماء والصدور الرؤساء وهو أول من جدد في أيامه قضاء القضاة من سائر المذاهب فاشتغلوا بالأحكام بعد ما كانوا نوابا له، وقد كان المنصب بينه وبين ابن الصائغ دولا يعزل هذا تارة ويولى هذا، ويعزل هذا ويولى هذا، وقد درس ابن خلكان في عدة مدارس لم تجتمع لغيره ولم يبق معه في آخر وقت سوى الأمينية وبيد ابنه كمال الدين موسى النجيبية”، ووصفه الحافظ الذهبي بأنه: “كان إماما، فاضلا، متقنا، عارفا بالمذهب، حسن الفتاوى، جيد القريحة، بصيرا بالعربية، علامة في الأدب والشعر وأيام الناس، كثير الاطلاع، حلو المذاكرة، وافر الحرمة، كريما، جوادا، ممدحا، وقد جمع كتابا نفيسا في وفيات الأعيان”، وقال ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب: “ومن محاسنه أنه كان لا يجسر أحد أن يذكر أحدا عنده بغيبة”.
مؤلفات ابن خلكان
برع ابن خلكان في الأحكام والحديث والفقه وأصول الدين وعلومه، والنحو والأدب والشعر والسير والأخبار والتاريخ، وترك مصنفات كثيرة أشهرها “وفيات الأعيـان وأنباء أبناء الزمـان مما ثبت بالنقل أو السماع أو أثبته العيان”، ويتألف من ثمانية مجلدات ضخمة، ويعد من اثمن كتب التراجم العربية، ومن أحسنها ضبطا وإحكاما، وقد انتهى من تأليفه سنة 672 هـ، بالقاهرة، وهو معجم تاريخي يشتمل على 846 ترجمة للمشاهير والشخصيات الأدبية والأعيان منذ فجر الإسلام حتى أواخر القرن السابع الهجري “الثالث عشر الميلادي” كما ضمنه مقدمة موجزة تناول فيها الدوافع التي دفعته لإنجاز هذا الكتاب، والمنهج الذي اتبعه في جمع المعلومات والمصادر التي اعتمد عليها. وذكرت المصادر انه أكب على نحو خمسمئة كتاب، وراح يلخصها وينقل منها نقولا مركزة مفيدة ويجمع بعضها إلى بعض، ثم انطلق يرتبها ترتيبا سهلا، حسب اسم من يكتب عنه ويؤرخ له، كما يرد في المعجم، وقد أفضى به الترتيب إلى تقديم المتأخر، وتأخير المتقدم، في الوفاة والولادة. وتوفي-رحمه الله- بإيوان المدرسة النجيبية يوم 26 رجب ودفن بسفح جبل قاسيون.
ساحة النقاش