خلال بعض مشاهد فيلم «كوزموبوليس» لدافيد كروننبرغ، والمأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتب الأميركي دون ديليللو، يطرح بطل الفيلم سؤالاً يبدو انه يلح عليه كالوسواس: «ما الذي تفعله سيارات الليموزين البيضاء الضخمة في الليل؟»... في شكل عام، يبدو السؤال على هذا النحو عادياً، وطرحه أقرب الى النزوة... ناهيك بأنّ ليس في حوارات الفيلم الأخرى أية إجابة واضحة عنه. هذه الإجابة – ويا لغرابة الصدف!! - تأتي عند نهاية فيلم آخر عرض بدوره في الدورة الأخيرة من مهرجان «كان» السينمائي، وبدوره – كما حال «كوزموبوليس» – لم يقنع لجنة تحكيم المهرجان بمنحه اية جائزة، مع انه، وأيضاً كما حال فيلم كروننبرغ كان يستحق جائزة وربما اكثر.

الفيلم الذي نتحدث عنه هو «سيارات مقدسة» (او بالإنكليزية «هولي موتورز») للفرنسي ليو كاراكس. ففي آخر هذا الفيلم وبعدما تركن سيارة بطله البيضاء الضخمة الى جانب اخوات كثيرات لها، يقوم حوار طريف بين السيارات مرفقاً بإضاءة مصابيحها على ايقاع الكلام. طبعاً لن يهمنا هنا فحوى الحوار. ما يهمنا هو تلك الصدفة المدهـــشة التي جعلت فيلمين، احدهما اميركي والثاني فرنسي، يعطيان جزءاً من البطولة لليموزين البيضاء الضخمة ذاتها، بيد ان «التشابه» بين الفيلمين لا يتوقف هنا. ففي الحالين ثمة سيارة تتجول براكبها خلال يوم واحد... وثمة دور أساسي بالتالي للسيارة او اشارات اليها بحيث تصبح اكثر كثيراً من مجرد وسيلة نقل. غير ان التشابه بين الفيلمين يتوقف هنا وكذلك لعبة التكامل بين سؤال الفيلم الأول وإجابة الفيلم الثاني.

 

فرادة شاعرية

«سيارات مقدسة» لا يشبه في حقيقته اي فيلم آخر، حتى وإن كان ينتمي بمعنى من المعاني الى سينما جان لوك غودار الشاعرية. اما اذا شئنا حقاً ان نقارب بينه وبين منتج ابداعي سينمائي آخر، فإن هذا المنتج لن يكون سوى المتن السينمائي لمخرجه الذي يعتبر حالة فريدة من نوعها في السينما الفرنسية، وربما في السينما في شكل عام، من دون ان نعتبر هذا حكم قيمة... بل مجرد تقرير امر واقع. فكاراكس الذي يعتبر الفتى المشاكس في السينما الفرنسية منذ سنوات طويلة، والذي غاب عن الشاشات طوال السنوات الماضية – باستثناء تحقيق فيلم قصير ضمن اطار فيلم جماعي عرض في «كان» قبل سنوات بعنوان «طوكيو» -، أراد من فيلمه هذا ان يكون نوعاً من «الخلاصة» لسينماه ككل... وأحياناً بالمعنى الحرفي للكلمة

ومن هنا يمكن النظر الى «سيارات مقدسة» على انه سيرة ذاتية لمخرج... ناهيك بأنه واحد من الأفلام التي تجعل السينما موضوعها الأساس وليس فقط انطلاقاً من ارتباط الفيلم بمخرجه. السينما وربما غيرها من الفنون ايضاً: المسرح والموسيقى والرقص... ومع هذا يبقى البعد الذاتي في الفيلم اساسه. ولعل هذا يبرز منذ البداية من خلال عنصرين اولين: كون الشخصية المحورية في الفيلم، مسيو اوسكار، تحمل الإسم العلم الحقيقي لكاراكس نفسه... ثم كون من يقوم بالدور هو الممثل ديني لافان، يعتبر ومنذ افلام كاراكس الأولى، اناه /الآخر المعبر عنه وعن هواجسه. ولئن كان كاراكس حمّل بطله هذا في معظم افلامه السابقة اسم اليكس، فإنه هنا يعطيه مباشرة اسمه. غير ان هذا ليس كل شيء كما سنرى مباشرة.

قلنا اعلاه ان ديني لافان يلعب دوره في الفيلم. وهذا القول يحتاج فوراً الى تعديل شديد الأهمية: اذا كان لافان يلعب دور مسيو اوسكار، فإننا سنرى مسيو اوسكار يلعب طوال ساعتي الفيلم – تقريباً – ما يقرب من عشرة ادوار... وذلك خلال اليوم الوحيد الذي يستغرقه سياق الفيلم. فالحال ان ما لدينا هنا هو ذلك المسيو اوسكار وقد خرج من بيته صباحاً ليستقل سيارته التي تقودها سائقته العملاقة (اديث سكوب التي كانت اشتهرت بالتمثيل في افلام المخرج جورج فرانجو، ما يجعل حضورها هنا نوعاً من التحية لهذا المخرج الفرنسي الذي يبدو اليوم منسياً بعض الشيء)... وخلال رحلة اليوم الواحد سيتحول هذا السيد، أمام اعيننا وانطلاقاً من سيارته، الى الكثير من الشخصيات الأخرى، وكأننا امام ممثل مسرحي – او سينمائي – ينتقل من دور الى دور.

وهذا التحول لا يتم بشكل سينمائي غامض بفعل توليف ما او خدع سينمائية، بل بشكل طبيعي من طريق الأزياء والماكياج والأكسسوارات... وكل هذا التبدل يحدث داخل الليموزين التي تبدو هنا عن قصد اشبه بقمرة الممثل خلف كواليس المسرح. ومهما يكن من أمر هنا، فإن حضور المسرح في الفيلم متضافراً مع الوجود السينمائي، يبدو واضحاً منذ اللقطة الأولى التي ترينا كاراكس نفسه يفيق من نومه ليكتشف من ثقب في جدار غرفته قاعة سينمائية – او مسرحية – وجمهورها المشرئب بأعناقه يتفرج. ان هذا المشهد الجدير بفيلم سوريالي للراحل لويس بونيال، يخدم هنا مدخلاً لما سيلي من رحلة مسيو اوسكار في ادواره المتعددة. ولكن ما هي هذه الأدوار؟ وما الذي تعنيه في سياق الفيلم؟

 

تحية لتاريخ السينما

في فيلم مثل «سيارات مقدسة» لا يكون من السهل عادة الإتيان بجواب واضح. غير ان ما يمكن قوله ببساطة هو ان الأدوار المتعددة التي يلعبها اوسكار، مأخوذة – على شكل تحية احياناً وعلى شكل حنين في احيان اخرى، ثم غالباً على شكل «زيارة» لعدد من الأنواع السينمائية – من تاريخ السينما في شكل عام، وسينما كاراكس في شكل خاص... ولعل المشهد الأكثر تعبيراً عن هذا هو ذاك الذي يلتقي فيه اوسكار (وقد تقمص هذه المرة شخصية اليكس بطل فيلم سابق لكاراكس هو «عاشقا البون نوف») ليلتقي بالمغنية كايل مينوغ – بديلة بشكل ما لجولييت بينوش بطلة ذلك الفيلم - ... ويدخلا معاً مبنى «الساماريتان» الباريسي الذي تدور احداث الفيلم السابق فيه ومن حوله. في الماضي كان المبنى المطل على «البون نوف» مزدهراً، اما اليوم فإنه مجرد أطلال.

ووسط هذه الأطلال تغني كايل واحدة من اجمل اغنياتها في استعادة يائسة للحب الخائب في ذلك الفيلم القديم... والحال ان «اليكس» الفيلم القديم هذا، هو واحد فقط من الأدوار التي يلعبها اوسكار بين فقرة وأخرى تقطع حوارات بينه وبين السائقة داخل الليموزين فيما هو يتزيا ويتبرج للقيام بالأدوار التالية. وهذه الأدوار منها تباعاً: مدير مصرف، غجرية عجوز تتسول، راقص في فرقة طليعية، عازف اكورديون يقود مجموعة مدهشة من العازفين داخل كاتدرائية فسيحة، رب عائلة يحاول اصلاح ابنته المراهقة، رجل مافيا، ممثل مسرحيّ...

ولعل ما يجدر بنا العودة اليه هنا هو ان بعض هذه الأدوار انما هي استعادة إما لشخصيات كان ديني لافان لعبها في افلام سابقة لكاراكس كان هو بطلها الرئيس، (ولكن في أداء جعل منه دائماً ذلك الأنا/الآخر، الذي لم يتوقف في الماضي ليو كاراكس عن جعله محور افلامه منذ تعرفه إلى لافان نفسه عند بداياته اوائل ثمانينات القرن العشرين) وإما لشخصيات سبق ان طالعتنا في انواع سينمائية اخرى تنتمي الى تاريخ الفن السابع. ونعرف طبعاً من خلال متابعتنا لمسيرة كاراكس/لافان، انهما اجتمعا في كل الأفلام التي حققها كاراكس حتى الآن في استثناء فيلم واحد هو «لولا إكس» – الذي يعتبر على اية حال أضعف افلام هذا المخرج وأكثرها ابتعاداً من خطه السينمائي، الجمالي العام -. ويقيناً ان هذه المزاوجة المهنية والموضوعية بين المخرج وممثله هي التي تضفي على الفيلم طابعه «الأنطولوجي» فيبدو، كما اشرنا اول هذا الكلام، اشبه بسيرة ذاتية/سينمائية مزدوجة... ولا شك في ان هذا البعد واحد من العناصر الرئيسة في فيلم قد يكفي سرد هذا للتعبير عن «غرابته» وفرادته.

 

غرابة مقلقة

والحال ان هذه الغرابة تعطي الحق لكثر ممن شاهدوا الفيلم فاعتبروه «مرتبكاً غامضاً» من الصعب عليه ان يوصل الى متفرجيه «رسالة ما». وآية ذلك ان فيلماً كهذا، هو في نهاية الأمر سيرة سينمائية لمخرجه، وبالتحديد سيرة تعتمد اللغة البصرية الإيحائية من دون تفسير ادبي يشتغل على اللغة، سيبقي خارجه كثراً من الذين لا يعرفون سينما ليو كاراكس... هؤلاء قد يتوخّون «فهم» ما يدور أمامهم على الشاشة فيضيّعون في المحاولة لذائذ الفيلم البصرية – وهي من دون حدود، لأننا هنا امام واحد من تلك الأفلام «البصرية» النادرة في سينما اليوم - او سيكتفون بالمشاهدة وتتبع تنقلات مسيو اوسكار بين ادواره فينغلق عليهم عالم الفيلم الحقيقي، العالم المرتبط بسينما لم تكفّ منذ ما يقرب من ثلاثة عقود عن طرح اسئلة الحب والخيبة والجنون، اسئلة السينما و«التمثيل» ولعبة الظواهر – المرتبطة اصلاً بذلك التمثيل – على متفرجين لا يبدون عادة كبير اكتراث بهذا. انطلاقاً من هذا كله يبدو الفيلم محيّراً في كيفية تلقيه...

ولعل هذا ما أبعد عنه نعيم لجنة التحكيم في «كان» ليؤكد مرة اخرى ابتعاد هذا المخرج الطموح والجريء عن الدروب الممهدة ما يفسر قلة انتاجه، وغياباته المتكررة عن الشاشة، غيابات لا تتوازى مع حضور اسمه منذ عقود بوصفه واحداً من الصانعين الكبار للسينما الشاعرية في فرنسا... وأوروبا في شكل عام.

 

ليو كاراكس: 5 أفلام من الفتى المشاكس في 30 عاماً

 

من المستحيل لمن يرى ليو كاراكس ان يخمّن انه تجاوز الخمسين من عمره. فهذا المخرج الذي يعرف بالإبن المشاكس للسينما الفرنسية تبدو عليه ملامح شباب دائم، وذلك على رغم مسحة الحزن التي تملأ عينيه ولا تستطيع ابتسامته الطيّعة ان تبددها إلا حين يضع نظارتيه الغامقتين الشهيرتين. مهما يكن من أمر، فإن حضور ليو كاراس (واسمه الأصلي الكساندر أوسكار ديبون) في السينما الفرنسية، يتجاوز ومن بعيد حجم انتاجه السينمائي الذي لم يزد طوال اكثر من ثلاثين سنة عن خمسة افلام طويلة وبضع شرائط قصيرة.

غير ان اللافت في حالته هو ان كلّ فيلم من افلامه يشكّل حالة خاصة ويثير سجالاً وليس دائماً من موقع الإعجاب. ومع هذا لبعض هذه الأفلام معجبون من دون قيد او شرط، ومنهم من هم بين كبار السينمائيين والنقاد من الذين يرون في «جنون» سينما كاراس «عودة الى جوهر الفن وحرية الإبداع»... ومن هنا تعتبر ثلاثة على الأقل من أفلامه علامات في التاريخ المعاصر للسينما الحرة الأوروبية («صبيّ يلتقي فتاة»- 1984، «دم فاسد»– 1986 و «عاشقا البون نوف»-1991).

وعلى اية حال، اذ نذكر هذه الأفلام، فإننا كمن نذكر معظم فيلموغرافيا هذا المخرج الذي ولد عام 1960 وبدأ حياته المهنية كاتباً وناقداً ذا اسلوب شاعري لا ينكر انه سيكون اسلوبه نفسه في سينماه. ولئن حرص ليو على ان يطلق على بعض افلامه – ولا سيما فيلمه الأخير «هولي موتورز» – عناوين باللغة الإنكليزية على رغم فرنسية الأفلام، فإن هذا يتلاءم مع ازدواجية انتمائه، فهو فرنسي من ناحية الأب وأميركي من ناحية الأم، وحاز بالتالي ثقافة مزدوجة منذ صبى اولع فيه بموسيقى الروك التي تحضر بوفرة في أفلامه. وبقي ان نذكر اخيراً ان كاراكس تحوّل الى ما يشبه الأسطورة من خلال الصعوبات الخرافية التي رافقت تحقيقه فيلمه الأشهر «عاشقا البون نوف»، والذي اضطر من اجله الى بناء ديكور للجسر الباريسي الشهير (بون نوف) ومخازن الساماريتان كلفت ملايين الفرنكات في فيلم افلس منتجيه وأوقف مخرجه عن العمل سنوات.

المصدر: دار الحياة
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 95 مشاهدة
نشرت فى 22 يوليو 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,306,215