﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].

 

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

القبر: هو تلك الحفرة الضيِّقة التي لا أنيسَ بها ولا جليس، ولا صديق ولا سمير، اللهمَّ إلا عمل صالح قدَّمه الميت قبل وفاته، فهو أنيسٌ في قبره، ومُزيل وحشته في رمسه.

 

القبر: هو ذلك المكان الذي يضمُّ بين جوانبه الجثث الهامدة التي لا حراك بها، ولا نبض في عروقها، والأجسام البالية، والعظام النَّخِرة، والأشلاء المبعثرة، والشعور المتناثرة، والأوصال المتقطعة.

 

القبر: مِعْوَل هدم الرؤوس والأبدان، وبيت الهوام والديدان، ومسيل الصديد والدماء، ومحط البلى والفناء.

 

القبر: موطن العظماء والحقراء، والحكماء والسفهاء، ومَنزل الصالحين السعداء، والطالحين الأشقياء.

 

القبر: محكمة السؤال والمناقشة، والاختبار والمراجعة، والإضراب والأهوال، والتوفيق والتثبيت.

 

القبر: إما روضة من رياض الجَنَّة، أو حفرة من حفر النار، وإما دار كرامة وسعادة، أو دار إهانة وشقاوة.

 

القبر.. رؤية من الداخل!!

 

قال عمر بنُ عبدالعزيز - رحمه الله - لبعض جلسائه يومًا:

"يا فلانُ، لقد بِتُّ الليلةَ أتفكَّرُ في القبر وساكنه، إنك لو رأيتَ الميت بعد ثلاث في القبر، لاستوحشت من قُربه بعد طول الأُنس منك بناحيته، ولرأيت بيتًا تجول فيه الهوامُّ، ويجري فيه الصديد، وتخترقه الديدان، مع تغيُّر الرائحة، وبلى الأكفان، بعد حسن الهيئة، وطيب الرِّيح، ونقاء الثوب، ثم شهق شهقة خرَّ مغشيًّا عليه"؛ (رواه ابن أبي الدنيا).

 

وصدق عمرُ بن عبدالعزيز، فإنك لو نظرتَ إلى القبر لرأيت مَنظرًا فظيعًا، ستجد لحمًا مُقطَّعًا، ودماء تسيل، وصديدًا يجري، وأشلاءً مُمزَّقة، وعظامًا متناثرة، وهوامَّ وديدانًا تجول بجسد الإنسان، يا له من منظر تقشعر له الأبدان!

 

وصدق الحبيب العدنان -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول كما عند الترمذي: ((ما رأيتُ مَنظرًا قطُّ إلاَّ والقبرُ أفظعُ منه))؛ (صحيح الجامع: 5623).

 

ودخل رجلٌ على عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - فتعجَّب من تغيُّر صورته لكثرة الجهد والزُّهد والعبادة، فقال له عمر: "يا فلان، لو رأيتني بعد ثلاث، وقد أُدخِلتُ قبري، وقد خرجت الحدقتان، فسالتا على الخدَّين، وتقلصت الشفتان عن الأسنان، وانفتح الفم، ونتأ البطن فعَلاَ الصدر، وخرج الصُّلب من الدُّبُر، وخرج الدودُ من المناخر، لرأيتَ أعجبَ مما تراه الآن".

 

عن شعيب بن أبي حمزة قال:

"كتب عمر بن عبدالعزيز إلى بعض مدائن الشام: أما بعد.. فكم للتراب في جسد ابن آدم من مأكل! وكم للدود في جوفه من طريق مخترق! وإني أُحَذِّركم ونفسي - أيها الناس - العرضَ على الله عز وجل".

 

وكان بعضهم يَذكر حاله عند دخول القبر فيقول:

ضَعُوا خَدِّي عَلَى لَحْدِي ضَعُوهُ وَمِنْ عَفرِ التُّرَابِ فَوَسِّدُوهُ وَفُكُّوا عَنِّي أَكْفَانًا رِقَاقًا وَفِي الرِّمْسِ البَعِيدِ فَغَيِّبُوهُ فَلَوْ أَبْصَرْتُمُوهُ إِذَا تَقَضَّتْ صَبِيحَةُ ثَالِثٍ لَتَرَكْتُمُوهُ وَنَادَاهُ العَلِيُّ ذَا فُلاَنٌ هَلُمُّوا فَانْظُرُوا هَلْ تَعْرِفُوهُ حَبِيبُكُمُ وَجَارُكُمُ المُفَدَّى تَقَادَمَ عَهْدُهُ فَنَسِيتُمُوهُ

 

وذات يوم شيَّع عُمر بنُ عبدالعزيز - رحمه الله - جنازة، فلما انصرفوا تأخَّر هو، فقال له بعض أصحابه: يا أمير المؤمنين: جنازة أنت وليُّها تأخرتَ عنها وتركتَها؟! قال: نعم، ناداني القبر من خلفي: يا عمر بن عبدالعزيز، ألا تسألني ما صنعتُ بالأحبَّة؟ قلتُ: بلى، قال: خرَّقت الأكفان، ومزَّقت الأبدانَ، ومصَصتُ الدَّمَ، وأكلتُ اللَّحم، قال: ألا تسألني ما صنعت بالأوصال؟ قلت: بلى، قال: نزعتُ الكتفين من الذراعين، والذراعين من العُضدَين، والعضدين من الكتفين، والورِكين من الفخذين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين، ثم بكى، وقال: ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وشابُّها يهرم، وحيُّها يموت، فلا يغرنَّكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها؛ فالمغرور من اغتر بها.

 

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [فاطر: 5].

 

فيا ساكن القبر غدًا، ما الذي غرَّك من الدنيا؟!

 

فأين سُكَّانها الذين بنوا مدائنها، وشقوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأقاموا فيها دهورًا؟! فاغتروا بقوتهم فركبوا الذنوبا!!

 

سَلْهُم.. ماذا صنع التراب بأبدانهم، والهوام بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم؟

 

سَلْهُم.. عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون؟ وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون؟

 

سَلْهُم.. عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان؟

 

محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفَّرت الوجوه، وغيَّرت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزَّقت الأشلاء!!

 

فأين حجَّابُهم..؟! وأين خَدمهم وعبيدهم..؟! أين دارهم الفيحاء..؟! أين رقاق ثيابهم..؟!

 

أين طيبهم..؟! أين بخورهم..؟! أين كسوتهم لصيفهم وشتائهم..؟!

 

فمنهم - واللهِ - المُوسَّع له في قبره، المُنعَّم فيه، ومنهم - واللهِ - المُضيَّق عليه في قبره، المُعذَّب فيه.

 

فيا للقبور.. ظاهرها تراب وبواطنها حسرات، ظاهرها بالتراب والحجارة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها.

 

تالله لقد وَعظَتْ فما تركت لواعظٍ مقالاً، ونادت: يا عُمَّار الدنيا، لقد عَمَّرتُم دارًا مُوشِكةً بكم زوالاً، وخرَّبتم دارًا أنتم مسرعون إليها انتقالاً.

 

عَمَّرتُم بيوتًا لغيركم منافعها وسُكْنَاها، وخَرَّبْتُم بيوتًا ليس لكم مساكنُ سواها.

 

يا للقبور... إنها دار الاستباق، ومستودع الأعمال، وجني الحصاد.

 

إنها محل للعِبَر، رياض من رياض الجَنَّة، أو حفرة من حفر النار؛ (الروح لابن القيم).

 

فيا للقبور... إنها أول منازل الآخرة:

 

فقد أخرج الترمذي وابن ماجه عن هانئ مولى عثمان قال:

"كان عثمان - رضي الله عنه - إذا وقف على قَبر بكى حتى يبلَّ لحيته، فقيل له: تَذكُرُ الجَنَّة والنارَ فلا تبكي، وتبكي من هذا؟! فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه، فما بعده أشدُّ منه"؛ (صحيح الجامع: 1684).

 

هذا هو القبر...

أول منزل من منازل الآخرة؛ فالرحلة إلى الدار الآخرة تبدأ مع أول ليلة في القبر، يا لها من ليلة.

 

يقول الحسن البصري - رحمه الله -:

"يومان وليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهن قط:

ليلة تبيت مع أهل القبور لم تبت ليلة قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة.

أما اليومان: يوم يأتيك البشيرُ من الله، إما إلى الجَنَّة وإما إلى النار.

ويوم تُعطى كتابك إما بيمينك وإما بشِمالك".

فتعالَ أخي الحبيب.. نعيش أنا وأنت بقلوبنا!

 

ما يحدث في أول ليلة في القبر؟ وما يكون فيها من أهوال؟

أولاً: كلام القبر لابن آدم:

تخيَّل أخي الحبيب.. إذا وضعك أبناؤك وأحِبَّاؤك في قبرك، وأغلقوا عليك فأحكموا الإغلاق، ثم تركوك وحيدًا وانصرفوا عنك، وأنت تسمع قرْعَ نعالهم، ذهبوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، تركوك في هذا الجو المخيف المُفزع، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرجْتَ يدك لم تكد تراها، ظلمة مُخيفة، سكون قاتل، جو موحش.

 

وفي هذا الجو الموحش، والسكون القاتل، والظلمة المخيفة، تجد مَن يُحدِّثُك ويُكلِّمُك، يا له من هول يَشيب له الولدان! مَن المتكلم؟ إنه القبر.. فإذا كان العبد صالحًا قال له القبر: مرحبًا وأهلاً، وإذا كان عاصيًا قال له القبر: لا مرحبًا ولا أهلاً.

 

فقد أخرج الترمذي - بسند فيه مقال - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:

"دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُصلاَّه، فرأى ناسًا كأنهم يَكْتَشِرون[1]، قال: ((أما إنكم لو أكثرتم ذِكر هادم اللذَّات لشغلكم عما أرى، فأكثروا من ذكر هادم اللذات - الموت - فإنه لم يأتِ على القَبر يوم إلا تكلم فيه، يقول: أنا بيتُ الغُربة، أنا بيت الوَحدة، أنا بيت التُّراب، أنا بيتُ الدود، فإذا دُفِن العبد المؤمن قال له القبر: مرحبًا وأهلاً، أما إن كنت لأحبَّ من يمشي على ظهري إلي، فإذا وُلِّيتُك اليوم وصِرتَ إلي، فسترى صنيعي بك، قال: فيتسعُ له مدَّ بصرِه، ويفتح له باب إلى الجَنَّة.

 

وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر، قال له القبر: لا مرحبًا ولا أهلاً، أما إن كنتَ لأبغض من يمشي على ظهري إلي، فإذا وُلِّيتُك اليوم وصِرتَ إلي، فسترى صنيعي بك، قال: فيلتئم عليه حتى تلتقي عليه وتختلف أضلاعه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصابعه فأدخل بعضها في جوف بعض، قال: ويُقيِّض اللهُ له سبعين تنِّينًا، لو أن واحدًا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئًا ما بقيت الدنيا، فينهشَنْه ويخدِشْنَه حتى يُفضى به إلى الحساب))، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما القبر روضة من رياض الجَنَّة، أو حفرة من حفر النار))"؛ (ضعيف الجامع:1231).

 

يا له من موقف مَهيب، ومَشهد عظيم عندما تجد جدران القبر تحدثك!

 

فقد جاء عند أبي نُعيم في "حليته" عن عبيد بن عمير قال: "يُجعل للقبر لسان ينطق به، فيقول: يا ابن آدم، كيف نسيتني؟! أما علمت أني بيت الأكلة، وبيت الدود، وبيت الوحشة".

 

أخرج ابن المبارك بسند صحيح في "زوائد الزهد" لنعيم عن أسيد بن عبدالرحمن - رحمه الله - قال:

"بلغني أن المؤمن إذا مات وحُمِلَ، قال: أسرعوا بي، فإذا وُضِعَ في لحده كلَّمته الأرض فقالت له: إن كنتُ لأحبُّك وأنت على ظهري، فأنت الآن أحب إلي، فإذا مات الكافر وحُمِلَ قال: ارجعوا بي، فإذا وُضِعَ في لَحده كلَّمته الأرضُ فقالت: إن كنتُ لأبغضك وأنت على ظهري، فأنت الآن أبغض إليَّ".

 

وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عبيد بن عمير أيضًا أنه قال: "إن القبر ليقول: يا ابن آدم، ماذا أعددتَ لي؟ ألم تعلم أني بيت الغُربة، وبيت الوَحدة، وبيت الأكلة، وبيت الدود؟!".

 

وأخرج ابن المبارك كما في "زوائد الزهد" لنعيم عن عبدالله بن عبيد بن عمير قال: "بلغني أن الميِّت يقعد في حُفرته، وهو يسمع خطو مشيِّعيه، ولا يكلمه شيء أول مِن حفرته، تقول: ويحك ابنَ آدم!! أليس قد حُذِّرْتَني وحُذِّرْتَ ضيقي، وظُلمتي، ونَتنِي، وهَوْلي؟!

 

هذا ما أعددتُ لك، فما أعددتَ لي؟".

 

أخي الحبيب..

اقرأ هذا الكلام بعيني قلبك، وعش هذه اللَّحظة، واستعد لها من الآن، فإنها آتية لا ريب، والسعيد من وُعِظ بغيره.



[1] يكتشرون: يضحكون، والكشر ظهور الأسنان للضحك.



alayman

اللهم ما اجعله خالصا لوجهك يا كريم وانفعنا به واجعله فى ميزان حسناتنا

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 112 مشاهدة
نشرت فى 15 ديسمبر 2019 بواسطة alayman
alayman
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

114,586