"الإمبريقية" أو المنهج الإمبريقي في البحث, تعني اكتساب المعرفة من خلال الملاحظة, في التعرف على الأشياء والظواهر وتجريبها بواسطة الحواس, وهذه التقنية قديمة منذ قدم الحضارة, وفي الأدبيات المعاصرة تعرف بالمنهج الإمبريقي Empirical method, وهو لا يكتفي في التعرف على الأشياء والظواهر وفهمها من خلال الفكر أو التشبث أو الحدس أو السلطة, بل من الضروري فيه اختبارها بالحواس الخمسة, التي تشكل المقدمة للتوثق بها, والتي يعبر عنها بالمفاهيم أو القيم أو المقادير الإمبريقية, الخاضعة للتجربة والملاحظة المباشرة باللمس أو التحسس المادي المباشر.
الجذر اللغوي لمفردة "الإمبريقية"
تطلق بعض الأدبيات المنهجية العربية على "الإمبريقية" بالتجريبية, ترجمة لها عن اللاتينية experientia بمعنى الخبرة أو التجريبية, وباليونانية“Emperismos”.
إن المفردة الإنجليزية empiricمشتقة عن المفردة اليونانية القديمة emperia] المتشكلة من مفردتي "έυ"in , وتعني من داخل أو في, زائداً "peira" وهي بالإنجليزية trial, experiment, وتعني الخبرة أو الاختبار أو التجريب والمحاولة, وقد تحول أول المفردة الى الحرف m بما يشبه الإدغام في العربية.
وبذا يكون المعنى الحرفي للمفردة هو الاختبار الضمني في داخل التجربة, ومن الخطأ في التجربة, أو من أخطاء التجربة, وهي تتماهى مع المفردة اللاتينية القديمةa posteriore وتعني "ما بعد التجربة" مقابل المفردة اليونانية الإغريقية القديمة"proempericos ومرادفتها اللاتينية القديمة a priori, التي تعني "ما قبل التجربة".
مقاربة لمفهوم الإمبريقية والمنهج الإمبريقي
إن الإمبريقية توجه فلسفي, يؤمن أن كامل المعرفة الإنسانية تاتي بشكل رئيس عن طريق الحواس والخبرة, وتنكر وجود أية أفكار فطرية عند الإنسان, أو أية معرفة سابقة للخبرة العملية.
وعليه فإن الإمبريقية تفهم بالنقيض من الميتافيزيقية metaphysics, التي تعني ما وراء الطبيعة أو وراء الطبيعي, والتي هي صياغة لغوية عن اليونانية”metafisikos” ] أو "metafisiky", المركبة من المفردة "meta" التي تعني بعد, و"fisikos" التي تعني الطبيعي, وهي الصفة المشتقة من المفردة "fisy " التي تعني "الطبيعة". ولذا عبر فلاسفة المنهج اليوناني عن الميتافيزيقية, إنها تبدأ حيث تنتهي الإمبريقية, وذلك للفصل بين المنهج المادي الحسي التلمسي, والمنهج التصوري التخيلي.
لقد بنى كل من "آرسطوطاليس، وأبيقراط، وغالن، وكوبرنيكوس, وغاليليو, وداروين", استنتاجاتهم حول الطبيعة إلى حد كبير، من خلال ملاحظاتهم, وقد رفضوا المفاهيم غير الإمبريقية، المعززة دينياً، التي كانت شائعة في عصرهم متجاوبة مع السلطة والعقلانية, إن الباحث الذي يتبع المنهج الإمبريقي, هو الذي تشير إليه حواسه, وتقوده إلى العمل الصائب, حسب اعتقاده.
إن اعتماد المنهج الإمبريقي لوحده, في التوصل إلى المعرفة الحقيقية، غير كاف، وقد يؤدي بالبحث إلى استنتاجات خاطئة وأحياناً خطرة, بما يسمى بالإمبريقية "البسيطة" مقابل الإمبريقية "المتطورة", إذ إن اشتراط رؤية الأشياء وتحسسها بشكل مباشر كمقدمة لمعرفتها أو الإيمان بها, لا يستقم بالضرورة مع الكثير من المباحث واستنتاجاتها, إن هذا الإشكال البحثي, كان السبب في ظهور ما سمي بالإمبريقية "المتطورة".
وفي حال اقتصار النشاط العلمي والبحثي في تجميع الوقائع فقط، باتباع المنهج الإمبريقي الصارم, فإن ما يخلص إليه البحث عندئذ, ليس بمقدوره التوصل الى كيفية ترابط هذه الوقائع وعلاقتها ببعضها، وماذا يمكن أن يكون معناها.
إن للوقائع والظواهر الملاحظة, فائدة كبيرة قي البحث العلمي, حينما يعتمد البحث في ملاحظته وتنظيمه لها على الاستدلالات الجاري استنتاجها, من خلال المعاني التي تساعد في التنبوء حول مسار المظاهر الكونية والمجتمعية المحيطة, وعليه كان على الأمبريقية أن تندمج مع العقلانية ومع التفكير المنطقي، بشكل يدعم كل منهما الآخر.
يعد المنهج الإمبريقي, من أقدم مناهج البحث في التاريخ القديم, غير أن الاستخدام المعاصر الأول لهذا المنهج, كان في دراسة التأثير المباشر لوسائل الإعلام والاتصال على جمهور المتلقين, من خلال المقاربة التجريبية الإمبريقية الامريكية لدراسة تأثير السينما في المجتمع, تحت عنوان "البحث في آثار وسائل الإعلام", فكانت الخطوة الأولى, تصنيف وتقسيم المشمولين بالبحث, في محاولة قياس الآثار المباشرة للاتصال على الجمهور, وهذا المنهج ظهر في أقسام الإعلام بالجامعات, بتمويل من الشركات والأحزاب السياسية, فكان هؤلاء الممولين يطلبون من الجامعات دراسة إشكاليات محددة, ثم انتشر هذا النوع من البحوث في مجالات وتطبيقات أوسع, شملت أيضاً الدراسات المناخية والاجتماعية.