الكسب والاكتساب
يمكن فهم الآيات التي ذكرت الكسب والاكتساب إذا قسمناها إلى فئاتٍ ثلاث، الفئة الأولى تقارن بالفطرة والشيطان، والثانية تقارن بالحرية والجبر، والثالثة تقارن بالمواهب الإلهية والمنع (أو المواهب غير الإلهية وهي غير موجودة أو مستحيلة).
أولا: الفئة الأولى:-
التعبير بالانتساب إلى الفطرة كسب أو إلى الشيطان اكتساب:-
منطقة 1 العمل الفطري هو عمل طيب وهو كسب ومحسوب لك في الآخرة.
منطقة 2 العمل الشيطاني خبيث وهو اكتساب ومحسوب عليك في الآخرة.
"لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{286}" البقرة2
"إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ{11}" النور24
"وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا{58}" الأحزاب33
فالنسيان والخطأ والعبء فوق الطاقة يُسقط عنهم الحساب.
ثانيا: الفئة الثانية:-
التعبير بالانتساب إلى الحرية كسب أوإلى الجبر اكتساب:-
منطقة 3 العمل الناشئ في ظل الحرية وكمال الأهلية على مستوى {[الإرادة] التشريعية} هو كسب وتحاسب النفس به، لها أو عليها.
منطقة 4 العمل الناشئ في ظل القهر على مستوى {[الإرادة] التشريعية} كالمُكرَه على ارتكاب معصية، هو اكتساب ولا يحاسب به، لا له ولا عليه، ولذلك لا توجد آيات تتكلم عن اكتساب في هذه الفئة.
"وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ{80} بَلَىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{81}" البقرة2
ففي الآيات السابقة يتبين من تعبير (كَسَبَ) أن الذي يرتكب معصية وهو بكامل حريته ووعيه ودون ضغوط أي غير مجبر على الذنب بالإكراه أو ضغط الحاجة الملحة أو فقد الأهلية، ولا يُرجِعُ نفسَه عن الاستمرار وتمنكت منه معصيَتُُه بالدوام عليها، يخلد في النار كما ذكر الله تعالى بشأنه في تلك الآيات.
"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ{1} مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ{2}" المسد111
يتبين من الآيات السابقة أن أبا لهب فعل ما فعل وهو بكامل حريته ودون ضغوط من أحد عليه وليس تحت تأثير مرض أو سكر فهو في وعيه الكامل وعليه فإن ما أُعِد له يستحقه.
"وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ ۗ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{38}" المائدة5
يتضح من تعبير (كَسَبَا) في الآية السابقة أن السرقة التي تتم بحرية وبوعي ودون ضغط من أحد أو تحت ضغط الحاجة التي تهدد الحياة أو الأمن؛ فإنها هي المنصوص على عقوبتها، أما السارقون الذين يسرقون تحت وطأة الحاجة أو أي ضغط أو إكراه، تكون سرقتهم اكتسابا، ولا يجب محاسبتهم عليها إلا بعد إزالة أسباب الضغوط.
"ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{41}" الروم30
الفساد هنا في الآية السابقة ينشأ من الناس ليس كنتيجة طبيعية للتطور البشري ولكن هو الفساد الناشئ عن التصرف المقصود به الفساد عن وعي ودراية بما هو مفسد وما هو غير مفسد، لأن الفساد الذي ينشأ تلقائيا بسبب التطور البشري أو الطبيعة الحيوانية العادية يجد محددات طبيعية له تزيل آثارَه طبقا لمبدأ الحفظ والتوازن الذاتي؛ وتجد أثر هذا المبدأ في الغابات حيث الحياة متوازنة ولا يمكن لكائن ما أو ظرف ما كالحرائق أن يفسدوها مهما كانت طبيعة هذا الكائن أو الحدث، ولكن بتدخل الإنسان عندما يستبد به الطمع ويجور في صيده أو يتعسف في القتل وقطع الأشجار وتجريف التربة وتلويثها والهواء ومجاري المياه بالمبيدات والمخلفات فهذا هو الكسب المشار إليه.
فالفساد الناشئ عن وعي وبدون إكراه وبدون تعقل هو الكسب المشار إليه.
ثالثا: الفئة الثالثة:-
التعبير بالانتساب إلى الحرمان الإلهي(المواهب الذاتية غير الإلهية) كسب أو إلى مواهب الله تعالى اكتساب:-
منطقة 5 لا يوجد منطقة الحرمان (عطاء غير إلهي أو ذاتي) لأن الله سبحانه وتعالى أوجد الكائن، ومجرد خلقه موهبة، وكل العطاءات مواهب من الله فقط مهما قلت أو كثرت أو بدت أنها من غير الله على مستوى الإرادة التشريعية كالصدقات أو الزكاة، ولا يمكن أن يهب المخلوق ذاته أو غيره أي شيء إلا من خلال مشيئة الله وأوامره، ومن خلال الإرادة المشيئية العليا فكل العطاءات من الله فقط لا من غيره.
فلا يصح التعبيرات الآتية:-
كسب فلان صحة وجمالا، والصحيح أن يقال اكتسب فلان صحة وجمالا.
كسب فلان مالا ونفرا، والصحيح أن يقال اكتسب فلان مالا ونفرا.
في إشارة إلى أن الله هو الوهاب لكل النعم، واكتسبها فلان من الله.
منطقة 6 كل ما هو ناشئ عن التصرف بما وهب الله من إمكانيات مختلفة هو اكتساب، ولا يترتب عليه محاسبة، لأن الكائن لا يملك أن يهب نفسه الصحة والقدرة، ولكن الله هو الذي يعطي إمكانيات مختلفة للناس، كالصحةِ والرزقِ والجنسِ ذكورةً أو أنوثةً، ويترتبُ على ذلك تفضيلٌ في الرزقِ والعملِ والتكليف، وعلى الإنسان ألا ينظر لما لغيره ليتمناه لنفسه، فتكليف كل نفس يكون بقدر ما أعطي لها من مواهب.
"وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا{32}" النساء4
يتضح من الآية السابقة، أن الله تعالى يؤكد على أنه.. يحدد نصيب كل إنسان في آخرته.. بناء على تصرفه الشرعي.. فيما وهبه له من عطايا وحقوق.
وربما زاده الله نصيبا في الدنيا، بسبب اتباعه الأسباب؛ فيما وهبه الله له.