ابن جبير
عمرو أبو الفضل ـ ابن جبير رحالة جاب البلدان الإسلامية وكتب عنها، واستحق بجهوده الجغرافية ومشاهداته أن يعد من أشهر الرحالة المسلمين الذين قاموا برحلات إلى المشرق العربي في القرنين السادس والسابع الهجريين.
ويقول الدكتور كارم غنيم- رئيس جمعية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والسنة - ولد محمد بن أحمد بن جبير، وكنيته أبو الحسن بن جبير، بمدينة بلنسية بالأندلس، وقيل بشاطبة. كما اختلف في مولده فقيل عام 540هـ، ورجحت المصادر أنه ولد في سنة 539 هـ - 1144م، ونشأ في أسرة عربية عريقة سكنت الأندلس عام 123هـ، قادمة من المشرق مع القائد المشهور بلج بن بشر بن عياض، وبدأ طلب العلم بحفظ القرآن الكريم واتقن علوم اللغة العربية بمدينة بلنسية على يد أبي الحسن بن أبي العيش وأبي عبد الله الأصيلي وابن يسعون، وارتحل إلى شاطبة لدراسة علوم الدين على يد أبيه الذي كان من كبار العلماء، والأخذ عن الفقهاء الثقات، وشغف بعلم الحساب والعلوم اللغوية والأدبية، وأظهر مواهب شعرية ونثرية رشحته للعمل كاتباً لحاكم غرناطة وقتذاك أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن أمير الموحدين، فسكن غرناطة، وذاع صيته لبراعته اللغوية والأدبية، ولما استدعاه الأمير أبو سعيد، وطلب منه أن يكتب عنه كتابا وهو يشرب الخمر في مجلسه، أرغم ابن جبير على شرب سبعة كؤوس من الخمر، وأعطاه سبعة أقداح دنانير، وصمم ابن جبير على القيام برحلة الحج بتلك الدنانير تكفيرا عن خطيئته.
وفي سنة 579هـ، خرج ابن جبير من غرناطة إلى جزيرة الطريف “الطرف الأغر” وعبر البحر من هناك إلى سبتة، ودخل سردينيا ومنها ركب سفينة ذاهبة إلى الإسكندرية يوم الخميس 29 شوال، 24 فبراير، وسارت السفينة في البحر تتقاذفها الأمواج ومرت بمساحة شاطئ الأندلس حتى ثغر دانية ثم جزر ميورقة ومنورقة ثم جزيرة صقلية ثم جزيرة اقريطش “كريت” ثم إلى الإسكندرية، وغادر إلى القاهرة ومنها سافر إلى صعيد مصر، فوصل إلى قوص التي مر فيها بالصحراء الشرقية إلى البحر الأحمر، ليستقل سفينة إلى ميناء عيذاب، ووصل إلى جدة، ورافق قافلة إلى مكة، فحج وأقام هنالك حوالي نصف عام، ثم زار المدينة، وخرج منها إلى الكوفة، وبغداد والموصل وحلب، وأقام بدمشق بضعة أشهر، وركب البحر إلى صقلية عائدا إلى غرناطة عام 581 هـ، وقد استغرقت رحلته سنتين ودون فيها مشاهداته وملاحظاته بعين في يوميات.
وأتبع ابن جبير هذه الرحلة برحلة ثانية في عام 585 هـ-1189م، دفعته إليها الرغبة في زيارة بيت المقدس بعد استردادها من الصليبيين على يد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، في سنة 583هـ، فغادر غرناطة أوائل ربيع الأول 585هـ، ثم عاد إليها أواسط شعبان 587هـ، بعد قضاء مناسك الحج. وبعد عودته تنقل بين مدن الأندلس وفاس، منقطعا إلى تدريس الحديث والتصوف ورواية ما عنده من أخبار. وما لبث أن قام برحلة ثالثة في أعقاب وفاة زوجته، التي كان يحبها حباً شديداً، فقد دفعه الحزن عليها إلى القيام بهذه الرحلة ليروح بها عن نفسه بعد ما ألم به من حزن على فراقها، فخرج من سبتة إلى مكة وبقي فيها فترة من الزمن ثم غادرها إلى بيت المقدس، وأمضى فترة بالقاهرة واستقر في الإسكندرية يحدث وينظم الشعر، وتتلمذ على يديه العديد من طلبة العلم منهم عبدالكريم بن عطاء الله، ورشيد الدين بن العطار، والحافظان أبو محمد المنذري وأبو الحسين يحيى بن علي القرشي.
مصنفاته
خلف ابن جبير مصنفات قليلة تميز فيها أسلوبه بالكثير من الحيوية وسهولة التعبير منها ديوان شعر يسمى “نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان”، وبعض القصائد والأشعار المبعثرة في كتب “الإحاطة” و”نفح الطيب” و”الذيل والتكملة”، وله ديوان مفقود عرف باسم “وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح”، كما ترك لنا كتابه عن رحلته الأولى إلى المشرق وتعرف بـ”رحلة ابن جبير”، وتعد من أهم المؤلفات في الرحلات، ورسم فيه الحياة بكل تجلياتها في القرن السادس الهجري وبداية السابع الهجري في المشرق والمغرب والانطباع الذي خلفته هذه المدن في نفسه والأهمية التي رأي أنها تستحقها، وتسجيل ما شاهده وما كابده في أسفاره، واهتم بذكر التاريخ الذي زار فيه كل مدينة أو مكان، مر به بطريق البحر أو البر. كما ذكر المسافات التي تفصل بين تلك الأماكن مقدرة بالأميال أو الفراسخ. وقدم معلومات وافية عن الآثار والمساجد والدواوين والمدارس وغيرها من المعالم المدنية والحضارية ودرس أحوالها، وحرص على تسجيل الماسي التي يتعرض لها المسلمون في بعض المدن والأقطار الواقعة تحت سيطرة الصليبيين، ووصف حال مصر في عهد صلاح الدين ومدحه لإبطاله المكس”الضريبة” المترتبة على الحجاج، ووصف المسجد الأقصى والجامع الأموي بدمشق والساعة العجيبة التي كانت فيه، وهي من صنع رضوان بن الساعاتي، وانتقد كثيرا من الأحوال، ومن أهم مشاهداته ما تحدث به عن صقلية وآثارها، من مساجد ومدارس وقصور، وعن الحضارة التي خلفها العرب في الجزيرة. وذكرت المصادر أن ابن جبير لم يكتب رحلته في شكل كتاب، بل كانت أوراقاً منفصلة مكتوبة بشكل مذكرات يومية صيغت بأسلوب أدبي بارع، جمعها أحد تلاميذه ونشرها في كتاب باسم “تذكرة الأخبار عن اتفاقات الأسفار” وعرفت فيما بعد بـ”رحلة ابن جبير”. وتوفي-رحمه الله- بالإسكندرية في سنة 614 هـ- 1217م، عن عمر يناهز الرابعة والسبعين عاما.
ساحة النقاش