في باحة الميدان الفسيح حيث آلاف المصلين جلسوا يكبرون الله تعالى في يوم العيد منتظرين الصلاة وشاكرين الله عز وجل أن أتم عليهم نعمة الصيام، أقبل الطبيب اللامع في ثيابه الأنيقة كالعادة وبشرته الناعمة ليشهد معنا صلاة العيد .. إننا نكاد لا نراه في صلاة بالمسجد و لا الصلاة الجامعة إلا نادر و نادر جدا ، حيث أقبل ممتعضا من ضجيج الأطفال وزحام الناس، وفرش سجادة الصلاة التي كان يحملها حيث أراد أن يجلس، وكأنه خائفا من تلوث الميكروبات التي ربما تحملها بسط المساجد ، و تراب مثل هذه الميادين.
آثر أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس، فأخذت أرمق صلاته، فوجدته لا يحسن الركوع ولا السجود، ولا تكاد تنتصب قامته بينهما إلا بالنذر اليسير، فتعجبت من كبره وجهله، وهو الذي ملأ الآفاق شهرة في طبه، والتبحر في علوم تخصصه .
أنهى ركعتيه بالسلام و التفت نحوى و بوجهه ابتسامة لم أفهمها مادا أطراف أصابعه فمددت أطراف أصابعى و فى بالى أن أقول له (ارجِعْ فَصَلِّ؛ فإنَّك لم تصلِّ( ، أشاح بوجهه ملتفتا يسارا مصافحا آخر بغير ما صافح به يدى و نبرة صوت غير الصوت ، مددت رقبتى قليلا لأرى من هذا الذى هش له فى وجهه ، انه (حاج سعيد) الذى لم يحج اصلا الى بيت الله ، حجه دائم الى باريس و نيويورك و استطنبول ، وقعت عينى على عصاته المذهبة و قد وضعها بعناية فوق سجادته المحفور نقشها المذهبة جوانبها و قد تربع متسربلا بجلباب عريض ، واضعا على رأسه عمامة بيضاء و على كتفيه شالا كأنه يحاكى هامان .أدرت رأسى سريعا ، فإذا بعينى تنظر أمامها فالتقت بعينى صديقى العائد من السفر و لم ألتقه قبلها ، الذى حاول أن ينهض من مكانه حال أن رآنى فعاجلت بالنهوض قبله متجها نحوه و عندما وصلته كان قد استقام فاستقبلنى بحضن قوى ما انفك يدغدغ أذنى بعبارات المودة و السلام و الاحترام فبادلته ما قال حتى أجلسنى بجواره مفسحا لى مجلسه ، ما هى الا هنيهة حتى سمعته يكبر و يهلل فأعجبنى صوته الندى فطفقت أردد معه و عيناى ما زالتا تجولان بين المصلين و هم ينتظرون قدوم الإمام ، تسمع لتكبيرهم و تهليلهم دوى و لبعضهم غمغمة و لأطفالهم صياح و هرجلة ، ضوضاء و سكون و قد لبسوا أجمل ماعندهم ، أغلب الجمع تزينوا و لبسوا البيض شارات الرضا .
مازلت و الجمع ننتظر الإمام ، أكبر و أهلل و قلبى يحدثنى و يسألنى بإلحاح بشأن صلاة صاحبنا الطبيب المرموق التى رأيتها ، ترى هل يجد صعوبة - وهو القارئ النهم لمراجع الطب الضخمة- أن يطالع في وقت فراغه كتاب عن صفة الصلاة؟ ، أم أنه بالأحرى يفتقد لترتيب أولوياته في يومه بل وفي عمره ؟ ، أم أنه لا يدرك أبعاد رسالته على الأرض التي خلقه الله لها؟.
أخرجتنى أصوات قادمة رافعة عقيرتها بنغم شجى يرتفع حينا و ينخفض ليعود أكثر قوة "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد " ، ثم وصل موكب الأمام و قد نهض الناس ليصطفوا فإذا بصوت عال ينادى الصلاة جامعة ، و صوت الإمام يعلوا ، استووا ، رتبوا صفوفكم لا تخالفوا فتختلف قلوبكم ، ثم كبر في الركعة الأولى سبعاً من غير تكبيرة الإحرام، وقرأ فيها بعد الفاتحة سورة الأعلى وفي الركعة الثانية كبر خمساً و قرأ سورة الغاشية ، ثم بعد الصلاة انصرف فقام مقابل الناس و هم جلوس على صفوفهم فخطب خطبة ذكَّرهم فيها و وعظهم و أوصاهم و نفسه و أمرهم بالبر و التقوى ، و الامام فى خطبته التى تحدث فيها عن الصلاة الصحيحة و كيفيتها ، جالت عيناى بين الجمع تبحث عن صاحبى الطبيب ، ترى هل استوعب هذه الخطبة ؟ فيحسن من آداء صلاته ، هل أنا نفسى .. كم منا لا يحسن الصلاة و ينقرها نقر الديك للحب و لا يتمهل مطمئنا .. كم و كم ثم كم و كم ؟ ارتجفت فإذا بيد تهزنى و أخرى ترتبت على كتفى ، ضحكة و ابتسامة و تهنئة بالعيد من هذا و ذاك فى تسابق و تسارع ، مودة ، و الناس يحتضنون بعضهم البعض ، و تغيرت المواقع تبحث عن آخرين ، فإذا بيدى تصافح الطبيب و قد بدأ من هيئته أنه لم يتحرك من مكانه الذى صلى فيه ، ابتسامته باهتة و يده تخاف السلام و عصرها بأيد الآخرين فجعل بينه و بينهم مسافة و قد غطى أنفه بمنديل أثار استغرابى و استهجانى و تساؤلى مرة أخرى أترى يخاف أنفاس الناس أم غبار نعالهم ؟ أدرت نفسى عنه بسرعة ليقابلنى صديقه (الحاج سعيد ) و قد احتضن أحدهم و بصوته فرح اللقاء ثم اتجه نحوى يبادلنى التهنئة فسر له قلبى مما جعلنى ارمق صديقه الطبيب بنظرة عجلى ..
تفرق الناس فرادى و جماعات و تحركت مواكبهم راجلين و راكبين ، فحانت منى التفاتة لأرى صاحبى الطبيب و قد ركب سيارته الفخمة فأغلق بابها على عجل، لعله أدار مفتاح التكييف .. يممت مع الناس متحدثا مع بعضهم ثم قمنا بزيارات العيد ، أدركنا الظهر و كنا قرب المسجد فدخلنا لنصلى ، كأن الطبيب أصبح همى فطفقت أبحث عنه قائلا فى نفسى لعل و عسى .. لم أره ، ثم العصر كذلك ، المغرب وصلاة العشاء و لا حتى (حاج سعيد) ، حتى اذا فرغ المصلون من صلات العشاء أول أيام العيد وصل الى أسماعهم نبأ وفاة الطبيب .
تدافع الناس نحو منزله بعضهم يردد انا لله و انا اليه راجعون ، آخرون يسألون عن سبب الوفاة و كيف مات و هو بصحة جيدة و الأقدام تتسارع لتحمل الميت إلى قبره و قد اكتظ المكان بالمشيعين و جثمان الطبيب مسجى على نعشه ينتظر الصلاة عليه و الدفن ، نظرت إليه و قلبى وجل يسأل له الرحمة و ما زال متسائلا .. هل كان يحرص على صلاته ؟ قلت فى نفسى كل أوقات هذا اليوم لم أره فى صلاة الجماعة ، كما أنه لم يحسن صلاته التى رأيت ، صمت فجأة و قد خفت أن أكون عليه شاهدا .
تحركت من مكانى نحو قبره الذى يحفر و يعد له و الناس يتعاونون فى الحفر أحدهم يصعد خارجا ليناول المعول لآخر ، صعقت حين رأيت صاحب الجلباب العريض و الشال المزركش و العطر الفواح (حاج سعيد) الذى لم يحج يوما لله و لا ابتهل و لم يصل الا صلاة العيدين ، و قد نزل الى القبر يرفض معاونة الآخرين له و هو يحفر و العرق يتقاطر و يسيل حتى ابتل ظهره و قد التصق الغبار و التراب على ثيابه المشمرة ، حتى اذا وضع الجثمان فى القبر و انهال التراب سمعنا بكاءا مرا و حارا بصوت يقطع الأكباد فتلفت أبحث عن صاحب البكاء فإذا هو (الحاج سعيد) و قد كان شاهدا على وفاة صديقه الطبيب ، ثم حكى فيما بعد كيف أنهم قد قضوا يومهم الأول فى العيد مع آخرين يتناوبون على لعب الورق و الميسر و قد جلبوا خمرتهم ليستانسوا بها مقفلين بابهم عن زيارات الأهل و الأصدقاء الا النذر ، فإذا بصاحبه الطبيب و قد تجرع أول كأسه حين أضحكه صديق معهم ، فحشرجت جرعة الكأس فى حلقه فكابد التنفس حتى زهقت روحه .
كعادتى و قبل أن يؤذن لصلاة الفجر أكون بالمسجد ، فضحكت فرحا و تهللت أساريرى بهجة و أنا أرى أحدهم و قد بادر الى المسجد على غير عادة ، (حاج سعيد) .. يقرأ من المصحف لا يهتم لأحد و لا ينشغل بالقادم و لا الجالس بجواره ، ثم بالظهر كان حاضرا حتى انقضت أيام العيد فانقطعت عنه و انقطعت أخباره ، لتعود و تخبرنا بأنه كان مع الحاجين لبيت الله و معه عشر من النفر تحمل نفقات حجهم

المصدر: أحمد مجذوب الشريفي ، الكاتب والشاعر سمير احمد القط
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 194 مشاهدة
نشرت فى 8 يونيو 2013 بواسطة SAMIRALSHEIR

مجلة (( نسمات عربية )) لشعبة المبدعين العرب

SAMIRALSHEIR
مجلة الكترونية ناطقة لحال الشعبة العامة للمبدعين العرب رئيس مجلس الادارة سمير عبد الرازق رئيس التحرير سمير احمد القط »

تسجيل الدخول

ابحث

عدد زيارات الموقع

39,406