أحمد الصاوي

عبر أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان مارس الصُناع والفنانون في أرجاء دار الإسلام من حدود الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً أعمالهم المعتادة في إنتاج ما تحتاجه المجتمعات الإسلامية من أدوات ومصنوعات للاستخدام اليومي في الطعام والشراب والمنازل ودور العبادة وجاءت جميعها وبغض النظر عن رخص أسعارها حافلة بالزخارف والألوان التي تعبر عن جماليات ووحدة الفن الإسلامي وتسابقت المتاحف العالمية على اقتنائها لعرضها في قاعاتها. وإذا كانت أيدي تجار العاديات قد فرقت التحف الإسلامية على أركان الكرة الأرضية فإن العزاء يبقى أنها حيث استقرت تتحدث عن ماضينا وتراثنا الفني التليد.

اللوفر، متحف فرنسا الأكبر، هو بلا جدال أشهر متاحف العالم قاطبة وأحفلها بالمعروضات الفنية من اللوحات والتماثيل، رغم أنه ليس أكبر متاحف العالم، لا من جهة المساحة المتاحة للعرض، ولا من ناحية كم المقتنيات الفنية والأثرية.

كان “اللوفر” في الأصل قلعة ملكية شيدها على ضفة نهر السين بالعاصمة باريس الملك “فيليب أوغست” عام 1190م تحسباً لأي هجوم مفاجئ قد يشن على الأسرة الملكية أثناء غيابه في الشرق العربي للمشاركة في الحروب الصليبية.

 

وسميت القلعة باسم المكان الذي شيدت فيه ثم تحولت بعد تعديل معماري محدود إلى قصر ملكي يقيم به حكام فرنسا، وبقي اللوفر مقراً للحكم إلى عام 1672م عندما هجره الملوك للإقامة بقصر فرساي، وذلك بدءاً من عهد لويس الرابع عشر. وبدءاً من عام 1699م شغلت مبنى اللوفر أكاديمية التمثيل، وكذا أكاديمية الرسم والنحت واستغل مسرح القصر في عرض المسرحيات، وذلك لقرن من الزمان.

 

وقد بدأت العناية بجمع اللوحات الفنية داخل قصر اللوفر في عهد “فرانسوا الأول” عندما اشترى 12 لوحة إيطالية من أعمال “تيتيان”، و”رفاييل”، و”ليوناردو دا فنشي”، كانت أبعدها شهرة على الإطلاق لوحة “الموناليزا”، أو “الجيوكوندا” لليوناردو دافنشي. ثم نمت المقتنيات تدريجياً لتصل إلى 200 قطعة تقريباً في عهد لويس الثالث عشر وقفزت قفزة كبيرة على يد هنري الثاني وكاثرين دو ميديسي حتى وصلت المقتنيات عند وفاة لويس الرابع عشر في عام 1715م إلى 2500 قطعة.

«متحف الجمهورية»

مقتنيات القصر ظلَّت تعرض لمتعة البلاط الملكي فقط حتى قيام الثورة الفرنسية عام 1789م، وعندما اعتلى لويس السادس عشر العرش قرر تحويل اللوفر إلى متحف في 10 أغسطس عام 1793م ليفتح للجمهور تحت اسم “متحف الجمهورية”.

لعب نابليون دوراً مهماً في زيادة مقتنيات المتحف بما استولت عليه جيوشه في حروبها بمصر والشام، فضلاً عمّا استولى عليه من تحف الدول الأوروبية التي هاجمها، وذلك على سبيل الغرامة، ولكن هزيمته أمام المتحالفين الأوروبيين في معركة واترلو أدت إلى فقدان المتحف، ليس فقط لما استولى عليه نابليون من دول أوروبا، بل ولبعض اللوحات الفنية التي نهبت بلا ممانعة.

وقد أصبح المتحف ملكاً للدولة في عام 1848م ورصدت له ميزانية خاصة لشراء المقتنيات الفنية الجديدة إضافة إلى بعض الأعمال الفنية التي قدمت كهدايا للمتحف، وهو ما ساعد على إثراء مجموعة الأعمال الفنية الأصلية ليصل عددها مؤخراً إلى قرابة 300 ألف عمل فني.

وشهد متحف اللوفر أكبر عمليات التوسعة والتطوير في عهد الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران في إطار الاحتفالات بمرور قرنين على افتتاحه باسم متحف الجمهورية.

وينقسم المتحف إلى أقسام حسب نوع الفن وحقبته الزمنية، أي أنه يجمع بين طريقتي العرض بالمواد والطرز الفنية ويبلغ مجموع مساحة قاعاته 13 كم2 تحتوي على أكثر من مليون قطعة فنية.

ويدخل زائر اللوفر لقاعات المتحف من خلال هرم زجاجي ضخم تم افتتاحه عام 1999م وتحيط به مجموعة نافورات رائعة ويبلغ عدد العاملين به 1500 شخص أما عدد الزائرين سنوياً فيبلغ أكثر من 5 ملايين.

ويحتوي المتحف على العديد من التحف الأثرية التي تمثل الفترات التاريخية المختلفة للدول العربية، فهناك الآثار المصرية والعراقية القديمة، وأيضاً الآثار الإسلامية من دول وفترات مختلفة، وبينها عدد لا بأس به من التحف التي قام الأوروبيون بالاستيلاء عليها خلال حملاتهم الصليبية على الشرق، ثم في الحقبة الاستعمارية. وقد كتبت عدة أعمال روائية لعلّ أهمها وأبعدها صيتاً رواية “شفرة دا فينشي” للكاتب العالمي “دان براون”.

ويقتني اللوفر عدة مئات من التحف الإسلامية التي تتميز بندرتها وطابعها الفني المميز، وهي تغطي تقريباً الأقاليم والعصور الإسلامية المختلفة، وأيضاً المواد المختلفة التي أنتجت بها الفنون التطبيقية ولا سيما من الخزف والنسيج والعاج والسجاد والمعادن.

تاريخ وفنون

هُناك أيضاً بعضاً من أطباق خزف البريق المعدني من العراق، وإيران، ومصر، والأندلس منها طبق رائع الزخرفة بوسطه تصميم زخرفي قوامه رسوم أنصاف مراوح نخيلية جرى تحويرها لتعطي الإيحاء بأنها رسوم لطيور، وقد وزعت بتوازن بديع ورسمت بدرجات مختلفة من البريق المعدني الأحمر والذهبي والمائل للخضرة. ومن مصر في العصر الفاطمي يعرض اللوفر طبقاً من خزف البريق المعدني به رسم لمجموعة من الطيور التي تقف على أغصان نباتية وقد وزعت بتراصف وتماثل مألوفين في منتجات الفنون الإسلامية.

وفي المتحف عدد كبير من المنتجات المعدنية الإسلامية لعلَّ أهمها مجموعة من الأباريق التي صنعت بخراسان في شمال إيران، وهي تزدان بزخارف محفورة ومطعمة بالفضة ومنها إبريق تشير كتاباته إلى أنه من صناعة “عثمان بن سليمان النخشواني” في عام 586 هـ “1190م”.

ومن القطع التاريخية المهمة التي يقتنيها اللوفر إبريق من النحاس المكفت بالفضة عمل حسب الكتابات المسجلة عليه للسلطان الملك الناصر يوسف صاحب حلب ودمشق، ويذكر النص أنه عمل بدمشق سنة 657هـ “1259م” على يد فنَّان من الموصل، وهناك أيضاً زهرية تعرف باسم مالكها الأصلي “بربريني” عليها أيضاً اسم السلطان الملك الناصر يوسف، ولعلَّ تلك القطع مما حمل من الشرق إبان فترة الحروب الصليبية.

صندوق اللوفر.. صنع في الأندلس

من أجمل القطع الفنية الإسلامية بمتحف اللوفر صندوق من العاج صنع في الأندلس وفقاً لأسلوب فني كان شائعاً في قرطبة حاضرة الخلافة الأموية الغربية، وكذا في عدد من المراكز الفنية القريبة. ويشبه صندوق اللوفر عدداً من صناديق العاج التي تؤرخ بفترة حكم الخليفة عبد الرحمن الناصر في نهاية القرن الرابع الهجري “11م”. وينفرد هذا الصندوق بخلوه من رسوم الطيور والحيوانات، حيث اقتصر في زخرفته بالكتابات الكوفية والرسوم النباتية التي نفذت بأسلوب الحفر الغائر. وقد ازدانت جوانب الصندوق العاجي، وكذا غطاءه برسوم لمراوح نخيلية يانعة المظهر، بينما نقش بالخط الكوفي حول غطاء الصندوق عبارات دعائية لصاحب الصندوق نقرأ فيها “بسم الله دائمة ونعمة كاملة”.

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 113 مشاهدة
نشرت فى 28 يوليو 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,310,515