الإرادة
إرادة المخلوقات:-
لإرادة المخلوقات أربع مراتب:-
*)- مرتبة إرادة السماء الأولية.
تسفر عن إرادة سببية في الأكوان السبعة، وإرادة لاسببية في الأكوان العلى.
*)- مرتبة إرادة الإنسان الواعية.
ومن خلالها يختار الإنسان بين البر والإثم، وبين البدائل.
*)- مرتبة إرادة الأحياء دون الإنسان.
يختار من خلالها الكائن بين البدائل.
*)- مرتبة إرادة الكائنات دون الحية والملائكة.
وهي تمثل خصائص المادة أو الكائن ووظيفته المنوطة به ولا يحيد عنها.
---
إذا كانت المخلوقات من الأحياء في الكون السببي؛ فإرادة أحدهم هي أن يَخْلُقَ الأسبابَ لفعل الشيء الذي يريده، أما في الكون اللاسببي (السماوات العلى) فهناك منطق آخر يحكم العلاقة بين الرغبة والنتيجة غير منطق ترابط الأسباب والنتائج, ونظرا لأن الأحياء حاليا في أحد الأكوان السبعة السببية فيكون كل شيء في هذه الأكوان مرتبطا بمبدأ ترابط الأسباب والنتائج، والإرادة ليست حبيسة في [النفس] كالرغبة ولكنها فعل تنفيذي يمتد إلى الهدف المطلوب بأثره، و[القلب] هو الفاعل لذلك بوعي، ويتعلق نوع الإرادة على درجة ترقي الكائن الحي في سلم ترقي الأحياء، فعند درجة معينة من هذا السلم نجد كائنات لها [قلب] يمتلك {نقطة الوعي[1]}، إذ يكون بمقدور القلب أن يركز اهتمامه على مؤثر ما بشكل انتقائي واع، ويزداد استخدام نقطة الوعي اتساعا كلما ارتقينا في سلم الترقي، مع العلم بوجود تميز نوعي في استخدام نقطة الوعي، فالخفاش مثلا متميزٌ عن غيره فهو يركز نقطة الوعي على ناتج استخدام موجات فوق سمعية محددة[2]، ويميز بهذا الناتج مواقع فرائسه فيما يشبه عمل الرادار، أما الإنسان فيمكن لقلبه التنقل بنقطة الوعي بين أفكاره متميزا بهذا عن كل الكائنات. ومن هنا فالكائنات الواعية لها إرادة واعية تحكم بها سلوكها الاجتماعي والبيئي، وكما لهذه الكائنات الواعية إرادة واعية لها أيضا إرادة غير واعية، منها دورة الدم والهضم وتفصيلات النقل العصبي وغيرها مثل إرادة {البؤر التدريبية[3]}.
أما إذا كانت الكائنات غير حية فهي الأسباب التي تؤدي إلى تحولٍ ما فيها، وهي إرادة غير واعية تحكمها الخصائص الفيزيائية والكيميائية.
"فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا{77}" الكهف18
"وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ{49} يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ{50}" النحل16
إرادة الله:-
أربعة مستويات: {إرادة مشيئية} و{إرادة تنفيذية} و{إرادة تشريعية} و{إرادة بدائلية}.
1- الإرادة المشيئية: هي إرادة جبرية لطيفة مرتبطة مباشرة بالمشيئة، ولا تُلزِمها أسباب أو عدم أسباب، وتعم جميع الكائنات وجودا وفعلا، فلا يمكن لكائن أيا كان أن يمتنع عن الوجود، أو يخالف القضاء بها في كثير أو قليل، وكل الكائنات أمامها ساجد أو مذعن، ومن خلالها يقول الله للشيء المراد كن فيكون بأسباب أو بدون أسباب وبمراحل أو بدون مراحل، و بأي مبدأ كان.
2- الإرادة التنفيذية: وهي إرادة تمثل احتمالية حدوث أحد بديلين، أحدهما نشأة الكون سببيا والآخر نشأة لاسببية.. وهي إرادة تالية لصدور الأمر الحتمي بإنشاء الخلق بمقتضى {الإرادة المشيئية}، و[السماوات] الأولية فقط لها هذا الاختيار أن تخالفها أو تقبلها احتماليا، في الاحتمال الأول عدم المخالفة لهذه الإرادة يؤدي إلى ظهور سماواتنا السبع على مبدأ السببية (ترابط الأسباب والنتائج)، فالأسباب والنتائج تأتيان منطبقتين على منطقنا، وتندمج الإرادتان، {الإرادة المشيئية} و{الإرادة التنفيذية} في {إرادة عليا سببية قاهرة لطيفة}. والاحتمال الثاني المخالفة يترتب عليه ظهور أكوان عليا على صورتها المصممة عليها طبقا {للإرادة المشيئية} ولكن نتائج أي فعل في داخلها تأتي غير متوقعة بالنسبة للأسباب المتبعة أي بمبدأ اللاسببية وهو عدم ترابط الأسباب والنتائج، حيث تندمج الإرادتان، {الإرادة المشيئية} و{الإرادة التنفيذية} في {إرادة عليا لاسببية قاهرة لطيفة}، فمثلا من يدخل الجنة يدفع أسبابا ليشرب فيجد الماء أكثر سهولة مما توقع، وفي المقابل من يدخل النار يدفع أسبابا للخروج منها فيجد نفسه أعيد فيها.
"فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{17}" الأنفال8
"كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ{22}" الحج22
ومن الآية 17 الأنفال8 نرى أن الله سبحانه وتعالى نفى عن الرامي إطلاق الرمية التي حدثت بإرادة واعية منه وبحرية تامة، وفي نفس الوقت وفي نفس التعبير أثبت حدوث الفعل بيد الرامي حيث قال "إِذْ رَمَيْتَ" ونسب الفعل المطلق لله، ولا يمكن تفسير هذا التعبير إلا من خلال الاعتقاد في الإرادة السببية القاهرة، فالرامي رمى وهو يشعر بكامل حريته وبكامل وعيه، والله نفى عن الرامي هذا الفعل الواعي ونسبه بالكامل لإرادته، ولم يشعر الرامي بأن شيئا يُحَرِّضُه أو يمسك بيده ويوجهها إلى الهدف وهذا هو [اللطف] المنسوب لهذه [الإرادة] فهي غير محسوسة تماما، أما [القهر] فهو ناتج عن أن الرامي مهما كان اتجاه تفكيره فهذا التفكير هو ذاته إرادة الله العليا، فهي قاهرة، أما كونها سببية فلأنها تحدث في نطاق الإطار السببي المرتبط بمبدأ السببية وهو المبدأ الرابع من مبادئ الخلق.
"أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ{83}" آل عِمران3
"وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ{15}" الرعد13
ومن الواضح من الآيتين السابقتين أن كل كائن عاقل أسلم وسجد طوعا أي بوعيه، وكرها أي بعيدا عن وعيه بأنه مسلم وساجد لله من خلال الإرادة القاهرة.
"وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ{100}" يوسف12
ويتضح من الآية مدى لطف الله لما يشاء، حيث كانت الأحداث التي قادت يوسف عليه السلام من البدو إلى السلطة المنبأ عنها أحداثا منفصلة لأشخاص ذوي إرادات مستقلة، فإخوته أرادوا إقصاءَه عن أبيهم بأي وسيلة، ورَمُوه في الجُبِّ بدلا من قتله، والسيارة الذين وجدوه في الجب كانت إرادتُهم التخلصَ منه ببيعه بأي ثمن، فباعوه للعزيز في مصرَ، وهذه إرادة واعية حرة ومستقلة عن إرادة إخوته، وأحبته زوجة العزيز بإرادة حرة واعية مستقلة عن الإرادات السابقة ليكون لها حسبما اقتضى هواها، ولكنه أبى، وخافت من زوجها، فاتهمته زورا بعكس ما حدث، ولكنَّ أمْرَها انكشف، ومع هذا أرادوا إقصاءَه عنها بسَجْنِه، وفي السِّجْن نبَّأ أصحابَ الرؤى بما رأَوْا، وطلب ممن ظن أنه ناج أن يذكرَه عند الملك حتى لا ينسوه في السجن، ولكن الذي نجا نسِيَ وصيةَ يوسُفَ، وعلى هذا بقي في السجن سنوات أخرى، حتى رأى الملك رؤياه الشهيرة بأن سبع بقرات عجاف يأكلن سبع بقرات سمان، وسبع سنابل خضر وأخر يابسات، ولم يتمكن الملك من معرفة أي شيء عن رؤياه حتى تذكر الذي نجا، واستأذن ذاهبا إلى يوسف وطلب منه أن ينبئه بتأويلها، فقال له سيأتي سبعُ سنين ذوات خير كثير، فتحفظون الحبوب في سنابلها، ثم يأتي من بعدها سبع سنين قحط يُنفق خلالها ما ادخرتم من خير السنوات السبع الأولى، ثم يأتي عام فيه يُغاث الناس، وعندما أُخبر الملك بهذا، طلب يوسف، الذي فرض إرادته في تحقيق واقعة سَجنه لكي يبرئ نفسه، وحدث له ما أراد، واستخلصه الملك ليسند له مهمة تنفيذ ما تنبأ به يوسف، وتحققت الرؤيا عندما جاء إخوته وطلب منهم أن يُحضروا له أبويه، وقال لأبيه بأن الواقع الذي تم هو نفسه تأويل الرؤيا التي رآها من قبل. وهذه الأحداث والوقائع هي جملة من وقائع كل واحدة منها منعزلة عن الأخرى، ولا أحد من أطراف كل واقعة كان يعلم شيئا عن الرؤيا، ولا أحد كان مجبرا على فعلٍ لم يكن يريده، وفي النهاية شكلت هذه الوقائع إرادةَ الله، التي لم يشعر بها أحد، مع أن الكل سار في إطارها وهو في كامل وعيه مرغما ومقهورا ومسيرا دون وعي منهم بهذا التسيير، وعبر يوسف عن مشيئة الله سبحانه وتعالى لهذا التسيير اللطيف غير المحسوس بأن قال:"إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ"، والملاحظ في هذه الإرادة أنها حدثت في إطار سببي، ولذلك فهي إرادة عليا سببية قاهرة لطيفة.
3- الإرادة التشريعية: هي إرادة الخالق في أن تكون تشريعاته التي أودعها فطرةَ الإنسان وذكَّرَه بها في كتبه المنزلة محلَّ تقديس وتنفيذ عند الإنسان، وجعل الله الإنسان فقط دون باقي الأحياء لديه القدرة على مخالفتها، فإن خالفها فهو أمام الله من منظور مستوى الإرادة العليا السببية القاهرة اللطيفة ساجد، ولكن من منظور مستوى الإرادة التشريعية مخالف، فهو ساجد كَرها، وإن أطاع الإرادة التشريعية، فهو ساجد بموجب الإرادة العليا وسجوده طوعا بموجب طاعته للإرادة التشريعية.
4- الإرادة البدائلية: وهي إرادة لله يصل الاختيار فيها إلى الكائنات الحية كلها دون الكائنات الميتة, فالفئران مثلا يفضل بعض أفراد النوع الواحد منها أكل صغار الطيور والسمك والبعض يفضل أكل الخضر, أما المواد الميتة أو غير الحية كالماء مثلا فليس له حرية اختيار تفاعلاته أو طبيعته، فالماء يغلي عند درجة 100مئوية في ظروف الضغط الجوي العادي، ويتجمد عند درجة صفر مئوية في نفس ظروف الضغط الجوي العادي. والملائكة لا يملكون حرية تغيير ما ألقي عليهم من تعليمات، ولذلك فكل هؤلاء مجبرون على تصرفاتهم في هذا المستوى من الإرادة.
"وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ{49}" النحل16
[1] هي بؤرة تركيز الاهتمام على مؤثر ما، كتركيز الاهتمام على صوت شخص ما ضمن مجموعة.
[2] "السونار الحيوي وعملية الحساب العصبي لدى الخفافيش" العلوم الكويتية مجلد 11 عدد 6/7 صفحة 38.
[3]هي برامج يكونها القلب أثناء التدريبات ثم بتقدم التدريب يقوم القلب بتسليم البرامج إلى جهاز التنفيذ اللاواعي تدريجيا، وعند تمام التدريب يُبقي القلب خيط تحكم واع بينه وبين البؤرة التدريبية، هذا الخيط لا يُشغل القلب كثيرا، مثال ذلك قيادة السيارة أو الدراجة، قبل التدريب يكون القلب هو القائد وتجده لا يجيد الأداء وكثير الأخطاء، ومع هذا فعليه عبء تكوين البرنامج بالاستعانة بالفؤاد، أما في تمام التدريب واستلام الجهاز التنفيذي اللاواعي للأداء فتجد أن الأداء محكم وخال من الأخطاء تقريبا، وينحصر حينئذ دور القلب على التعرف على الطريق والتوجيه فقط، ويتفرغ لأعمال أخرى أثناء القيادة لم يكن بقادر عليها أثناء التدريب.



