بسم الله الرحمن الرحيم

الاستهزاء بالدين وأهله

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده ، وعلى آله وصحبهِ ، ومن سار على نهجه وهَدْيِه :            أما بعدُ :
فإن الناظر في أحوال هذه الأمة – اليوم – يجد أموراً عجيبة مُنْكَرةً !! ذلك أنَّ الإنحراف في حياة هذه الأمة مُتذبْذِبٌ بين الارتفاع والإنخفاض ، بحسب بعدها أو قربها من الألتزام الجاد بهذا الدين العظيم .
وأمراض هذه الأمة كثيرة موجعة ! وما لم يشخص المرض فلن ينجح الطبيب في وصف العلاج الناجع ، ومن ثم تتفاقم الأمور حتى تصل إلى نتائج لا تحمد عقباها .
ومن الأمراض الخطيرة في حياة الأمة ، مرض (( الإستهزاء بالدين وأهله )) سواء جاءت جرثومة هذا المرض من خارج هذه الأمة أو من داخلها – وكلا الأمرين واقع – فالنتيجة واحدة في خطورته إذ يكفي فيه أنه مخرج من الملة بالكلية .

تأمل – أخي القارئ – حياة وأحوال المستهزئين والساخرين في واقعنا – اليوم – تجد عجباَ ؛ وتحس بألم وحسرة يعتصر قلبك الذي أشرق عليه نور الإيمان .

أنظر – مثلاً – إلى كلام ينشر ويقرأ لشعراء الحداثة اليوم ، حَرِيٌّ أن يسمى بـ (( الإسهال العقلي )) تجد فيه كفراً بواحاً من خلال سخريتهم بالله واستهزائهم به وبرسوله وبدينه ، تعالى ربنا وتقدس عن ذلك علواً كبيراً .

ثم تأمل أحوال كثير من الأعلاميين – وقد أصبح الإعلام اليوم سلاحاً من أخطر الأسلحة – تجد صنوفاً من السخرية والإستهزاء والضحك على ثوابتنا وقيمنا الشرعية .

• فهذا كتاب يهزأ بما بينه الله لنا في كتابه العزيز حول خلق آدم – عليه السلام – فيسخر هذا الكاتب من كلام الله ، ويزعم أن أصل الإنسان قرد !!
• وثان : يرسم (( كاريكاتيراً )) يسخر فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وزواجه بتسع نساء .
• وثالث : يضحكُ ويغمز من يَحْكُمُونَ بشرع الله أو يطالبون بتحكيم شرعه ، ويسميهم بالأصوليين – المتطرفين ، الجامدين – أصحاب القرون الظلامية الضبابية .. إلخ .
• ورابع : يسخر من الحجاب ويطالب بطرد المحجبات من الإمتحان في كلية الطب !!
• وخامس : يهزأ باللغة العربية ، ويصفها بالجمود والتحجر ، ثم يدعو للعامية أو اللاتينية بديلاً عن لغة القرآن ، ويسخر من الأدب الرفيع لهذه اللغة مطالباً بأدب الفراش والخنا (1) بديلاً من ذلك السمو والعفاف !! .
• وسادس : يسخر من إقامة الحدود الشرعية ، ويرى في إقامتها بشاعة وفظاعة . ثم يدعو للبديل ، وهو أن يتحول المجتمع إلى عصابات وقطاع طريق بإسم الحضارة وحرية الإنسان ! .

بل وصل الحال إلى أن بعض المحسوبين على الدعوة والثقافة الإسلامية يهزأ ويغمز ليلاً ونهاراً بالمتمسكين بِسُنَّةِ سيد المرسلين ، ويصفهم بأصحاب العقول المريضة والعَتَهِ والسَّفَه ، بل وسخر من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة في الصحيحين ، مثل حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم وهو صغير في بني سعد ، واستخراج جبريل – عليه السلام – لعلقة الشيطان من قلبه ، وحشوه إيماناً وكل ذلك ثابت في الصحيح على أمر وهيئة لا يستطيع العقل البشري إدراكها لقصوره وضعفه ، فيقوم هذا الساخر بإنكار هذا قائلاً : أنا رجل عقلي لا أؤمن إلا بما يصدقه عقلي ، وهل الإيمان سائل حتى نصبه في قوارير !!! .

هذه أنماط ذكرتها هنا لترى – أخي القارئ – خطورة الموضوع الذي نحن بصدده ، فإن المستهزئ لم يقدر الله حق قدره ، ولم يشعر بفداحة الجرم الذي إرتكبه وأحسب – والله أعلم – أن الإٍستهزاء بالدين وأهله لم يبحث بحثاً مستقلاً شاملاً ، يجمع شتاته ، ويكشف للناس عواره ، خاصة وإنه من الأمور التي قد تقع من الإنسان بدون قصد ! وهنا مكمن الخطر .

فإنه إن وقع بدون قصد فجرمه كبير ، وخطره على الإيمان عظيم ، وإن حصل بقصد فجرمه أكبر وأفظع ، وفي كلا الحالين لن يعذر هذا الهازل : (( قُلْ أَبالله وآياته وَرَسُولهِ كُنْتُمْ تَسْتَهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) سورة التوبة آية : 65 ، 66 .

لذا رأيت – مستعيناً بالله تعالى – أن أدلي بدلوي في بيان هذا الناقض من نواقض الإسلام ، عسى الله أن ينفع به ، وعسى هذه الأمة أن تستيقظ وتنتبه للخوارم والمزالق التي تفسد عليها أمر دينها ، وعسى أن تأخذ امتنا دينها الحق بجدية وصدق لا بسخرية واستهزاء وهزل !! فإن الأمة الهازلة لا مكان لها في واقع الحياة والناس .

وإن أمة تأخذ دينها سخرية وضحك وتهمز وتغمز الدين وأهله لهي أمة قد تودع منها (( وَحَاقَ بِهِمْ ما كاَنُوا بهِ يَسْتَهزءُونَ )) سورة هود آية 8


هذا وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وفصول ستة هي :
الفصل الأول : خطورة الإستهزاء .
الفصل الثاني : بواعث الإستهزاء .
الفصل الثالث : الإستهزاء عقبة من عقبات الدعوة إلى الله تعالى .
الفصل الرابع : صور من مظاهر الإستهزاء .
الفصل الخامس : عقوبة وجزاء المستهزئين .
الفصل السادس : موقف المسلم من الساخرين والمستهزئين .
وختاماً : أشكر ربي وأحمده كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، على مايسر وأعان وسدد ، ثم أشكر أخواني الفضلاء من أهل العلم وطلابه الذين ساعدوني بمشورة أو رأي أو فكرة أو كتاب .
أجزل الله لهم المثوبة ، ورزقنا جميعاً الإستقامة والجدية في ديننا ودنيانا .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

كتبه :
محمد بن سعيد بن سالم القحطاني
قسم العقيدة بجامعة أم القرى
مكة المكرمة – حرسها الباري


الفصل الأول : خطورة الاستهزاء

الاستهزاء خُلق من أخلاق أعداء الله ، تخلق به الكفار والمشركون ، وتخلق به المنافقون الذين احترقت أحشاؤهم على دين الله وأهله .

ولذلك كشف الله – تعالى – هذا الخُلُقَ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه . ووردت آيات كثيرة في كتاب الله تبين موقف الأنبياء والرسل من هذا الخلق الرديء وأصحابه ، بل صرحت هذه الآيات بكفر هؤلاء الهازلين المستهزئين .

وثابت من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أرحم الناس بالناس ، وأقبل الناس عذراً للناس ، ومع ذلك كله لم يقبل عذراً لمستهزئ ، ولم يلتفت لحجة ساخر ضاحك ، فحين سخر به وبأصحابه من سخر في مسيره لمعركة تبوك – كما سيأتي تفصيل ذلك – وجاء الهازلون يقولون : إنما كنا نخوض ونلعب : لم يقبل صلى الله عليه وسلم لهم عذراً ، بل أخذ يتلو عليهم الحكم الرباني الذي نزل من فوق سبع سماوات : (( قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) سورة التوبة آية : 65 ، 66 .

ولكي ندرك خطورة وفداحة ما أرتكبوه : ننظر إلى ملابسات حالهم ، فنجد أنهم قد خرجوا في الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا الأهل والأزواج والأولاد والأوطان ، وكان خروجهم في فصل الصيف ، وشدة حرارته معلومة ! وتعرضوا للجوع الشديد والعطش الأليم ، ومع هذ1 كله لم يشفع لهم حال من هذه الأحوال حين أستهزأوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة الأجلاء .

أما علماء الأمة المحمدية فقد انعقد إجماعهم – رحمهم الله – في الماضي والحاضر على أن الإٍستهزاء بالله وبدينه وبرسوله كفر بواح ، يخرج من الملة بالكلية ، ولكي يتضح لك هذا الأمر جلياً : تأمل حال المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار تجد أنهم من أشد الناس هزءاً وسخرية بالله وآياته ورسوله والمؤمنين ، وذلك أمر مخرج لهم عن الدين بالكلية قال – تعالى – عنهم :
(( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون * الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون * أولئك الذين أشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين )) سورة البقرة آية : 13 – 16 .

ومن أجل خطورة الاستهزاء فقد أبرزه العلماء – رحمهم الله – في كتاب الردة من كتب الفقه الإسلامي ، ولا شك أن الردة أعظم كفراً من الكفر الأصلي كما هو معلوم عند أهل العلم .

يقول أبن قدامة المقدسي – رحمه الله - : من سب الله – تعالى – كفر سواء مازحاً أو جاداً ، وكذلك من أستهزأ بالله – تعالى – أو بآياته أو برسله أو كتبه (1) .

وقال النووي – رحمه الله - : والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن عمد واستهزاء بالدين صريح (2) .

ونقل القرطبي – رحمه الله – عن القاضي ابن العربي – وهو يشرح موقف المستهزئين في غزوة تبوك – قوله : لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جاداً أو هزلاً ، وهو كيفما كان كفر ، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة ، فإن التحقيق أخو العلم والحق ، والهزل أخو الباطل والجهل (3) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : إن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر ، يكفر به صاحبه بعد إيمانه (4) .

أما الإمام المجدد ، الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – فقد عقد باباً في كتابه القيم كتاب التوحيد عنونه بقوله : باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول أي فقد كفر (5) .

ولعل الإمام محمد بن عبد الوهاب أبرز علماء الأمة في جعل الإستهزاء ناقضاً صريحاً من نواقض الإسلام العشرة ذكر أن الناقض السادس هو الاستهزاء بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه(6) .

هذا وممن قال بكفر المستهزئ بالدين ، سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ – رحمه الله - ، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - ، وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله - (7) .
فقد اتفقت فتاويهم على أنه كافر خارج من الملة .

ولما كان كتاب الله هو كتاب التربية الإسلامية الحقة ، فقد حذر الله – سبحانه وتعالى – المؤمنين ونهاهم عن خلق السخرية والاستهزاء ، لكي يقوم المجتمع المسلم على الصدق والحق والاحترام والجدية ، بعيداً عن عيوب الجاهلية وأخلاقها ، يقول – سبحانه - : (( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ، ولا تنابزوا بالألقاب ، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون )) . سورة الحجرات آية : 11 .

يقول ابن كثير – رحمه الله – في تفسيرها ( ينهى – تعالى – عن السخرية بالناس ، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم ، كما ثبت ذلك في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( الكبر بطر الحق وغمط الناس . ويروى (( وغمط الناس )) ، المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم ، وهذا حرام ) (8) .

ويقول الإستاذ سيد قطب – رحمه الله – في تفسير هذه الآية : ( إن المجتمع الفاضل الذي يُقيمُهُ الإسلام بهدْي القرآن ، مجتمع له أدب رفيع ، ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس ، وهي من كرامة المجموع ، ولمز أي فرد هو لمز للنفس ذاتها ، لأن الجماعة كلها وحدة ، كرامتها واحدة ، والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء الحبيب : (( ياأيها الذين آمنوا )) وينهاهم أن يسخر قوم من قوم أي رجال من رجال ، فلعلهم خير منهم عند الله ، أو أن يسخر نساء من نساء فلعلهن خير منهن في ميزان الله .

وقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير ، والرجل القوي من الرجل الضعيف ، وقد يسخر الذكي الماهر من الساذج الخامل ، وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم ، وذو العصبية من اليتيم ، وقد تسخر الجميلة من القبيحة ، والشابة من العجوز ، والمعتدلة من المشوهة ، والغنية من الفقيرة ، ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس ، فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين .

ومن السخرية واللمز : التنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها ، ويحسون فيها سخرية وعيباً ، ومن حق المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويزري به ) (9) .

وخلاصة القول : إن الاستهزاء بالدين وأهله ناقض للإيمان ، سواء كان هذا الاستهزاء خفياً أم ظاهراً .

يقول ابن تيمية – رحمه الله - : ( الاستهزاء بالقلب والانتقاص ينافي الإيمان الذي في القلب منافاة الضد ضده ، والاستهزاء باللسان ينافي الإيمان الظاهر باللسان كذلك ) (10) .


الفصل الثاني : بواعث الاستهزاء

حين يذكر الاستهزاء بالدين وأهله : يتبادر إلى الذهن سؤال بتعجب : لماذا هذا الاستهزاء ؟ ولماذا هذه السخرية ؟! .
ألسنا على الحق ؟ ألسنا من استجاب لداعي الله وآمن به ؟! .
فلماذا يسخر الناس بنا وبديننا ؟!! .
وللإجابة على ذلك أقول : إن للاستهزاء بواعث وعوامل انطوت على نفوس الهازلين الساخرين ، لعل من أهم هذه البواعث والأسباب ما يلي :
1) الكره والحقد من الملأ لهذا الدين العظيم : فإن الله – سبحانه وتعالى – جعل هذا الإسلام طريقاً وحيداً فريداً لصلاح الدنيا والآخرة (( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون )) سورة الأنعام آية : 153 . فهذا الدين ينشئ الحياة من جديد ، نشأة فريدة ، على نمط فريد عما عهده الناس .

إنه يقلب موازين الجاهلية ، لينشئ – بإذن الله – في هذه الحياة أمة متميزة في كل شئ ، متميزة في فكرها وشعورها ، وسلوكها ، وموازينها ، ومن ثم فإن هذا الأمر لن تقابله الجاهلية – في القديم أو الحديث – بسهولة وترحاب !! كلا بل ستعانده وتقاومه بكل ما أوتيت من قوة ، وبكل حقد وكراهية .

إنها تفعل ذلك ( وهي عالمة بما فيه من الحق والخير ، وبأنه هو الذي يقوِّم ما أعوج من شؤون الحياة ، وتكرهه لأنها حريصة على هذا العوج لا تريد تقويمه ، وتود أن تبقى الأمور على اعوجاجها ولا تستقيم . تكرهه لأنها هي الجاهلية .. وهو الإسلام ) (11) .
قال – تعالى - : (( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى )) سورة فصلت ، آية : 17 .

(( لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قال الملأ من قومه إنا لنراك في ظلال مبين )) سورة الأعراف ، آية : 59 – 60 .

(( وإلى عاد أخاهم هوداً قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون * قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة )) سورة الأعراف ، آية : 65 – 66 .

(( ولوطاً إذا قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون * وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون )) سورة الأعراف ، آية : 80 – 82 .

إن هذا الكره الذي تصبه الجاهلية على دين الله وعلى الملتزمين به نابع من : (( خشيتها على كيانها ومصالحها وشهواتها وانحرافاتها من النور الجديد ، فهي تحس في دخيلة نفسها مقدار ما انحرفت عن الحق ، وحكمت الهوى واستسلمت للشهوات ، وتحس مقدار ما تحرمها العقيدة الصحيحة حين تحكم الأرض من مصالح ومنافع وشهوات اختلستها اختلاساً في غيبة النور ... يستوي في ذلك الذين استكبروا والذين هم مستضعفون ، فلكل في الجاهلية مصالح ومنافع وشهوات يحرص عليها )(12) .

وحين أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس بهذا الدين حرر الناس من عبودية البشر وعُبّدوا لله الواحد الأحد ، ومن ثم أصبح الولاء لله وحده ، وليس للعشيرة أو القبيلة كما كان ولاء الجاهلية ، هذا الأمر قد أزعج الملأ الذين يريدون أن يكون الولاء لأشخاصهم وليس لله وحده .

ويأتي بعد الملأ طبقات متعددة من الأمة تكره هذا الدين وتستخدم سلاح السخرية والاستهزاء لمعارضة هذا الدين وأهله ، ومن هؤلاء كتاب وقصاصون وإذاعيون وفنانون ونساء فاجرات متحررات من كل فضيلة ، وأصحاب خمور ومخدرات وغيرهم وغيرهم . يفعلون ذلك لأن عملهم قائم على التجارة المحرمة التي إذا قام دين الله جفف ذلك المستنقع القذر الذي يعيشون في وحله ويتكاثرون في دنسه (13) . إن الحرص الشديد لأعداء الله على طمس وتشويه صورة الإسلام الناصعة أمر لا يجادل فيه إلا مكابر ، لذا لا غَرْوَ إذا استخدمت السخرية والهزء سلاحاً فتاكاً لتشويه هذه الصورة ونشر الضباب المعتم على وجهها المشرق ، ولكن الله مُتِمُّ نورِهِ ولو كره الكافرون .

2) ومن بواعث الاستهزاء :
النقمة على أهل الخير والصلاح : (( إنهم أناس يتطهرون )) سورة الأعراف ، آية : 82 . فمن المعلوم أن أهل الشر والفساد يزعجهم ويعكر صفو باطلهم وما هم عليه ذلك الطهر والعفاف الذي يتحلى به الأخيار ، لهذا يسعى أولئك المفسدون إلى تشويه سمعة أهل الخير ، ويسخرون منهم ويغمزونهم (( إنهم أناس يتطهرون )) فعلى منطق هؤلاء المفسدين لا بد من تحويل المجتمع كله إلى مجتمع رذيلة وسقوط ودنس ، أما أن يبقى في الأمة أصحاب طهر وعفة فهذا أمر لا يطيقه الأشرار (( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )) . سورة البروج ، آية : 8 .

3) ومن بواعث الاستهزاء والسخرية : الفراغ وحب الضحك على الآخرين :
فإن الإنسان حين يفقد الهدف الأسمى الذي من أجله جاء لهذه الحياة ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، حين يفقد ذلك يحس – ولا شك – بفراغ قاتل في حياته ، لذا سرعان ما يتجه لدروب الشيطان التي تملأ عليه الفراغ ، ولو كان ذلك بالاستهزاء بالله وآياته ، ورسوله ، والمؤمنين ، وبعض النفوس المريضة لا تتلذذ إلا بالضحك على الناس والاستهزاء بهم ، والسخرية بخلقتهم وأفعالهم ، والافتراء عليهم ، وقد حذر المصطفى صلى الله عليه وسلم من هذا الخلق ، فقال في الحديث الصحيح : " وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله – تعالى – ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة " (14) .

وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الضاحك المضحك الهازل بقوله صلى الله عليه وسلم : " ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم . ويل له ويل له " (15) . وفي المسند : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها من أبعد من الثريا " (16) .

أرأيت هذه النصوص العظيمة من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إنها تصور واقع كثير من الهازلين المستهزئين المضحكين ، يختلقون الأكاذيب وأساليب الغمز واللمز بالمؤمنين والمؤمنات ليضحك أحدهم ويضحك الآخرين ، وكم ضاحك بملء فيه والله ساخط عليه ، فحسبنا الله ونعم الوكيل .

4) ومن بواعث الاستهزاء :
الكبر والنظر للنفس بالعجب والإكبار ، وللغير بالمهانة والاحتقار ، وقد ضرب الله على ذلك أمثلة في كتابه العزيز منها ما في سورة الكهف في قصة الرجلين حيث قال أحدهما للآخر : (( أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً )) سورة الكهف ، آية : 34 . وفي هذا الخلق المذموم يقول العلامة السفاريني : (( المستهزئ بغيره يرى فضل نفسه بعين الرضا عنها ، ويرى نقص غيره بعين الاحتقار ، إذ لو لم يحتقر غيره لما سخر منه ))(17) . ثم يقول : (( كل من افتخر على إخوانه واحتقر أحداً من أقرانه وإخوانه أو سخر أو استهزأ بأحد من المؤمنين ، فقد باء بالإثم والوزر المبين )) (18) . وخلق الكبر الممزوج بالاستهزاء بالغير من أخلاق فرعون قال الله – تعالى – عنه إنه قال عن نبي الله موسى – عليه السلام - : (( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين )) سورة الزخرف ، آيه 52 .

يقول العلامة ابن كثير : (( وهذا الذي قاله فرعون – لعنه الله – كذب واختلاق ، وإنما حمله هذا على الكفر والعناد ، وهو ينظر إلى موسى – عليه السلام – بعين كافرة شقية ، وقد كان موسى – عليه السلام – من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر أبصار ذوي الألباب . وقوله : ( مهين ) كذب ، بل هو المهين الحقير خلقة وخلقاً وديناً ، وموسى هو الشريف الرئيس الصادق البار الراشد )) (19) .

(( وعند الجماهير الساذجة الغافلة لا بد أن يكون فرعون الذي له ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته خيراً من موسى – عليه السلام – ومعه كلمة الحق ومقام النبوة ودعوة النجاة من العذاب الأليم )) (20) .

إن حب الظهور والرياء والسمعة على حساب الآخرين خلق من أخلاق ذوي السخرية والاستهزاء وأصحاب النفوس المريضة ، فهم كالنباتات السامة الضارة التي تتسلق على الأشجار الباسقة والثمرات الطيبة لتفسدها وتشوه صورتها .

ولهذا لا غرابة أن نجد أصحاب الكبر والإعجاب بالنفس يتخلقون بخلق السخرية وغمز ولمز المؤمنات لما انطوت عليه تلك النفوس الشريرة .

5) ومن بواعث الاستهزاء :
التقليد الأعمى لأعداء دين الله ، حدث هذا في الماضي ، فقال الله فيهم : (( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون )) سورة الذاريات ، آية : 52 – 53 .
( كأنما تواصوا بهذا الاستقبال على مدار القرون ، وما تواصوا بشيء إنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد تجمع بين الغابرين واللاحقين ) (21) .

ويحدث هذا في الحاضر ممن مسخت عقولهم وفتنوا بالحضارة الغربية ، ذلك أن انبهارهم بزيف وبريق هذه الحضارة وضحالة فكرهم ، وقلة ثقافتهم بدينهم ، جعلهم ينعقون بالسخرية والاستهزاء بدين الله وأحكامه وشرائعه وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم فإذا رأيت أو سمعت يهودياً أو صليبياَ يهزأ بشرع الله ويقول : إن رجم الزاني فيه وحشية وقسوة وجدت له تابعاً وإمَّعَةً من أبناء المسلمين يردد بسخرية مقالة ذلك العدو الأصلي ، وإن أردت مزيد إيضاح فتأمل موقف هؤلاء المقلدة من المخترعات الغربية وغيرها ، تجدهم يمجدونها وينبهرون بها ، وإذا ذكرت السنن النبوية ومعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمور الشرعية التي يعجز العقل البشري عن إدراكها ، سمعت منهم الغمز واللمز ، والاستهزاء (( أتواصوا به بل هم قوم طاغون )) وقد قال ربنا عن هؤلاء المقلدة إنهم قالوا : (( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون )) سورة الزخرف ، آية : 23 .

6) ومن بواعث الاستهزاء :
حب الدرهم والدينار وتحصيل المال بأي صورة كانت ولو أدى ذلك إلى الكفر بالله !! .
ونلحظ هذا الأمر في طائفة ( الممثلين ) في العصر الحاضر الذين يقدمون للناس أفلاماً ومسرحيات هزلية ، ويستجلبون الضحكات وكل ذلك ليرتزقوا من وراء هذا العمل الدنس ، ولهذا لا تعجب وأنت تقرأ في الصحافة عن الأرقام الضخمة التي تصرف لهؤلاء المهرجين والهازلين المشهورين بهذه المهنة . فقد أصبحت السخرية وإضحاك الآخرين فناً وبطولة ونجومية عند من لا يعقلون !!! والأدهى من ذلك أن بعض الذين يعلقون يعجبون بهذا السفه ويرددونه في مجالسهم ومنتدياتهم !! هذه أهم البواعث في نظري وقد يكون هناك أمور أخرى لا تخفى – إن شاء الله على فطنة القارئ الجاد .


الفصل الثالث : الاستهزاء عقبة من عقبات الدعوة إلى الله تعالى

يشكو كثير من الدعاة من عنت الاستهزاء والمستهزئين ، ولكنهم حين يتأملون سيرة الأنبياء والرسل – عليه الصلاة والسلام – وهم أشرف خلق الله – يجدونهم قد استهزئ بهم وسخر منهم ، فيكون في ذلك عزاء لهم مما يلاقونه من هؤلاء الساخرين ، قال – تعالى - : (( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً )) سورة الفرقان ، آية 31 . ويقول – سبحانه - : (( وكم أرسلنا من نبي في الأولين * وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزءون )) . سورة الزخرف ، آية 6 – 7 ويقول – سبحانه - : (( ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون )) . سورة يس ، آية 30 .

هذا نبي الله نوح – عليه الصلاة والسلام – الذي دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يقابل بالسخرية والاستهزاء ، فقومه يضحكون به ويسخرون منه حين رأوه يصنع السفينة ؛ قال الله – تعالى - : (( ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم )) . سورة هود ، آية : 38 – 39 .

وقال – تعالى – عنهم إنهم قالوا : (( ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين * إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين )) (22) سورة المؤمنون ، آية 24 – 25 .

ونبي الله هود – عليه السلام – أرسله الله إلى عاد فسخروا منه وقالوا : (( أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ماكان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين )) سورة الأعراف ، آية : 70 . (( قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء )) سورة هود ، آية 53 – 54 .

ونبي الله صالح – عليه السلام – أرسله الله إلى ثمود فأجابوه بهذا الجواب : (( قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون * قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون * فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين )) سورة الأعراف ، آية : 75 – 77 .

وهذا نبي الله لوط – عليه السلام – أرسله الله إلى قومه فنهاهم عن فاحشة اللواط ، وإتيان الرجال شهوة من دون النساء فأجابوه بـ (( وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون )) سورة الأعراف ، آية : 82 . وفي سورة النمل ، آية : 56 . جاء قوله – تعالى - : (( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون )) .

وهذا شعيب – عليه السلام – يقابله قومه بالسخرية والإستهزاء فيصبر ويحتسب قال الله عنهم : (( قالوا ياشعيب أصلاتك تأمرك أن تترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد )) سورة هود ، آية 87 .

يقولون هذا على سبيل الإستهزاء والتنقص والتهكم (23)

أما نبي الله موسى – عليه السلام – فقد قوبل بسخرية لاذعة واستهزاء مهين من بني إسرائيل قال – تعالى - : (( وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين )) سورة البقرة ، آية 67 .
قال ابن عطية – رحمه الله – في معنى قوله : (( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين )) يحتمل معنيين : أحدهما الاستعاذة من الجهل في أن يخبر عن الله – تعالى – مستهزئاً .

والآخر من الجهل كما جهلوا في قولهم : (( أتتخذنا هزواً )) لمن يخبرهم عن الله – تعالى - (24) .

أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد لاقى من الاستهزاء والسخرية ما تتفطر له القلوب ، واجه صلى الله عليه وسلم سخرية قبائل العرب المشركين في الفترة المكية ، وواجه سخرية واستهزاء المنافقين واليهود في الفترة المدنية – قال تعالى - : (( وإذا رءاك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون )) سورة الأنبياء ، آية : 36 .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : ( فاستهزأوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك ، ومازال المشركون يسبون الأنبياء ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون ، إذا دعوهم إلى التوحيد ، لما في أنفسهم من عظيم الشرك وهكذا تجد من فيه شبه منهم إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك ، لما عنده من الشرك ) (25) .

ويقول – سبحانه – عنهم : (( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي بعث الله رسولاً * إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً )) سورة الفرقان ، آية : 41، 42 .

قال ابن اسحاق : ثم أن قريشاً اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم ، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم سفائهم فكذبوه وآذوه ، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون .. مر بهم صلى الله عليه وسلم طائفاً بالبيت فغمزوه ببعض القول فعرف ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم ثم مر بهم ثانية فغمزوه ، ثم الثالثة بمثلها فوقف ثم قال : أتسمعون يامعشر قريش ، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ، فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع (26) .

وقد وصف الله همزهم وغمزهم بله صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه - : (( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقوك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون )) سورة القلم ، آية 51 .

وهكذا الدعاة إلى شرعه وسنته ، يلاقون الاستهزاء والسخرية وتلك سنة باقية إلى يوم الدين .

ولهذا فإن عقبة الاستهزاء تصدم بعض الدعاة وآخر تفت في عضده وآخر تقهقره وتجنبه وآخ لا تزيده إلا صلابة في الحق وإصراراً على الاستمرار في منهج الإصلاح ومقاومة الباطل وهذا النمط الأخير هو الذي تحتاجه الأمة ، وهو زاد الدعوة إلى دين الله الحق لأن صاحبه ينظر إلى أقوال الأنبياء والرسل – كما مرت بك آنفاً – فيعلم ويستيقن أنه وارث لتركتهم وهم لم يخلفوا للناس إلا دعوة الخير والتوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتثاث الفساد من الأرض ، ولهذا لا يعبأ بهذا الاستهزاء ولو كدر خاطره فإنه من الأذى الذي لا بد منه في سبيل الدعوة ، ولهذا فقد ربح بيعه لا يقيل ولا يستقيل .


الفصل الرابع : صور من مظاهر الاستهزاء

تتنوع مظاهر الاستهزاء حسب ما يصدر من المستهزئ أو الساخر فقد تكون السخرية بالكلام ، وهذا النوع أكثر من أنواع الاستهزاء قديماً وحديثاً . وقد تكون السخرية بالإشارة غمزاً بالعين ، أو إخراج اللسان وقد تكون بحركة اليد .

ونظراً لكثرة صور الاستهزاء فقد قسمت هذا الفصل إلى المباحث التالية
المبحث الأول : صور الاستهزاء بالله – سبحانه وتعالى - .
المبحث الثاني : صور من الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
المبحث الثالث : صور من الاستهزاء بشعائر الإسلام وسنن سيد الأنام .
المبحث الرابع : صور من الاستهزاء بالمؤمنين .

وإليك بيان ذلك :

المبحث الأول
صور من الاستهزاء بالله - سبحانه وتعالى –

إن من بدهيات الدين : أن الله – سبحانه وتعالى – واحد ، أحد ، فرد ، صمد ، لم يلد ولم يولد ، أول بلا إبتداء آخر بلا انتهاء ، هو القوي العزيز ، الجبار الكبير ، المتعال ، الذي لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء ، له صفات الكمال والجلال : (( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير )) سورة الشورى ، آية 11 .

غير أن الذين كفروا بالله لم يقدروا الله حق قدره ، فكان من أقبح كفرهم الاستهزاء بالله – سبحانه وتعالى – والسخرية به نعوذ بالله من ذلك – ومن صور الاستهزاء بالله مايلي :

1) مايقوله الماديون الملحدون ( لا إله ، والكون مادة ، والطبيعة تخبط خبط عشواء ولا حدّ لقدرتها على الخلق ) (27) .
ويمثل هذه الصورة كل شيوعي ماركسي مادي ، ولو نطق بالعربية الفصحى ! .

2) تربى على الفكر المادي الإلحادي شرذمة من الناطقين باللغة العربية ، وجاءوا بغثاء من القول سموه شعراً حراً أرادوا من خلاله التمرد على كل ثوابت هذه الأمة فسخروا بالله واستهزأوا به وتجرأوا جرأة لم يكد يسبق إليها ، وحين تقرأ كلامهم تجد كفراً بواحاً تقشعر منه الجلود ، وإليك أمثلة من كلام هؤلاء :
• يقول عبد العزيز المقالح الذي هو من روادهم – وبعض الببغاوات لدينا يصفه بنبي الحداثيين - : (( صار الله رماداً ، صمتاً رعباً في كف الجلادين . حقلاً ينبت سبحات وعمائم بين الرب الأغنية الثروة والرب القادم من هوليوود ، كان الله قديماً حباً ، وكان نهاراً في الليل أغنية تغسل بالأمطار الخضراء تجاعيد الأرض )) (28) .

3) ومن الاستهزاء بالله – تعالى – ما قاله الشيوعي الحداثي عبد الوهاب البياتي :
(( الله في مدينتي يبيعه اليهود ، الله في مدينتي مشرد طريد ، أراده الغزاة أن يكون لهم أجيراً شاعراً قواداً ، يخدع في قيثارة المذهب العباد لكنه أصيب بالجنون ، لأنه أراد أن يصون زنابق الحقول من جرادهم أراد أن يكون .. )) (29) .

هل سمعت كفراً واستهزاء وسخرية بالله كهذه السخرية ؟! تعالى الله عما يقول المجرمون علواً كبيراً ثم ما أسم هذا الزنديق ؟ عبد الوهاب !! .

4) أما شاعر المزبلة الفكرية نزار قباني فاسمعه يقول في قصيدة بعنوان أصهار الله :
وهل غلاء الفول والحمص والطرشي والجرجير شأن من شؤون الله ؟!! (30) .
(( ياإلهي … إن تكن رباً حقيقياً فدعنا عاشقينا )) (31) .

5) وشيوعي حداثي آخر اسمه محمود درويش يقول :
نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير (32) .

6) أما كبيرهم الذي علمهم السحر بدر شاكر السياب فهو القائل :
فنحن جميعاً أموات . أنا ومحمد والله وهذا قبرنا أنقاض مئذنة معفرة ، عليها يكتب اسم محمد والله (33) . ثم يقول : (( وإن الله باق في قرانا ما قتلناه ، ولا من جوعنا يوماً أكلناه )) (34) . تعالى الله وتقدس عن هذا الكفر والنقائص !!! .

هذا غيض من فيض مما ينعق به هؤلاء الملاحدة ثم بعد ذلك يمجدون ويحمدون ويرفع شأنهم ولكن لا عليك فإن ربك – سبحانه – يقول : (( ومن يتولهم منكم فإنه منهم )) سورة المائدة ، آية 51 .

المبحث الثاني
صور من الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه

إن الله – سبحانه وتعالى – قد عظَّم قدر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمر بطاعته ، ورد الأمر إليه فقال – سبحانه وتعالى – (( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )) سورة الحشر ، آيه 7 . وقال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً )) سورة النساء ، آية 59 . ويقول تعالى : (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً )) سورة النساء ، آية 65 .

هذا النبي الكريم – صلوات الله وسلامه عليه – لا يجوز غمزه ولا الاستهزاء به ، فمن فعل ذلك فقد كفر بالله وخرج من الملة ، وإليك طرف من صور الاستهزاء بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .

1) في غزوة تبوك التي حل بالمسلمين فيها من النصب والتعب والجوع والعطش الشئ الكثير : استهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم من استهزأ ، فنزل الوحي من فوق سبع سماوات يعلن كفر هؤلاء المستهزئين : قال تعالى : (( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين )) سورة التوبة ، الآيتان 65 ، 66 .
ورد في سبب نزولها عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : قال رجل من المنافقين : ما أرى قرآءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً ، وأكذبنا ألسنة ، وأجبننا عن اللقاء ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ارتحل وركب ناقته فقال : يارسول الله ؛ إنما كنا نخوض ونلعب فقال : (( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون )) إلى قوله (( مجرمين )) . وإن رجليه لتنسفان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنسعة رسول الله صلى الله عليه وسلم (35) .

وقال قتادة : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وبين يديه ناس من المنافقين إذ قالوا : أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها ؟ هيهات هيهات له ذلك !! فأطلع الله نبيه على ذلك ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : (( احبسوا علىَّ الركب )) فأتاهم فقال : (( قلتم كذا وكذا )) ، فقالوا يارسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (36) .

قال ابن إسحاق : ( وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بني عمرو بن عوف ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشن بن حميّر يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون أن جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً ؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال ، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين ، فقال مخشن بن حميّر : والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة وإنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما بلغني – لعمار بن ياسر : (( أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ، قلتم كذا وكذا )) فانطلق إليهم عمّار فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت – ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على راحلته ، فجعل يقول – وهو آخذ بحقبها - : يارسول الله ؛ إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله – عز وجل - : (( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب )) .

فقال مخشن بن حمير : يارسول الله ؛ قعد بي اسمي واسم أبي فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشن بن حمير فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله أن يُقتل شهيداً لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر ) (37) .

2) ومن صور الاستهزاء : ماحدث – أيضاً – في الطريق إلى تبوك حيث ضلت ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال زيد بن اللُّصيت – وكان منافقاً - : أليس يزعم أنه نبي ، ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن رجلاً يقول وذكر مقالته ، وإني والله لا أعلم إلا ماعلمني الله ، وقد دلني الله عليها ، هي في الوادي في شِعْب كذا وكذا ، وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها فذهبوا فأتوه بها (38) .

3) ولقد تبجح المستهزءون برسول الله صلى الله عليه وسلم في عصرنا الحاضر بألفاظ كفرية ملحدة ، تقشعر منها الأبدان ، ومن ذلك شعراء الحداثة – إن كان يصح تسميتهم بشعراء – فقد وقعوا فريسة للأفكار الإباحية الكفرية التي استوردت من مذاهب أدبية غربية وشرقية كافرة .

إنهم من بني جلدتنا ويتسمون بأسمائنا ، وهم أخطر على ديننا من أعدائه الأصليين ، هذا شويعر اسمه محمد جبر الحربي يقول وبئس ما يقول :
أرضنا البيد غارقة
طوف الليل أرجاءها
وكساها بعسجده الهاشمي
فدانت لعاداته معبدا . (39)

ترى هل عرفت هذه الأرض غير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الهاشمي الذي أخرج الله به هذه الأمة من الجاهلية إلى الإسلام ، ثم يتجرأ هذا الوغد فيطلق على ديننا اسم الليل والظلام ؟!! .

4) ومن صور الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم ما رسمه صلاح جاهين رسام الكاريكاتير المعروف حيث صور صورة هزلية في جريدة الأهرام رسم فيها رجلاً بدوياً يرمز به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب حماراً في وضع مقلوب ليكون رمزاً للرجعية ، وفي أرضية الصورة ديك وتسع دجاجات وعنوان الرسم محمد أفندي جوز التسعة (40) . وهذا من أقبح الهجوم والاستهزاء والسخرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

5) ومن السخرية بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما هزأ به محمد الغزالي حيث أورد حديث : (( لن يفلح قومٌ ولَّوْا أمرهم امرأة )) . يسخر من هذا الحديث ، ويذكر أن بلقيس وفكتوريا وأنديرا غاندي وجولدا مائير قد أفلحن بأممهم إلى آخر ما ذكر (41) مع أن الحديث مخرج في صحيح البخاري .

6) ومن السخرية برسول الله صلى الله عليه وسلم السخرية بالرجال الذين حملوا دينه ، ومن ذلك أن غِرّاً حداثياً كتب ساخراً يقول : حدثنا محبط بن محبط عن جاهل (42) !! .

وزميل له يقول : حدثنا الشيخ إمام عن صالح عبد الحي عن سيد بن درويش عن أبيه عن جده (43) . وهذا منتهى الجرأة على حملة دين الله الذين هم رجال الإسناد ، تلك المفخرة العجيبة لهذه الأمة التي لم تستطع أمة في الأرض ، أن تنال مثل شرف علم الرواية وتمحيص رجال الإسناد للأقوال فكانت هذه المنقبة مأدبة سخرية عند دهاقنة العبث والإلحاد .

7) كان عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – دقيق الساقين ، وقد خرج في أحد الأيام يجتنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكاً من الآراك ، وكانت الرياح تكفؤُهُ بسبب دقة ساقيه فضحك القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفسي في يده لهما أثقل في الميزان من أحد )) (44) .

8) وهذا كاتب ساخر يهزأ بأبي ذر الغفاري – رضي الله عنه – فيقول : ( عادل إمام مثل أبي ذر الغفاري ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث يوم القيامة وحده ) (45) . وهكذا يُشَبه رمز من رموز العفن الفني وأصحاب السقوط الأخلاقي وسفِلةِ الناس بأصحاب رسول الله الأبرار الأطهار ؟! .

المبحث الثالث
صور من الاستهزاء بشعائر الإسلام وسنة سيد الأنام

قال الله تعالى : (( ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً )) سورة الكهف ، آية 56 . وقد ذكر العلماء أن الاستهزاء بآيات الله وشرعه من أشد أنواع التكذيب (46) . وقال تعالى : (( بل عجبت ويسخرون * وإذا ذُكِّروا لا يذكُرُون * وإذا رأوا آية يستسخرون )) سورة الصافات ، الآيات 12 ، 14 .

إن الحقيقة المرة التي نشاهدها اليوم هي أن الاستهزاء الفاضح والسخرية اللاذعة بدين الله وشريعته وسنة نبيه واضحة لكل ذي عينين وسأضرب أمثلة لهذه الصورة المشينة والتي تلتقي كلها على حرب دين الله وهدمه .

1) الاستهزاء ببعض مسائل عقيدة أهل السنة والجماعة كبعض الصفات الثابتة – لربنا – سبحانه وتعالى كالاستواء والنزول والغضب والرضى واليدين ، وغير ذلك مما هو في حكم المعلوم ب

المصدر: صيد الفوائد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 111 مشاهدة
نشرت فى 5 فبراير 2013 بواسطة MuhammadAshadaw

بحث

تسجيل الدخول

مالك المعرفه

MuhammadAshadaw
مكافحة اضرار المخدرات والتدخين ومقالات اسلامية وادبية وتاريخيه وعلمية »

عدد زيارات الموقع

938,415

المخدرات خطر ومواجهة

مازال تعاطي المخدرات والاتجار فيها من المشكلات الكبرى التي تجتاح العالم بصفة عامة والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة وتعتبر مشكلة المخدرات من أخطر المشاكل لما لها من آثار شنيعة على الفرد والأسرة والمجتمع باعتبارها آفة وخطراً يتحمل الجميع مسؤولية مكافحتها والحد من انتشارها ويجب التعاون على الجميع في مواجهتها والتصدي لها وآثارها المدمرة على الإنسانية والمجتمعات ليس على الوضع الأخلاقي والاقتصادي ولا على الأمن الاجتماعي والصحي فحسب بل لتأثيرها المباشر على عقل الإنسان فهي تفسد المزاج والتفكير في الفرد وتحدث فيه الدياثة والتعدي وغير ذلك من الفساد وتصده عن واجباته الدينية وعن ذكر الله والصلاة، وتسلب إرادته وقدراته البدنية والنفسية كعضو صالح في المجتمع فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله بل أشد حرمة من الخمر وأخبث شراً من جهة انها تفقد العقل وتفسد الأخلاق والدين وتتلف الأموال وتخل بالأمن وتشيع الفساد وتسحق الكرامة وتقضي على القيم وتزهق جوهر الشرف، ومن الظواهر السلبية لهذا الخطر المحدق أن المتعاطي للمخدرات ينتهي غالباً بالإدمان عليها واذا سلم المدمن من الموت لقاء جرعة زائدة أو تأثير للسموم ونحوها فإن المدمن يعيش ذليلاً بائساً مصاباً بالوهن وشحوب الوجه وضمور الجسم وضعف الاعصاب وفي هذا الصدد تؤكد الفحوص الطبية لملفات المدمنين العلاجية أو المرفقة في قضايا المقبوض عليهم التلازم بين داء فيروس الوباء الكبدي الخطر وغيره من الأمراض والأوبئة الفتاكة بتعاطي المخدرات والادمان عليها.