أم سيد وأخواتها
قالت لى أم سيد إنها أيضا من ضحايا الثورة، وفى طريقها لأن تصبح من شهدائها. وقبل أن أطلب منها إيضاحا استطردت مضيفة إنها بعد أن قامت الثورة أصبحت تعانى من ثلاث مشكلات أثقلت كاهلها حتى أصبحت غير قادرة على احتمالها وأصبحت تتمنى أن تتخلص من حياتها بأى وسيلة. المشكلة الأولى أن مصروفات طعام البيت تضاعفت ـ حتى كوب الزبادى الذى كانت تشتريه بجنيه واحد أصبحت تدفع فيه جنيهين. الثانية أن أجرة «الميكروباص» الذى تركبه يوميا لتصل إلى عملها فى خدمة البيوت تضاعفت بدورها. ويوم تمسكت بأن تدفع الأجرة التى اعتادت عليها، أنزلها السائق بعد أن لاحقها بالسباب. ودفعها مساعده وهى نازلة والدموع تنهمر من عينيها لأنها لم تكن تملك ما يغطى الزيادة فى الأجر. الثالثة أن أحد البلطجية فى الحى الذى تسكنه طرق باب حجرتها وأبلغها بأنه من أول شهر أغسطس وصاعدا عليها أن تدفع له شهريا 20 جنيها أجر حمايته لها. وهى المطلقة، وإلا فعليها أن تبحث عن مكان آخر يأويها هى وأطفالها الثلاثة.
أضافت بصوت مخنوق قائلة إن ذلك ما جنته من الثورة، ولذلك فإنها تعتبر نفسها من ضحاياها. فاجأنى كلامها فقلت إنها فى الحقيقة ليست من ضحايا الثورة ولكنها شأن الفقراء والمعوزين فى مصر، من ضحايا نظام مستبد وفاسد ظل يحكم مصر طوال ثلاثين عاما. وهذا الذى حل بها لم ينشئ الظلم الذى عانى منه الجميع، ولكنه زاد من درجته بصورة أو أخرى. وهذه الزيادة وثيقة الصلة بأجواء ما بعد إسقاط النظام السابق التى من الطبيعى أن تحدث هزات فى المجتمع، وما تحدثت به هو بعض نصيبها من تلك الهزات.
قلت أيضا إن هناك ثلاثة عوامل مهمة حدثت بعد الثورة، الأول أن نهب البلد توقف. الثانى أن البلد عاد لأصحابه الذين باتوا مفتوحى الأعين وغير مستعدين لاحتمال الاستبداد واستمرار الظلم الاجتماعى والسياسى. الثالث أن النظام السابق إذا كان قد أغلق بالتوريث أبواب الأمل فى أى إصلاح للمستقبل، فإن ذلك الأمل أصبح حاضرا الآن بقوة، حيث لم يعد هناك ما يمكن أن يعطل حركة تقدم المجتمع وانطلاقه.
لم أر على وجهها ما يوحى بأنها اقتنعت بكلامى، لكنها تململت فى مقعدها وقالت إن ما يهمنى هو أن يظل بمقدورى أن اشترى الزبادى للأطفال بسعره الذى أعرفه، وأن احتمل أجرة الميكروباص، وألا يطرق ذلك البلطجى باب حجرتى مرة أخرى. كأنها أرادت أن تقول إن أى تحليل أو تبرير للحاصل لا قيمة له إذا لم يمكن المواطن العادى محدود الدخل والفقير من أن يلبى احتياجاته الأساسية بغير عناء أو عذاب. وهذه رسالة تنبهت إلى أنها غائبة عن إدراك كثيرين من المشتغلين بالسياسات العليا والنخب الذين لا تستوقفهم المطالب الحياتية للبسطاء. وهم أهل البلد الحقيقيون الذين يفترض أن يستمد أى سياسى شرعيته وقيمته من إخلاصه لهم وكفاءته فى التعبير عنهم والأخذ بأيديهم.
حين عدت إلى مطالعة الصحف ومتابعة برامج التليفزيون لاحظت أن الأزمة فيها أبعد وأعمق، فهى ـ فى صورتها الغالبة ـ مستغرقة فى الكلام الكبير والسياسات العليا، والنخب الحاضرة فى تلك الساحات مشغولة بالجدل والحوار حول أمور تعكس اهتماماتهم الشخصية، التى هى أبعد ما تكون عن هموم الفقراء والبسطاء. ليس ذلك فحسب وإنما وجدت أن خطابنا الإعلامى والسياسى مستغرق فى الماضى ومشغول به بأكثر من انشغاله بالمستقبل.
وأغلب الظن أن محاكمات الرئيس السابق وأعوانه ستظل محط اهتمام وسائل الإعلام، التى تتسابق فى دغدغة مشاعر الناس وإثارة فضولهم من خلال استعادة وقائع الفساد والتربح وتنافس مراكز القوى القديمة على ابتزاز البلد ونهبه.
لست أشك فى أن أم سيد التى تكافح لتعول ثلاثة أطفال معلقين فى رقبتها، ليست سوى واحدة من ملايين الفقراء الذين ينظرون إلى ما يجرى فى البلد بعين الاستياء والغضب. ويعتبرون أنفسهم ضحايا لكل نظام حكم مصر. الكل يتحدث باسمهم. لكن لا أحد مشغول بأحزانهم وهمومهم. أغلب الظن أنهم امتلأوا حماسا ونشوة حين قامت الثورة، لكنهم حينما نظروا إلى أنفسهم وطالعوا وجوههم فى المرايا ولم يجدوا جديدا فيما رأوه. انكفأوا على أحزانهم، وعادوا يجترون إحباطهم.
مهم للغاية أن يعيش الناس على أمل الانفراج فى حياتهم. لكن من المهم أيضا أن تتمكن أم سيد من شراء «الزبادى» لأطفالها بسعر مناسب.
ساحة النقاش