أحمد مراد
ظلَّ الفيلسوف العربي والإسلامي ابن باجة طوال حياته يكرس الأساليب والوسائل الفلسفية لخدمة الإسلام من خلال الاعتماد على التفكير العقلي في فهم رسالة الإسلام السامية، وتأكيد أن الإسلام دين عقل وتأمل وعمل وليس مجرد زهد وعزلة، وهو الأمر الذي جعله يلقب بـ “فيلسوف الإسلام”، فضلاً عن أنه كان واحداً من المجددين الأوائل الذين أفادوا العلوم الإسلامية إفادات عظيمة.
وتقول د. إلهام شاهين - أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر-: ابن باجة هو أبو بكر محمد بن يحيى التجيبي الأندلسي السرقسطي، وكان يعرف بـ “ابن الصائغ”، وهو فيلسوف من أبرز فلاسفة العرب والمسلمين، وقد اعتبره ابن خلدون أكبر فلاسفة الإسلام في الأندلس، وقال عنه ابن طفيل:”لم يخلق أثقب ذهناً ولا أصح نظراً ولا أصدق رؤية من أبي بكر الصائغ”، ورغم ما قدمه للفلسفة العربية والإسلامية من تراث زاخر، فإنه لم ينل الشهرة الكافية في العالمين العربي والإسلامي، وقد ظلت إسهاماته الفلسفية في طي الإهمال، ولم تنل الاهتمام الذي تستحقه في زمانه أو في أزمنة لاحقة.
وتضيف د. إلهام: الفترة التاريخية التي عاش فيها ابن باجة في الأندلس سادتها الاضطرابات والانشقاقات والصراعات بين ملوك الطوائف، وتحولت سلطة الخلافة إلى دولة المرابطين وكان الأمراء والحكام يعتمدون على الفقهاء في تكريس سلطتهم، وذلك عبر توظيف هؤلاء الفقهاء في تسويغ السلطة السياسية وإضفاء المشروعية على الحاكم، ووسط هذه الأجواء نشأ ابن باجة وعاش حياة متعددة المشارب والمجالات، فكان يجمع بين العلوم والفنون التي أتقنها والتي تراوحت بين الفلسفة والمنطق والفلك والطب وعلم النبات والموسيقى والشعر وغيرها من فنون الأدب، وقدم الكثير من الاجتهادات حول الفلسفتين اليونانية والعربية الإسلامية، حيث باتت فلسفته تضم خلاصة ما وصلت إليه هاتان الفلسفتان في ميادين النظر إلى السياسة والفكر والاجتماع والأخلاق.
وتشير د. إلهام إلى أن ابن باجة ألّف ما يزيد على مئة كتاب ورسالة، ضاع منها الكثير، لكن بقي منها ما يكفي لإعطاء فكرة حقيقية عن فلسفته، وكان أبرز هذه المؤلفات كتاب “تدبير المتوحد” و”رسالة الوداع” و”رسالة الاتصال” وهي المؤلفات التي يشرح فيها فلسفته وتأملاته.
فلسفة ابن باجة
تقول د. إلهام: ولقد أولى ابن باجة أهمية لنظرية المعرفة، وكان عليه أن يقارع الفكر السائد آنذاك حول مصدر المعرفة وحصرها بالإلهيات والروحانيات، وذلك في مرحلة سبق أن شهدت تراجع الفكر العقلاني بعد الهزيمة التي لحقت بالمعتزلة في زمن الخليفة المتوكل وسيطرة أفكار الغزالي وغيره من المصنفين في خانة “المحافظين” الذين كرسوا حظر الاجتهاد في النص الديني خارج سياق ما يقدمه ظاهر هذا النص، لذلك أتت مبادئ ابن باجة الفلسفية المفترضة أن العقل هو وحده مصدر المعرفة الإنسانية لتشكل ردّا على هجوم الفقهاء والتقليديين وعلى الأخصّ الغزالي الذي كان يرى أنّ المعرفة تعتمد على النّور الذي يقذفه الله في القلب. وتوضح د. إلهام أن الاهتمام بعلوم الرياضيات والطبيعيات ساهم في بلورة فلسفة ابن باجة العقلية، بحيث استخرج براهينه وأدلته من الحساب والهندسة، ما جعله مفكّراً من الأوائل الذين أخذوا بالعلوم العقلية المنفصلة عن الدين وحتى المعزولة عن العامة، ورغم انخراطه في السياسة، ظل ابن باجة بعيداً عن استخدام الأسلوب الخطابي في محاولة للتأثير على الناس، وهو أمر كان يراه متوافقاً مع توجهاته الفلسفية وإدراكه صعوبة استيعابها من العامة.
الغزالي
وانخرط ابن باجة في سجال مع الغزالي مفنداً الكثير من طروحاته، فبعد اطلاعه على كتاب الغزالي “المنقذ من الضلال” الذي يصور فيه الغزالي أنه في عزلته استطاع أن يصل إلى السعادة القصوى، وأنه تمكن خلالها من رؤية ومشاهدة بعض الأمور الإلهية، فيرى ابن باجة أن ما يقول به الغزالي في هذا المجال هو أضغاث أوهام وقع ضحية لها، وأنه من المستحيل أن يكون قد وصل إلى درجة أصحاب الروحانية كما يدعي، وأكد أبن باجة أن الطريق الصحيح للوصول إلى الله هو التفكير والتأمل الفلسفي لا الأحوال الصوفية.
وتضيف د. إلهام: وكان ابن باجة منخرطاً في سلطة دولة المرابطين وعمل وزيراً لدى أبي بكر بن إبراهيم والي مرسين وسرقسطة، وقد استفاد من وجوده في السلطة لتقديم اقتراحات في السياسة والأخلاق، ووقتها ألف كتاباً بعنوان “تدبير المدينة” وهو في حقيقته اقتراحات لسياسة الدولة، فرأى أن مثل هذا التدبير يقوم على أسس اجتماعية تترجم في المحصلة بقيام المدينة الفاضلة التي تحوي مجتمعات مثلى، وفي الوقت نفسه كان وجوده في الوزارة سبباً للكثير من المشاكل التي عانى منها بسبب الاتهامات والشكوك التي ألصقت به من قبل أعوان الأمير، فاتهم بالإلحاد والزندقة وألصقت به شكوك في ولائه للأمير، وانتهت حياته مغدوراً عبر قتله بواسطة السم.
ساحة النقاش