ما بين الثورة والسلطة
هل تتحول ميزة الثورة المصرية وتفردها إلى نقمة؟. هذا السؤال من وحى الأحداث التى تتلاحق فى مصر الآن، احتجاجا على ممارسات الإدارة وافتقادها إلى «الحزم الثورى». ذلك أن الخروج السلمى للجماهير الغفيرة الذى انتهى بسقوط مبارك وفريقه لم يلجأ إلى أسلوب القطيعة الكاملة مع النظام السابق، من ثم لم يسع فور سقوطه إلى بتر أذرعه واقتلاع أدواته. بالتالى فما حدث من الناحية العملية أننا استبدلنا رأسا برأس، واكتشفنا فى وقت لاحق أن الجسم كله كما هو. وحين مارس الجسم حركته الطبيعية المعتادة أدركنا أن استجابته دون ما كان مرجوا أو متوقعا، وهو ما أغضب الثائرين واستفزهم، فى حين أن الجسم تحرك بمعدله الطبيعى وكان منسجما مع ذاته.
بكلام آخر، فإن الثورة السلمية حين لم تلجأ إلى المحاكمات الاستثنائية وإلى تطهير الأجهزة الحكومية من شخوص النظام السابق وامتداداته، فإن ذلك أسهم فى تعثر مسيرتها. ضاعف من المشكلة وزاد من تعقيدها أن ذلك النظام وهو يحكم قبضته على المجتمع دأب طوال ثلاثين عاما على تفكيك خلاياه وإعادة تركيبها من خلال رجاله وعلى قياسه. وهو ما يعنى أن أعوان مبارك وابنه تم توزيعهم على جميع مؤسسات الدولة ومرافقها وأجهزتها السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والأمنية بطبيعة الحال. وهو جهد أدى إلى احتواء الجميع وإلحاقهم ببيت الولاء والطاعة، ولم يستثن من ذلك القضاء أو الجامعات أو المجالس المحلية والجمعيات الأهلية، وبهذا الأسلوب أصبحت كل القشرة الطافية على سطح الحياة المصرية مشدودة إلى النظام ومنتفعة به، ومتجهة بولائها إلى مبارك وابنه.
إزاء ذلك كان من الصعب للغاية من الناحية العملية أن تنتزع تلك القشرة السميكة مرة واحدة، لأن من شأن ذلك أن يحدث فراغا رهيبا يهدد بشل النظام الجديد وإفشاله. ولذلك كان من الطبيعى أن يتم التعامل ببطء وحذر مع ذلك الوضع، الأمر الذى ضاق به المجتمع ذرعا بعدما رفعت الثورة من سقف توقعاته واستدعت أحلامه المؤجلة.
لقد حدث تعارض بين سلمية الثورة وثورية الإجراءات، لأن الروح التى تلبست الثوار لم تنتقل إلى جهاز الإدارة، ولذلك تصرف كل على طبيعته وتحرك بوتيرة مختلفة عن الآخر، وكان ذلك أوضح ما يكون فى خطوات محاكمة أركان النظام السابق وإجراءات رعاية أسر ضحايا الثورة.
هذا التفاوت يمكن التعبير عنه بصيغة أخرى أسهمت فى تعقيد الموقف، هى أن الذين قاموا بالثورة فى مصر لم يكونوا هم الذين تسلموا السلطة. وهو ما دعانى إلى القول فى مقام سابق إن الذين ثاروا على النظام أسقطوا رأسه حقا لكنهم سلموا السلطة إلى أدوات ذات النظام الذى أسقطوه. وكان ذلك نتيجة طبيعية ومنطقية ترتبت على أنه لم يكن للثورة تنظيم يحركها أو قيادة حددت مسارها. وكان الشعور بالمهانة والغضب هو العنصر الجامع للثائرين الذين فوجئوا بهشاشة النظام وسقوطه المدوى الذى لم يكن فى حسبانهم.
إذا كان الأمر كذلك، فقد كان طبيعيا ان تختلف الحسابات والتطلعات والسقوف، وكأن طبيعيا أن تنشأ مسافة بين مطالب الثوار وخطوات الحكومة، التى هى المسافة الطبيعية بين تطلعات الثورة وحسابات الدولة، عقد المشهد أكثر أنه فى غياب تنظيم يمثل الثورة فإن الأصوات تعددت فى محيطها، وقد لاحظنا فى اعتصام هذا الأسبوع أن مجموعة من الثوار قدموا إلى الحكومة والمجلس العسكرى قائمة بخمسة أو ستة طلبات، كما قدمت مجموعة أخرى قائمة بأحد عشر مطلبا.
أحد الحلول التى تخرجنا من مأزق تلك التباينات ان تجرى فى مصر انتخابات برلمانية تعبر عن خريطة المجتمع، بعدها تشكل حكومة مدنية، تكون خطوة باتجاه تسلم السلطة من العسكر. وهذه الحكومة تكون مسئولة أمام البرلمان، الذى له أن يحاسب كل وزير وأن يسحب الثقة منه أو من الحكومة بأسرها. وفيما علمت فإنه كان مقترحا فى البداية أنه بعد استفتاء 17 مارس، يفتح باب الترشيح للانتخابات فى شهر يونيو، (بعد نحو ثلاثة أشهر)، على أن تجرى الانتخابات خلال 60 يوما بعد ذلك، ولكن ذلك الموعد أجل إلى شهر سبتمبر، الأمر الذى يعنى أن الانتخابات ستجرى فى شهر نوفمبر، وأننا سنظل إلى قرب نهاية العام فى ظل الوضع المتأرجح الراهن، بلا برلمان يمثل المجتمع وبلا حكومة مسئولة أمامه، وسيظل المجلس العسكرى وحده المسئول عن إدارة البلد وممسكا بمفاتيح السلطتين التنفيذية والتشريعية، وإذا استمرت ضغوط بعض «الليبراليين» لمزيد من التأجيل، فربما رحل إجراء الانتخابات لأشهر أخرى، وحينذاك لا نعرف بالضبط ما يخبئه القدر لنا.
ساحة النقاش