يعتبر الشاطبي أحد رموز الفكر الوسطي في التشريع الإسلامي خصوصاً وفي الثقافة الإسلامية عموماً، فهو الذي استطاع أن يخرج بالفكر التشريعي من الجمود والضمور إلى حيز الفعالية والوجود، باعتباره عاملا من عوامل النهضة، وسبيلاً من سبل التنظير الاجتماعي والحضاري، فقاوم بشدة التقليد مؤكداً على أهمية دور العقل في الاستنباط، واستطاع أن يبتكر منهجاً على درجة كبيرة من الإبداع والتجديد في النظر إلى الشريعة الإسلامية يقوم على مراعاة مقاصد الشرع والتوسط بين مباني الألفاظ ودلالاتها ومعانيها، فكان لزاماً على كل من يتصدر للفتوى أن يتحرر من الأحكام المسبقة وأن يتعامل مع النازلة بطريقة عقلية رشيدة توفق بين الدلالة اللفظية ومقاصد الشرع ومآلاته، وبمنهج وسطي معتدل، تلك هي رسالة الإمام الشاطبي في الاجتهاد والإفتاء.

المكانة التشريعية

إنه أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المعروف بالشاطبي، ولد سنة: 730 هـ وتوفي سنة: 790 هـ، الإمام، العلامة، المحقق، القدوة، الحافظ الجليل، المجتهد. كان أصولياً مفسراً فقيهاً محدثاً، لغوياً بيانياً، نَظَّاراً، تَبْتاً إماماً مطلقاً، بحَّاثاً مدقِّقاً، جَدَلِيّاً بارعاً في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة المتفننين الثقات، اجتهد وبرع وفاق الأكابر، والتحق بكبار الأئمة في العلوم، وبالغ في التحقيق.

 

واضع نظرية المقاصد الفريدة من نوعها في التشريع الإسلامي، وفي بيان أهمية علم المقاصد وتنويها بهذا الابتكار يقول الشيخ عبد الله دراز: بقي علم الأصول فاقدا قسماً عظيماً هو شطر هذا العلم الباحث عن أحد ركنيه، حتى هيأ الله سبحانه وتعالى أبا إسحاق الشاطبي في القرن الثامن الهجري لتدارك هذا النقص، وأنشأ هذه العمارة الكبرى في هذا الفراغ المترامي الأطراف في نواحي هذا العلم الجليل.

 

أما الشيخ الفاضل ابن عاشور فقد عده هرما شامخا للثقافة الإسلامية استطاع أن يشرف منه إلى مسالك وطرق لتحقيق خلود الدين وعصمته، قل من اهتدى إليه قبله، فأصبح الخائضون في معاني الشريعة وأسرارها عالة عليه.

ولقد أصاب كل من الشيخ دراز والشيخ ابن عاشور فيما ذهبا إليه، لأن الشاطبي استطاع أن يبتكر منهجا على درجة كبيرة من الأهمية في الفكر التشريعي، سار على دربه رجال القانون من بعده، يعد هذا المنهج نقلة نوعية في التفكير في علم أصول الفقه والشريعة الإسلامية، وفي صياغة العقل المسلم في نطاق الفكر الإسلامي، وهو المنهج الذي يعرف بعلم مقاصد الشريعة الذي وضعه في كتابه “الموافقات” وهو من أعظم كتب الشاطبي وأشهرها.

أهمية المقاصد

مقاصد الشريعة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختفي ملاحظتها في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها (مقاصد الشريعة: 50)، ولا شك في كونها أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها، فلا إشكال في أنها علم أصل، راسخ الأساس، ثابت الأركان.

وكتاب الموافقات وهو أعظم كتب الشاطبي وأشهرها، خصص الجزء الثاني منه بأكمله لهذا الفن، وسبب تدوينه هو نقد المنهج الحرفي الذي كان سائداً في عصره، وأنه توجه به إلى أهل البصيرة من العلماء الذين فهموا الدين جيداً وتركوا التقليد والتعصب، أما الذين اكتفوا من العلم بظاهره واكتفوا من العلم بالحفظ والتقليد، فإن هذا الكتاب يكون وبالا عليهم ينقلب ما فيه من حكمة فتنة لهم.

علاقة الوسطية

إن منهج الوسطية في فكر الشاطبي فسره الشيخ محمد فاضل بن عاشور بقوله: إن الشاطبي لما شاهد المجتمع الإسلامي من انحلال نهضت في نفسه همة الإصلاح، لكنه بقي حائراً في اختيار المنهج الذي يتوخاه في إصلاحه، وكانت حركة بين مذهبين: مذهب يفصل الفكر عن العمل، ومذهب يتجه إلى الباطن ويعرض عن الفكر والواقع معا، فاتجه إلى منهج يجمع بين النظر والعمل ويصلح الظاهر والباطن، فكانت الشريعة بمقاصدها منطلقه إلى الإصلاح، إصلاح ميولات النفس وجنوحها إلى ما لا يحل، وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل.

والسماحة واليسر ورفع الحرج هي المقصد الأعظم للشريعة الإسلامية، يؤخذ ذلك من كثرة النصوص الواردة بهذا المعنى، والسماحة مرتبطة بالفطرة الإنسانية، وهي الطبع الذي خلق الله عليه الإنسان، والفطرة تأبى الشدة والعنت، وتجنح إلى اليسر والرفق، والدين الحق، دين الفطرة، هو التزام بمنهج الوسطية التي لا تقوم مصلحة الناس إلا عليها، والخروج عنها إلى أحد الطرفين من الشدة واللين يعد خروجا عن قصد الشارع، فالمعتبر في هذا المعنى أن الشريعة تسير على طريق وسط لا انحراف فيه ولا ميل ولا إفراط ولا تفريط، وذلك هو الصراط المستقيم الذي جاء به الإسلام.

ولكن كيف يحقق الشارع الحكيم مصالح الخلق بهذه الوسطية؟

يشبه الشاطبي المفتي بالطبيب الماهر الذي يعطي الغذاء ابتداء على ما يقتضيه الاعتدال في توافق مزاج المغتذي مع مزاج الغذاء، ويخبر من سأله عن بعض المأكولات التي يجهلها المغتذي؛ أهو غذاء أم سم، أم غير ذلك؟ فإذا أصابته علة بانحراف بعض الأخلاط، قابله في معالجته على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر، ليرجع إلى الاعتدال وهو المزاج الأصلي والصحة المطلوبة، وهذا غاية الرفق، وغاية الإحسان والإنعام من الله سبحانه.

د. سالم بن نصيرة

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 79 مشاهدة
نشرت فى 2 أغسطس 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,276,603