عذاب القبر
هذا الموضوع عقائدي ويختلف فيه الكثيرون.. البعض يتشدد ويتهم من يختلف معهم بتهم عنيفة.
مع أن الأمر ليس إلا فهم أو سوء فهم لأمر غيبي.
ومبدئيا يجب أن نعلم أن هناك شيئا اسمه النسبية في الشعور.
فمن كان مريضا بمرض في الكبد أو المرارة فإنه يشعر بمرارة الطعام والشراب ومن كان سليما معافى يشعر مع نفس الطعام والشراب بحسن مذاقه.
نفس هذا الشعور النسبي يحدث مع الزمن.
فالإنسان المريض يمر عليه الليل وكأنه سنوات طويلة، والسليم ينام بهدوء وعندما يستيقظ في الصباح يشعر كأنه نام ساعة أو أقل.
هناك أزمنة متعددة في الكون، والزمن نسبي؛ أي يكون مختلفا حسب نوع وحالة الوسط المحسوب عليه الزمن.
هنا يحدث نفس الشيء مع الموت ثم البعث.. حيث يشعر الذي مات ثم بُعث بأن الوقت الذي انقضى ليس إلا بضع ساعات أو أقل أو أكثر؛ تماما كما كان يشعر به عندما يستيقظ من نومه.
ولكن الشهيد لا يشعر بزمن قد انقضى مطلقا.. فشعوره بالزمن متصل فور بعثه وكأنه لم يمت مطلقا.. رغم أن جثته مازالت بين أيدي أهله؛ يحفرون قبره بعد ساعات من موته الفعلي واستلام جثته من السلطات؛ ثم يداومون على زيارتها طوال عشرات أو مئات أو ألوف السنين.
=== وأسوق لك أدلة النسبية في الشعور الحسي من آيات القرآن الكريم:-
"وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ۚ قَالُوا إِنّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ{50}" الأعراف 7
هذا النداء ليس من مكان بعيد بل يتحاورون ولكن كل منهم يشعر بما هو مؤهل له فقط.
"قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ ۖ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِنْ لَا تَعْلَمُونَ{38}" الأعراف 7 (ضعف= نسبة)
هذا في نسبية الشعور الحسي.
=== أما نسبية الشعور بالزمن:-
"كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا{46}" عبس 80
هذا الشعور يوم البعث وكأن الزمن الذي مر عليهم عشية أي عدة ساعات قليلة في المساء أو ضحاها أيضا ساعات قليلة في الصباح.
"وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ{55} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ ۖ فَهَٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَٰكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ{56}" الروم 30 (يؤفكون= يُخدعون)
وهنا في الآية السابقة يتضح أن شعور المبعوث الذي لا يعلم ما حدث له -لأنه كان لا يؤمن به- أنه مكث ساعة فقط ثم بعث، ولكن المؤمنين يردون عليه بأنه في يوم البعث كما نصت كتب الله.. وهذا تأكيد آخر على نسبية الشعور.
وأما تعبير "كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ" فيعني أنهم قد خُدعوا بمرور الزمن عليهم بشكل طويل جدا وهم أحياء، فرأوا عظام من ماتوا قبلهم منذ آلاف السنين، وأمم تعيش وأخرى تزول في أحقاب متعاقبة، ولم يجربوا الموت ليعودوا ويقولوا ماذا وجدوا، فعاشوا في خدعة النسبية التي لم يصدقوها عندما ذُكِرت لهم على لسان الرسل، مع أنهم لو فكروا قليلا لعلموا أن مشاعرهم تتغير بتغير أحوالهم.
"وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ{93} وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ{94}" الأنعام6
في الآيات السابقة بيان أيضا عن نسبية الشعور، وكلمة اليوم تعني يوم البعث الذي يشعرون به أنه قد حل بهم حسب نسبية شعورهم.
=== ولو صح عذاب القبر هل يكون على جثة ميتة أم على جسم حي؟
لو كان على جثة ميتة كيف تشعر هذه الجثة؟
وإذا كان على جسم حي فهل رُدَّت له الحياة؟ ثم سيموت لاحقا ليُبعث في الآخرة؟
ليكون بذلك قد حدثت له ثلاث حالات موت وثلاث حالات حياة؟.. وبهذا يتم مخالفة الآية الآتية:-
"قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ{11} ذَٰلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ۖ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا ۚ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ{12}" غافر 40
وماذا لو دُفن شخص في قبر وهو من الصالحين الذين يكون قبرُهم روضةً من رياض الجنة كما يزعمون.. ثم دُفن معه في نفس القبر رجلٌ من الذين يكون قبرُهم حفرةً من حفر النار بزعمهم؟ كيف تتصور الوضع معهما؟ وكيف يستقيم هذا الوضع مع الشروح المستفيضة عن العذاب والشجاع الأقرع والأصوات التي يسمعها القريبون من القبر؟ أسئلة تجعلهم يتخبطون في الإجابة عليها.
أما بخصوص الآيات:-
" فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ{45} النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ{46}" غافر40
فحالة الغدو والعشي تخص الحياة الدنيا فقط بما فيها تعاقب الليل والنهار، أما من مات وانقطع اتصاله بالحياة الدنيا فلا يوجد لديه مثل هذه الحالة من غدو وعشي.. فالقول هنا يخص حياة آل فرعون في الدنيا حال حياتهم؛ فالذين لا يؤمنون بالله والآخرة يقترفون من الأعمال ما تؤدي بهم إلى الصدامات المستمرة مع أنفسهم ومع بيئتهم فتحدث لهم الكروب والمصائب والهموم، ومن هنا فالنار التي يعرضون عليها غدوا وعشيا هي نار تلك الهموم والكروب، وأما تصور كون النار هي نار الآخرة فقط فهذا تصور خلطي خاطئ.. لأن حياة الآخرة ليس فيها غدوا وعشيا المتلازمين مع حركة الكواكب في الحياة الدنيا فقط.. وكما بينت فالنار للعذاب تشمل الدارين معا الدنيا والآخرة.
"وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا{12} مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۖ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا{13}" الإنسان76
من الآية يتضح أن العالم الآخر له تكوين مختلف؛ فهو بلا شموس مرئية، فلا يتبع هذا تعاقب ليل ونهار كما اعتدنا في العالم الحالي.
"نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ{60} عَلَىٰ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ{61} وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ{62} " الواقعة56
فالمعنى إذن يكون خاصا بالحياة الدنيا وما فيها من عذاب متنوع من أمراض وأوبئة وكوارث متعاقبة وتسليط حزب على آخر وأمة على أمة وسلطة على شعب مقهور وعادات عدائية دموية وأشياء كثيرة جدا؛ تسبب لهم العذاب صباحا ومساء على التعاقب وعلى الدوام.
ولما كان الوقت الذي يتصوره الأحياء طويلا جدا على الأموات؛ مجرد وهم، وأن الشعور الحقيقي للميت بعد بعثه بأنه لا شيء من هذا الوهم، فليس هناك مدعاة بأن يملأ الواهمون هذا الفراغ الوهمي الكبير بفرية عذاب القبر هذه.
سعيد عبد المعطي حسين