مشغولون نحن بالتراشق الداخلى فى قضايانا المصيرية. نلحظ ذلك حين نجد أن الفضاء المصرى يمتلئ بالضجيج والتراشق وتبادل الاتهامات بين الجماعات السياسية المختلفة، فى حين أن أحدا لم ينتبه إلى أن السفينة التى تحمل الجميع معرضة للغرق. وربما كانت الصفحة الأولى لجريدة الأهرام التى صدرت يوم السبت 19/11 معبرة عن الفكرة التى أتحدث عنها. ذلك أن الصفحة كلها كانت مكرسة لصراعات الداخل، من مظاهرة ميدان التحرير وصولا إلى فتح ميناء دمياط الذى ظل متوقفا طيلة 11 يوما وتشكيل لجنة دولية لدراسة الآثار البيئية لمصنع موبكو للأسمدة، الذى فجر غضب الدمايطة وأهالى رأس البر. 
لكن الأهرام ذكر فى ذيل الصفحة خبرا خجولا ذكر ما يلى: نتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية للبلاد يبحث مجلس الوزراء حاليا إمكانية الاقتراض بشروط ميسرة من المؤسسات المالية الدولية.
 
أغلب الظن أنها مصادفة، أن يقع القارئ على خبر تدهور الأوضاع الاقتصادية بعد أن يمر بمختلف التقارير التى رصدت مظاهر الاشتباك الحاصلة فى الساحة المصرية. لكنها مع ذلك تظل مصادفة كاشفة تدعو الجميع إلى الإفاقة والانتباه إلى أن الوطن بحاجة إلى احتشاد ينقذ السفينة من الغرق بدلا من الاشتباك الذى يضيف إلى قاعها ثقوبا جديدة.
 
رجعت إلى أهل الاختصاص والمسئولين فى القطاع الاقتصادى فى محاولة لتحرى خلفيات الخبر الذى أعطانا انطباعا سلبيا دون أن يوضح لنا حيثياته أو خلفياته، وكانت خلاصة ما خرجت به ما يلى:
 
ــ إن المقصود بتدهور الوضع الاقتصادى هو العجز الشديد فى السيولة المالية، بما يعنى أن هناك قدرات اقتصادية جيدة لكن النقص فى السيولة يكبل تلك القدرات ويحول دون تحريك عجلة الإنتاج على النحو المطلوب. وكما قال لى مسئول كبير فإن الوضع فى مصر أشبه بسيارة عالية الكفاءة وسليمة مائة فى المائة. لكنها لا تجد البنزين اللازم لتسييرها.
 
ــ إن الدولة فى الوقت الراهن تعمل بأقل من نصف ميزانيتها، حيث يذهب أكثر من النصف للدعم الموجه إلى قطاع البترول أساسا، وإلى خدمة الديون المحلية، وما تبقى بعد ذلك يفترض أن يغطى مختلف الأنشطة المتعلقة بالتعليم والصحة والإسكان وغير ذلك من مجالات تنمية المجتمع.
 
ــ إن عبء الدعم يمثل حملا ثقيلا ومشكلة عويصة، هو حمل ثقيل لأنه يستأثر بنصيب لا يستهان به من الموازنة، الأمر الذى يصعب احتماله طويلا، لأنه أصبح المعوق الأول للتنمية. ثم إنه مشكلة عويصة لأن حلها الأساسى ينبغى أن يوجه إلى قطاع البترول الذى أصبح «بالوعة» الدعم. ومن شأن خطوة من ذلك القبيل إن تحدث أصداء غير مرحب بها، ربما أفضت إلى موجة من الغضب والاضطراب الاجتماعى. يكفى أن من شأنها إذ تؤدى إلى رفع أسعار عدد هائل من السلع.
 
ــ إن التحدى الذى تواجهه الحكومة فى الوقت الراهن، بل المعادلة الصعبة حقا، هى كيف يمكن أن تتصدى لمشكلة الدعم بحيث لا يثقل ذلك كاهل الطبقات المتوسطة والفقيرة فى المجتمع، وكيف يمكن أن يحمل العبء للقادرين بما لا يؤثر على إقبالهم على الاستثمار.
 
ــ إن موارد الدخل التى تأتى من الخارج تراجعت إلى حد كبير خصوصا فى قطاع السياحة. وأثر ذلك على استمرار السحب من الاحتياطى، لكن ذلك له حدوده. وربما كان من العوامل التى أسهمت فى تفاقم الأزمة أن مصر لم تتلق دعما يذكر من الدول النفطية الشقيقة، إذ بخلاف 500 مليون دولار قدمتها السعودية، وبخلاف مبلغ مماثل قدمته قطر، فإن مصر لم تتلق أى دعم آخر، وإن تلقت وعودا كثيرة وكلاما لم يترجم إلى عون عربى حقيقى.
 
ــ إزاء ذلك فليس أمام مصر إلا أحد حلين، الأول أن تتخذ قرارات قاسية فى الداخل، بعد أن تعلن الحقائق على الشعب. وقبل أن تطالب الناس بشد الأحزمة على البطون، يتعين عليها أن تبدأ بنفسها وتضرب المثل فى التقشف والاقتصاد. بعد ذلك عليها أن تشرك الطبقات الثرية فى تحمل العبء الأكبر من المسئولية ــ وبعد أن تستنفد وسائل الداخل وتبدأ بها فلها أن تقترض من الخارج إذا وجدت أن الشروط يمكن احتمالها.
 
قبل نحو أسبوع (فى ٢٣/١١) نشرت صحيفة «الشروق» مقالة لرجل الأعمال حسن هيكل دعا إلى فرض ضريبة عالمية لمرة واحدة (أسماها ضريبة ميدان التحرير) تتراوح بين ١٠ و٢٠٪ على الذين تزيد ثروة الواحد منهم على عشرة ملايين دولار. واقترح أن توجه عائداتها إلى الدول التى ينتمون إليها. وقبل ذلك قرأت أن 138 مليونيرا أمريكيا وجهوا رسالة مكتوبة إلى الرئيس أوباما طالبت بزيادة الضرائب عليهم إسهاما منهم فى تخفيف العجز فى الموازنة العامة. وأتابع فى الوقت ذاته جهود دول الاتحاد الأوروبى لإنقاذ اقتصاد اليونان وتركيا من الانهيار، وان أستغرب صمت أثرياءنا وانفاقهم الباذخ على الوجاهات السياسية والقنوات التليفزيونية فإننى أتعجب من موقف الدول النفطية العربية التى تقف متفرجة على الأزمة التى يعانى منها الاقتصاد المصرى. وفى هذا الشق الأخير كلام كثير ربما كان كتمانه أكرم من البوح به.

 

 

المصدر: الشروق / بقلم : فهمي هويدي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 304 مشاهدة

ساحة النقاش

TAHA GIBBA

TAHAGIBBA
الابتسامة هي اساس العمل في الحياة والحب هو روح الحياة والعمل الصادق شعارنا الدائم في كل ما نعمل فية حتي يتم النجاح وليعلم الجميع ان الاتحاد قوة والنجاح لا ياتي من فراغ »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

761,427

السلام عليكم ورحمة الله وبركات

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته