الأمــل المفقــود
بقلم سعيد عبدالمعطي حسين 2002م
حمامة
قابلتني على غيِر موعدٍ، دخَلَتْ عليَّ يمامةٌ،
لا تعرفُ من الغدرِ إلا اسمَهُ، الوداعةُ تشعُّ من عينيها، وأنا مشتاقٌ لما يُؤنسني،
لمحتُ في عيونها خوفًا أن آكلَ لحمَها، وأكْلُ لحمِها لن يُشفي لوعتي للأنسِ،
أعادتني إلى يومِ الحمامةِ
***
هناك.. في يومٍ قائظٍ.. هناكَ..
بعيدًا في المكان.. وليس بعيدا في الزمان..
منذ خمسة عشر عاما..
في بلادٍ قريبةٍ من جَهَنَّمَ، هجيرُها يحمُوم، وماؤُها حمِيم،
وحَمُّ قلبي قائظٌ بلوعةٍ لا تنطفئ؛ مع أنني أُطِلُّ من غرفتي المستقلةِ المبرَّدَةِ على ضِفافِ نهرٍ عظيمٍ،
قالوا.. إنه ينبعُ من الجنةِ مع النيلِ،
مياهُهُ فراتٌ، ولَيْتَ بالمياهِ ينطفئُ كلُّ اللهيبِ.
قلبي ملتاعٌ بحبٍّ ملأ كياني،
كلما قابلتُ شخصًا توهَّمْتُ أنه حبيبي،
وأسبلتُ عليه ثوبَ حُبٍّ من خيالي،
وطَفِقْتُ أغدِقُ عليه من فيضِ عطفي وهيامي،
ولا أفيقُ إلا على غدرِه وعذابي،
سارقا أو حاقدا أو كذوبا،
وأعودُ أسربلُ غيرَه بأثوابِ حناني، نُسِجتْ مما نبتَ في جنَّاتي،
وأَفْزَعُ من كابوسِ غدرٍ جديد.
وظللت هكذا أتخبط بين بئرِ غدرٍ وبين بِرْكَةِ حقدٍ شاهرًا علمَ الحُبِّ الأبيضَ، وقد تلطخَتْ بعضُ جوانبِ أطرافِهِ من آثارِ حقدِ الحاقدين وغدرِ الغادرين،
عندما أخلُو بنفسي أتذكرُ ما أنا فيه لأبكي، وأسترسلُ في الذكرى.. فأبكي،
والذِّكرَى تُثِيرُ اللوعةَ والجِراحَ.
في ذلك اليومِ الملتهبِ ..،
في المكانِ النائِي ..،
دخَلَتْ عليَّ حمامةٌ،
يبدو من منظرِ منقارِها أنها صغيرةٌ،
ويبدو أنها فوجِئتْ بي فاضطَرَبَتْ وتردَّدَت قليلا،
ولكن قيظَ الهجيرِ في الخارج دفعها للبقاءِ معي في بردِ وظِلِّ غرفتي،
ودارَ حِوارٌ مع نفسي، تمنَّيْتُ لو كانَتْ تُدْرِكُهُ،
أو لو كانت تعلمُ أنني مشتاقٌ لما يؤنسُ وَحْدَتي،
ويمسحُ دموعَ حُزْني،
ويُواسِيني،
ويَنْزِعُ من صدري أساهُ وأسَفَهُ على فقدِهِ منْ اعتبرَهُم أحِبَّاءَهُ وأعِزَّاءَهُ ثم غدَرُوا به وخانوه،
قلتُ قولا لم يغادرْ نفسي:-
"أشتاقُ إليكِ يا حمامتي الصغيرةَ،
أشتاقُ لأنْ تُرَفْرِفي على كتفَيَّ،
وأضعُ لكِ الْحَبَّ في فمي، لتَطْعَمِيهِ وأنا أنظرُ إلى عينيكِ الراضيتين المطمَئِنَّتينِ فأرضَى وأشبعُ وأرتوِي،
أشتاقُ أنْ أراكِ مستسلمةً بين يديَّ مُغْمِضَةً عينيك في سلامٍ وأنا أمنحُك الأمانَ،
وأشتاقُ أن أضُمَّكِ إلى صدري بلطفٍ وحنانٍ،
آهٍ... لو تدركين ما في نفسي..
ما غادرتِ عُشِّي..
ولَرَضِيتِ بصُحبتي ولهبطتِ من فورِك إلى كفَّيَّ،
ولكنني أعذرُكِ..
فالإنسانُ الذي أنا فردٌ منه..
في طبعِهِ الغدرُ وسفكُ الدَّمِ،
ويبدو أنكِ تعلمين هذا علما أكيدًا
وتريْنَ كلَّ الناسِ رؤيةً واحدةً،
ولا تميزينَ بيَن هذا وذاكَ
إنكِ يا حمامتي الصغيرة إنْ طِرْتِ.. زِدْتِني لوعةً وحسرةً،
فأنا جريحُ الغدرِ مثْلُكِ،
سأصبحُ بجرحٍ جديدٍ إنْ أنتِ طرتِ تحسُّبًا أنْ أغدِرَ بكِ،
يا حمامتي الصغيرةَ مهما تمنَّت نفسي بقاءَكِ إلا أنَّكِ تارِكَتِي لا محالةَ،
وقبلَ مجيئِكِ كانت شجوني مقننةً،
ومَقْدِمُك هيَّجَ الشَّجَنَ، وأثار شوقي،
وهجرُكِ سوف يجعلُني أنقمُ على الغادرين كلِّهِم،
إذْ جعلوكِ لا تُفَرِّقِين بين طاهرٍ وغادرٍ،
وحرموني مرتين، إحداهما مما لي فيهِم من حُبٍّ،
والأخرى مما لي فيكِ من شوقٍ إلى أُنسٍ،
يا حمامتي أملي فيك مقطوعٌ،
لا أتمنى إلا أن تبقَيْ ساكنةً أمامي ولسوفَ أظلُّ ساكنًا أرقبُكِ،
أمْلَأُ بحركات عينيكِ نفسِي، لعلَّ آلامي ولوعتي تهدأُ بعضَ الوقتِ."
تزلزلت نفسي فجأة بخفقانِ انطلاقِها من غرفتي إلى لهيبِ الجوِّ الحارقِ،
ولم يبقَ لي إلا صدى حمحمتِها،
حاولتُ حبسَ الصدى في صدري إلا أنه أبى...
وسرعانَ ما اضمحَلَّ وذَوَى،
إن الجوَّ الملتهبَ عندَها أرحمُ من غدرِ الإنسانِ،
تأجَّجَت نيرانُ حسرتي،
وبكيتُ بمرارةٍ على فقدي مؤنسي،
فالطيرُ الذي لا أرغبُ في لحمِه وتمنيتُ وُدَّه خافَ مني لغدرِ بني جنسي لبني جنسِهِ.
***
يا يمامةَ اليومِ كمْ أتمنى الأنسَ بكِ كما تمنيتُه بحمامةِ القيظِ، ولكن لكِ في الدنيا مآربُ،
إن استأنستُ بكِ حرمْتُكِ من مآرِبِك،
فأنتِ صغيرةٌ مستسلمةٌ آمنةٌ ترغبين في جوٍّ بين الأشجارِ وأعشاشٍ فيها أقرانٌ،
وأنا مهما كان نصيبي من الأنسِ فلابد لكِ يوما فيه ترحلين إلى حيثُ ترغبين،
وأتكدرُ أنا بالهجرِ والحرمانِ،
فإنْ انطلقتِ يا أُنْسَ قلبي عِدِيني..
أنْ تعودِيني...
ولو كل عوْدٍ،
ولا تقْطَعِي ودِّي..
فتُقَطِّعِي قلبي
***
عليل الشجن