لا أعرف عن هذا الرجل سوى اسمه، لكنه يسبب لى وجعا وأرقا مستمرين منذ عرفت قصته، التى تسرب إلى شعورا بالذنب لم يفارقنى طول الوقت. ذلك أنه أحد الذين أسهموا فى انقشاع الظلمة التى حلت بمصر، ودفعوا غاليا ثمن إطلاق سراح 85 مليون مواطن عانوا من الذل والهوان طيلة أكثر من ثلاثين عاما. هو أقل من شهيد وأقل من حى. فالشهيد يموت مرة واحدة وتصعد روحه إلى بارئها. لكن صاحبنا هذا قتلوه وتركوه يمشى على قدميه. فقأوا عينيه وتركوا له بقية جسده وروحه.
كان طبيب الأسنان أحمد حرارة البالغ من العمر واحدا وثلاثين عاما قد فقد عينه يوم 29 يناير الماضى، حين أعلن شعب مصر غضبته وثورته على الرئيس السابق ونظامه. كان واحدا من الذين أطلق عليهم الأمن المركزى رصاصاته، فأصاب الخرطوش وجهه وعنقه وصدره. اخترقت قرنية عينه اليمنى أربع شظايا، وأصابت واحدة عنقه، وسبب له الخرطوش نزفا فى الرئة. حين نقل إلى المستشفى ظل فى غيبوبة طوال ثلاثة أيام، ولم يستطع الأطباء إنقاذ عينه المصابة، فاستسلم لقدره، وغطى عينه المعطوبة بقطعة من الرصاص كتب عليها 28 يناير، تاريخ اغتيالها وإطفاء نورها. ثم أمضى شهرين تحت العلاج فى بيته، حتى استعاد عافيته واستأنف حياته العادية.
يوم 19 نوفمبر، حين انقضت قوات الأمن المركزى على المعتصمين فى ميدان التحرير، الذين كانوا أهالى الشهداء والمصابين، فإن الرجل كان واحدا من الذين استفزهم التصرف واستشعروا المهانة. فخرج مع الألوف الذين انتفضوا يومذاك دفاعا عن كرامتهم واحتجاجا عن ذلك السلوك الأخرق. وكان نصيبه رصاصة أصابت عينه الثانية وأطفأت نورها إلى الأبد.
اعرف أن مئات الرجال الشجعان فقدوا حياتهم فى تلك المظاهرات، وأن عدة آلاف أصيبوا إصابات اختلفت فى درجة جسامتها، لكن مبلغ علمى ان واحدا فقط فقد عينيه حتى أصبح عاجزا عن رؤية العالم، هو احمد حرارة، الأمر الذى يحملنا جميعا مسئولية خاصة إزاءه.
أيضا لا أستطيع أن أنسى أو أتجاهل أن أولئك الذين ضحوا من أجل أن يستعيد الشعب المصرى حريته لهم علينا حقوق يجب أن نؤديها، سواء من جانب الحكومة أو من جانب المجتمع. ومن العار علينا أن نقصر فى أى من تلك الحقوق، فلا نعوضهم ولا نقدم لهم ما يحتاجونه من رعاية، ولا نوفر لهم الحياة الكريمة التى تعبر عن امتناننا وتقديرنا لما قدموه من تضحيات.
لا شأن لى بكلام وزير الداخلية الذى قال فيه إن رجال الأمن لم يطلقوا الرصاص على المتظاهرين، الخرطوش أو المطاطى أو الحى. وسأدَّعى أننى صدقت أن العفاريت الزُّرق هم الذين خرجوا من باطن الأرض وأطلقوا رصاصاتهم ثم عادوا إلى المجهول الذى جاءوا منه. لكن ذلك لا يخلى طرف الداخلية ولا يعفيها من المسئولية. ذلك أنها إذا لم تأمر رجالها بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، فإنها على الأقل فشلت فى حمايتهم من غارات أولئك العفاريت. وفى الحالتين فهى متهمة إما بالقتل العمد وإما بالإهمال الجسيم الذى أدى إلى القتل.
من ناحية أخرى، فإن المجتمع لا ينبغى له أن ينسى فضل أولئك الشهداء وغيرهم من المصابين وأياديهم البيضاء عليه. أدرى أن ملايين آخرين أسهموا فى ذلك. لكن الشهداء والمصابين هم أكثر من تحمل الغُرم ودفع الثمن. بالتالى فإن إسهام المجتمع بأسره يظل واجبا أخلاقيا ووطنيا. وإذا كان ذلك واجب كل فرد فإنه أوجب على القادرين، الذين يغيب أكثرهم غيابا شبه كامل عن ساحة المسئولية الاجتماعية.
ما تمنينا أن يضطر أهالى الشهداء وغيرهم من المصابين إلى الاعتصام فى ميدان التحرير لكى يوصلوا إلى أسماع المسئولين رسالة الاحتجاج على التقصير والتسويف فى حقوقهم، حتى إذا كانت الأسباب البيروقراطية هى التى أدت إلى ذلك. وحتى نتجنب تعريضهم للإذلال والمهانة، فلماذا لا ننشئ لأجلهم مؤسسة «الشهيد» التى تسهم الحكومة فى رأسمالها بنصيب، ويتولى القادرون إكمال رأس المال المقدر، ويفتح الباب لإسهامات المواطنين من خلال تبرعاتهم وزكواتهم. وبهذه الطريقة نوفر لهم ما يستحقونه من رعاية، ونجنبهم الامتهان الذى تسببه لهم البيروقراطية بقلبها المتحجر.
قرأت للدكتور أحمد حرارة عبارة بليغة قال فيها إنه يفضل أن يعيش كفيفا مرفوع الرأس وبكرامة، عن أن يعيش مبصرا مكسور العين. وهو كلام أقدره تماما، لكننى أتساءل: كم شهيدا ينبغى أن يسقط، وكم عينا ينبغى أن تفقأ، حتى نعيش مبصرين ومرفوعى الرأس؟.
ساحة النقاش