جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
ليست الحدود بين الدول مجرد أسلاك تشد حول خواصر المدن لتربطها عنوة وتضمها قسرا. إنما الحدود خنادق يحفرها التاريخ حول أناس تجمعهم فكرة أو معتقد أو مصير. لهذا تحولت الأرض في مخيلة الشعوب قديما إلى حرملك، وأصبح الدفاع عنها واجبا مقدسا يحقر أمامه كل غال ونفيس.
وجاء الاستعمار العسكري في العصر الحديث ليجند أصحاب الأرض للدفاع عن حدودهم المغتصبة وأرضهم السليبة، ومن يومها، بدأ مفهوم الحدود يتغير شيئا فشيئا في مخيلة الشعوب، لكنهم ظلوا يدافعون عن أراضيهم التي لا ينالون من خيرها إلا بقدر ما يُسمح للأجير كي يقيم أوده. وشيئا فشيئا، تحول الدفاع عن القيم إلى دفاع عن اللقمة، وصارت الشعوب تدور حول أسلاكها الشائكة بحثا في بقايا الولائم عن كسرات خبز يابسة لا تسمن ولا تغني من فاقة.
ويوم لفظت الحدود مستعمريها، قفز أتباعهم على كراسيي الحكم، واستبدلت البلاد قسوتها المستوردة بقسوة تحمل ملامح وطنية. والتبس مفهوم الحدود على المواطن البسيط الذي نسي حينا من الدهر ملامحه. لكنه ظل يدور حول أسلاكه بنفس الخطى الرتيبة ليحمي بلادا ربما تصبح له بعدما نفضت عن ترابها دنس المستعمر.
وشيئا فشيئا، أدرك الجنود الطيبون أنهم مجرد عمال سخرة، وأن الملامح الواحدة لا تحمل بالضرورة نفس الهم ونفس الغايات. وصار القفز فوق الحدود الذي كان في القديموخيانة لا تغتفر ضرورة حياة.
كان الجنود يرمون ظهورهم المتعبة فوق أي شاحنة مهاجرة أو سفينة مارة لتحملهم إلى أي أرض ليست لهم، فلا فرق بين تراب وتراب على أي حال. ولم يبال أكثرهم إن مات حرقا أو غرقا أو كمدا. المهم أن يتمرد على بلاد لفظته كما تلفظ الخاطئة مشيمتها. وتحولت الحدود في المفهوم الشعبي من أسوار تحمي إلى أسوار تضيق كالقبور حول ساكنيها. ولم تعد حماية الحدود مدعاة للفخر كما كانت في القديم.
فما الذي يحميه حرس الحدود على أية حال غير عصبة من الأفاقين الذين يحتالون بالشعارات الرخيصة ليقنعوا شعوبهم بالوقوف كالخشب المسندة حول أسلاك صدئة لتخترق الرياح القوارص ستراتهم البالية وتسفو وجوههم رمال الصحراء، ويتعرضون للقصف والخطف والمساومة. شيئا فشيئا، كفر الوطنيون بأسلاكهم، وقرروا تجاوز الحدود أو المتاجرة بها أو بسلاح لا يعرفون لأي غاية يحملونه وعلى من يرفعونه بعد أن صار العدو وليا حميما.
وعندما هانت على الحراس حدودهم، كان لابد من طمسها تماما حتى يتوارى الأثر بعدما توارت العين. وبدأت خطة تذويب المفاهيم تعمل على قدم وساق، حتى تحولت الحدود إلى معتقلات مسيجة، وصارت الأعلام خرقا بالية، وأصبح الدين خرافة والقيم تراثا تافها. وأغرانا المستعمرون بالتمرد على الحدود ويسروا سبل تجاوزها واختراقها.
ثم عادوا في خبث ودهاء ليذكرونا بتاريخ نسيناه، وقيم تجاوزناها لأنهم يعرفون جيدا أننا نسينا الملامح التي وحدتنا يوما، وأننا تفرقنا في شعاب الخلاف كما تفرقت بنو إسرائيل ذات معصية. عرف الخبثاء أن بأسنا اليوم بيننا شديد، وأن كراهية الواحد منا للآخر أشد وأنكى من كراهيته لمن سلبوا التاريخ وانتهكوا العرض. وأدرك القناصون أن أحدا منا لن يستطيع قيادة خراف شعوبنا الضالة في أوديتها السحيقة، فلزموا مواقعهم فوق جبال التاريخ ينتظرون حتى يفرغ الواحد منا من أخيه لينقضوا علينا كما تنقض الأكلة على قصعتها.
كم نحتاج اليوم إلى الإيمان بالحدود، وأننا لسنا أجراء ولا متسولين، وأن دوراننا حول أسلاكنا الشائكة ليس مذلة ولا امتهانا. نحتاج أن نتوحد على غاية قبل أن نجتمع تحت راية. نحتاج أن نثق بأننا لا ندافع عن ثلة من التجار المهرة بوقوفنا في صقيع التاريخ أمام عواصف باردة تأتينا من كل مكان.
ونحتاج إلى مكاشفة، وإلى ثقة صارت أندر من مطر الصيف في سياساتنا المتصدعة. نحتاج أن ندرك حدود الوطن الذي نلتف حول سياجه وأن ندرك أننا لسنا طرفا في مبادلة رخيصة، وأن قيمنا وتاريخنا المشترك ليس معروضا للبيع. نحتاج قبل أن نلتف حول الحدود أن نعرف إن كان الوطن يعترف بنا كأبناء أم لا زال يعاملنا كلقطاء يكافئنا جكمرتزقة يحمون حدودا ليست لهم.
المصدر: عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة ..
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير :
د. علاء الدين سعيد