س: هل يتنوع عذابُ القبر، أم أنه ثابتٌ لا يتغيَّر؟
ج: عذاب القبر يتنوع من مقبور لآخر:
فهناك من يُضرب بمِطراق من حديد، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري: ((ثم يُضربُ بمطراق من حديدٍ بين أُذنَيه، فيصيح صَيحةً فيسمعها مَن عليها غير الثَّقلين))، وعن أحمد: ((ثم يُقيَّض له أعمى أَصمُّ أبكمُ في يده مِرزبَّة لو ضُرب بها جبلٌ كان تُرابًا)).
وهناك من تَنهشه الحيَّاتُ العظيمة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمدُ وابن حبَّان والدَّيلَمي: ((يُسلط على الكافر في قبره تسعةٌ وتسعون تِنِّينًا تَنهشه وتَلدغُه حتى تقومَ الساعةُ، فلو أن تنينًا[1] منها نفخت في الأرض ما أنبت خضرًا)).
وهناك مَن يُضيَّق عليه القبرُ حتى تختلف أضلاعُه.
وهناك مَن يُفرَش له من النار.
وهناك مَن يُمثَّل له عملُه الخبيثُ على هيئةِ رجل قَبيح الوجه والثِّياب مُنتن الرِّيح.
وهناك مَن يُشرشَر شِدقُه ومنخرُه وعينُه إلى قفاه بالكلُّوب (الكذَّاب).
وهناك مَن يَسبح في بحر الدَّم، ويُلقم الحَجرَ (آكلُ الرِّبا).
وهناك مَن يُحبسون في تَنُّور وتُقاد عليهم النار أسفل منهم (الزناة والزواني).
وهناك مَن يُثلَغ رأسُه بالحَجر (الذي ينام عن الصَّلاة المكتوبة، ويَهجر القُرآن بعد تعلُّمه).
وهناك مَن تَشتعل عليه الشَّملةُ نارًا في قبره (الغلول من الغنيمة).
وهناك مَن يُعلَّق بعرقُوبِه مُشقق شدقه (الذين يفطرون قبل تحلة صومهم).
وهناك مَن تَنهش الحيَّات ثديها (التي تمتنع عن إرضاع الأولاد بغير عذر).
س: هل عذاب القبر دائم أم مُنقطع؟
ج: قال الإمام ابن القيِّم: جوابها له نوعان:
النَّوع الأول: نوع دائم:
ويدل على دوامه قوله تعالى: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ﴾ [غافر: 46]، ويدل عليه ما تقدم في حديث جابر بن سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: ((فهو يُفعل به ذلك إلى يوم القيامة)).
وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في قصة الجريدَتَين: ((لعلَّه يُخفف عنهما ما لم يَيبَسَا))، فجعل التَّخفيف مُقيَّدًا بمُدَّة رُطوبتهما فقط.
وفي حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((ثم أتى على قوم تُرضَخ رؤوسهم بالصَّخر، كلما رُضخت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء)) وقد تقدَّم.
وفي "الصحيح" في قصة الذي لَبِس بُردَين وجعل يمشي يَتبختر فخسَف اللهُ به الأرض، فهو يَتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
وفي حديث البراء بن عازب في قصة الكافر: ((ثم يُفتح له بابٌ إلى النَّار، فينظُر إلى مَقعده فيها حتى تَقوم الساعة)).
رواه الإمام أحمد، في بعض طُرقه: ((ثم يُخرق له خرق إلى النَّار، فيأتيه مِن غمِّها ودُخَانها إلى يوم القيامة)).
النوع الثاني: إلى مدة ثم ينقطع:
وهو عذاب بعض العُصاة الذين خفَّت جرائمهم فيعذب بحسب جُرمه، ثم يُخفَّف عنه كما يُعذَّب في النار مدَّة، ثم يَزول عنه العذاب، وقد يَنقطع عنه العذابُ بدُعاء، أو صدقةٍ، أو استغفارٍ، أو ثواب حجٍّ، أو قراءة تصل إليه من بعض أقاربه أو غيرهم[2]، وهذا كما يشفع الشافع في المُعذَّب في الدنيا، فيخلص من العذاب بشفاعته، ولكن هذه شفاعة قد لا تكون بذلك بإذن المشفوع عنده، والله - سبحانه وتعالى - لا يتقدم أحد بالشَّفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع إذا أراد أن يرحم المشفوع له، ولا تغتر بغير هذا، فإنه شرك وباطل يتعالى الله عنه، ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 255]، ﴿ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ﴾[الأنبياء: 28]، ﴿ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ﴾ [يونس: 3]، ﴿ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ ﴾ [سبأ: 23]، ﴿ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الزمر: 44]؛ (الروح: ص 119، 120، المسألة الرابعة عشرة).
ويقول الحافظ ابن حَجر رحمه الله:
"والعذاب يستمر إذا كان العبد كافرًا أو منافقًا نِفاقَ كُفر، وإن كان مسلمًا عاصيًا فيخلتف باختلاف كِبَر المعصية وصِغَرِها، وحصول العفوِ عن بعض العصاة دون بعض، فقد يُعذَّب بعضُ العصاة، وقد لا يستمر التعذيبُ على بعض العصاة، وقد يُرفع عن بعض".
وهذا ما قرَّره ابن أبي العز في "شرح الطحاوية" (ص 401) حيث أجاب عن السؤال السابق فقال: جوابه: أنه نوعان: الأول: منه ما هو دائم، كما قال تعالى: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 46].
وكذلك في حديث البرَّاء بن عازب في قصة الكافر: ((ثم يُفتح له بابٌ إلى النار، فينظرُ إلى مَقعده فيها حتى تقوم الساعة))؛ (رواه أحمد في بعض طرقه).
الثاني: أنه مدَّة ثم ينقطع، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفَّت جرائمهم، فيُعذَّب بحسب جُرمه ثم يُخفَّف عنه.
إشكال والردُّ عليه:
مرَّ بنا أن الكافر والمنافق يستمر عذابه إلى يوم القيامة ولا يتوقف، كما قال تعالى: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ﴾ [غافر: 46]، لكن أليس هذا يتعارض مع قوله تعالى حكاية عن الكافرين: ﴿ يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾[يس: 52]؛ حيث بيَّنت الآية أنهم كانوا نائمين لا يشعرون بشيء.
والردُّ على هذا كما قال أهل العلم: إن هذه النومة تكون بين النفختين.
قال الإمام الطبري - رحمه الله - في تفسيره هذه الآية: (10/450):
"هؤلاء المشركون لما نُفخ في الصُّور نفخة البعث لموقف القيامة فرُدَّت أرواحهم إلى أجسامهم، وذلك بعد نومة ناموها، وذلك قوله تعالى حكاية عنهم: ﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا ﴾ [يس: 52]، وقد قيل: إن ذلك نومة بين النفختين".
وقال العلامة الشِّنقيطي في "أضواء البيان" (6/489):
"والتحقيق أن هذا قول الكفَّار عند البعث، والآية تدل دلالةً لا لَبس فيها على أنهم ينامون نومة قبل البعث، كما قال غير واحد، وعند بعثهم أحياء من تلك النومة التي هي نومة موت، يقول لهم الذين أوتوا العلم والإيمان: ﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾، أي: هذا البعث بعد الموت"؛ اهـ.
وقد بيَّن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن هناك مدَّة من الزمان بين النَّفختين:
فقد أخرج الإمام مُسلم من حديث أبي هُريرة - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما بين النَّفختين أربعون))، قالوا: يا أبا هُريرة، أربعون يومًا؟ قال: أَبَيتُ، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أَبَيت، قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: ((أبَيت، ويبلَى كل شيء من الإنسان إلا عَجب ذَنَبه، فيه يُركَّب الخَلق".
وفي هذا الحديث دلالة على أنهم يموتون بين النَّفختين مِقدار أربعين، ولم تحدد تلك الأربعون.
ويدل على ذلك أيضًا الحديث الذي أخرجه البُخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تُخيروني على موسى، فإن الناس يُصعَقُون يوم القيامة، فأُصعق معهم، فأكونُ أوَّل من يُفيق، فإذا بموسى باطشٌ بجانب العرش، فلا أَدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله)).
إذًا الآيات والأحاديث الدَّالَّة على استمرارِ العذاب من باب العُموم، وقد خُصِّصت بآية "يس" والأحاديث السَّابقة الذِّكر في هذا القول.
مُلاحظة:
ذهب بعضُ أهل العلم إلى أن العذاب مُستمر غير مُنقطع إلى قيام الساعة، وليس هناك نَوم. والمقصود من الآية: أن الكُفَّار إذا عاينوا جهنم وأنواعَ عذابها صار عذابُ القبر في جنبها كالنَّوم، ولكن المعنى الأول أظهرُ وأرجح.
[1] التنين: الحيَّة العظيمة.
[2] هذا الكلام فيه نظر، فقد ذهب ابن القيم إلى وصول ثواب القراءة من الغير للميت وهذا مرجوح، والراجح: أنها لا تصل